سلام عليك يا تويسيت…4
تسعة عشر سنة بالتمام والكمال,تلك هي المدة التي قضاها والدي في بلاد الألمان.كان يعود الى أرض الوطن في كل عطلة سنوية,اثنان منها كانت الى مدينة تويسيت,أما الباقي منها فكانت العودة الى مدينة وجدة.
لا زلت أذكر العودة الثانية الى مدينة تويسيت,عودة من أجل الرحيل الى مدينة وجدة,الى السكن الجديد الذي ابتاعه ابي من أجل متابعة دروسي,وهي العطلة التي لا تنسى ابد الدهر,لأنها عطلة فراق بينه وبين أعز صديق وأخلصهم,انه حصانه الذي عايشه لعقود من الزمن.
فراق ممزوج بالبكاء والشجن,فراق ينفطر منه القلب,خاصة وأن الحصان بيع الى أحد الجزارين بمدينة وجدة,لأانه اصيب بجروح على مستوى الركبتين,ولم يعد قادرا على الجري والفروسية.
بيع الحصان الشامخ,ليقدم لحمه للزبائن في السوق المغطى,فكانت نهاية لا يطفئ لهيبها دمع ولا عبرات,سوى الايمان بأنها سنة الحياة.
كنا نحسب والدي يعيش في جنة بالمانيا,خاصة ونحن نتلقى منه الهدايا النفيسة,بعد كل عودة الى ارض الوطن,ورجوع الى الديار:ساعات يدوية,اقمصة رائعة,مسجلات متقنة الصنع,ولم نكن نعلم معاناته في غياهب المناجم,عشرون سنة تقريبا بمدينة الأجداد,ومثلها في مدينة /ايخن الألمانية/الا بعد أن ادركته يد المنون بالديار المقدسة,بأم القرى,وهو يؤدي مناسك الحج برفقة والدتي,حيث سلمت لها شهادة طبية من مستشفى الملك فيصل ,تثبت أسباب الوفاة,ولم تكن تلك الأسباب سوى ضيق في التنفس من مخلفات المعادن التي غزت شرايينه وصدره الرحب.
كانت تلك الوفاة المفجعة,قبل عودته الى ارض الوطن بيوم واحد,وقد انهى مناسك حجه كلها.
رحم الله ابا كافح من أجلنا,وظل كالشمعة التي تحترق لتعطي النور للاخرين.رحم الله ابا لم يكافح من اجلنا نحن ابناءه فقط,بل كد وجد من أجل مجموعة من الايتام رباهم في كنفه,ولا زالوا الى يومنا هذا يحسبونه والدهم,ويحسبوننا اخوانهم.
ذهب الفارس المغوار,وما يحز في أنفسنا أننا لا نعلم مكان قبره,كما يعلم الناس قبور ابائهم وأمهاتهم,وذهب قبله الحصان المذبوح الى دار البقاء,ولم يبق من بعدهما سوى ذكريات رسماها في خمائل الدوار,على سفوح جبل غيران الفيجل,وعلى مشارف مدينة تويسيت الرائعة.
ذكريات قلدناها نحن الصغار انذك,بعيدان القصب والكلخ,وعلب حليب نيدو,وهي الاخرى أصبحت كالسراب,بعدما تفرق الخلان الى جهات ووجهات مختلفة,ولكنها تتوحد في نفس الألم,ألم الفراق والفطام والابتعاد عن مدينة تويسيت,مدينة الأجداد والأسلاف الكرام.
انك في القلب يا تويسيت,ليس في قلبي أنا وحدي,بل في قلوب اطفال كثر مروا من هناك,ذكرياتهم تختلف عن ذكريات الرغيف البابس والشاي البارد في قنينات السيرو,ذكريات سردوها على مسمعي,ممزوجة بزفرات تنبعث من الأعماق,لأنهم يحسون نفس الألم الذي أحسه,فليتك يا تويسيت تذكرين أحدهم,وهو صديق الطفولة والرجولة,انه الأخ حميداش بنعلي,الذي يبكي فراقك بدمع ساخن,كما أبكيك,وصدق فيك وفيه قول الشاعر:
وقد زعموا أن المحب اذا دنا يمل // وأن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا // على أن قرب الدار خير من البعد
1 Comment
» رب أخ لم تلده أمك »
كلانا رأى النور في شهر مارس من سنة 1955 بقرية سيدي بوبكر . لم نرضع من نفس الثدي لكننا كنا – في غالب الأحيان – نأكل في نفس الصحن و من نفس الطعام .عرف اليتم و هو لا يزال طفلا يافعا ، فوالده – رحمه الله – توفي في حادثة مأساوية في باطن المنجم و عمره لا يتعدى 30 سنة ، لا زلت أتخيل هذا الأب بقامته الممشوقة كنخلة من نخيل تافلالت (أصله من هذه الربوع الطيبة ) و هو يسوق سيارته » التراكسيون » سوداء اللون ، و لعله الوحيد الذي كان يمتلك هذه السيارة بالقرية . كبرنا و أصبحنا أبوين و جدين و لا زال الواحد منا ينادي الآخر : أخي . فرغم المسافات التي فرقت بيننا – هو في فاس و أنا في وجدة – نحمد الله على وسائل الاتصال الحديثة التي تسمح لنا بالتواصل مرة أو مرتين كل أسبوع : إنه أخي نجيب الزغيبي الذي تجمعني و إياه ذكريات الطفولة بالقرية السعيدة سيدي بوبكر . فنعم الأخ و نعم الذكريات .
أستغل هذه الفرصة لأجدد الرحمات على زميلي في العشرة بالناظور أواخر سبعينيات القرن الماضي المرحوم محمد جيمل ابن قرية تويسيت مفتش مادة اللغة الفرنسية الذي سرقته أيدي المنون و هو لا يزال في أوج عطائه بمشيئة القدرة الإلاهية التي لا مرد لقدرها . فاللهم جدد عليه رحماتك و ألحقنا به مسلمين مطمئنين طائعين .