الجنازة في بني ادرار
بني ادرار قرية صغيرة تتربع على الحدود الشرقية للمملكة المغربية تركيبتها السكانية عبارة عن قبائل متعددة ولكنها غير متنافرة بل متضامنة خصوصا عند النوائب والمصائب. لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف .تتشبث بالعادات والتقاليد ذات الصبغة الجماعية كالأعراس والمواسم الدينية [ أو ما يعرف بالوعدة ] والجنائز وتبدي فيها تضامنا قل مثيله في البلاد كلها .
يطلق مفهوم الجنازة في المصطلح العامي على الميت وما يصاحبه من تجهيز وطقوس من وقت موته إلى وقت دفنه .والموت مفهوم غامض نستشعره في ذواتنا ولكن نعجز عن تشخيصه وترجمته إلى واقعنا ,نعرف أنه يقين وينتظرنا ,ولابد منه ,ولكن نجهل موعده ,نتعامل معه يوميا في شكل الآخر ولكن ننسى أننا سنموت . للموت تعريفات عديدة بل هي في منظوري تعريفات للميت وليست للموت ,كقولنا الموت هو انفصال الروح عن الجسم .أو هو نقيض الحياة .أو هو تحلل ترابي .أو هو الفاصل بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى .أو الموت هو عدم ,عدم الوجود, عدم الوعي والإدراك ,عدم كل ما يرتبط بالجسد من حركة وتغذية وتفكير ,وحرارة ….والعدم نوعان سلبي وإيجابي ,فالسلبي هو العدم المعدوم أما الإيجابي فهو وجود شيء ما اسمه العدم .فأيهما الموت؟
والقرآن الكريم تحدث عن الموت كيقين وكنقلة نوعية من حياة فانية إلى أخرى باقية خالدة, وليس كما يعتقد الدهر يون من حياة إلى فناء ينتهي عنده كل شيء. [نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر] .لم يحدثنا القرآن الكريم عن خصائص الموت ,وعن صفاته, وموعد زيارته وما يفعله بالجسد وعن سكرات الموت وما يعانيه الميت أثناء موته فهذه أمور تتعلق بالإيمان لا بالعقل المحدود بحدود المكان والزمان .
لن أتحدث عن الموت كظاهرة غيبية يقينية [واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ][كل نفس ذائقة الموت ] ولا عن مشاهدة الاحتضار ومعانات الميت من سكرات الموت ,وما يصاحب ذلك من حصرة ولوعة وضيق وعجز…[ حتى إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين] وإنما عن الجنازة وما يصاحبها من طقوس وعادات في قرية نائية قد لا يعبأ بها أحد . الموت طعمه مر لا يسلم من مذاقه أحد, فكلنا تعرض لمرارته بموت عزيز عليه, أو قريب له… وإن كانت هذه المرارة تختلف باختلاف المصلحة والمنفعة التي كان الميت يقدمها قبل رحيله الأبدي .إذا كان الشائع أن التعامل مع الميت وجنازته يختلف باختلاف التراتب الاجتماعي والطبقي وسن وعمر المتوفى وجنسه وثقافته وتدينه …فإن قرية بني ادرار تحرص على إظهار ما عندها من تضامن مع أهل الميت بغض النظر عن كونه من قبيلة معينة أو طبقة معينة أو كان رفيعا أو وضيعا فقيرا أو غنيا …بمجرد ما يشاع خبر الموت حتى يهرع الكل لتأدية واجب الجنازة ,فمنهم من يقوم بتجهيز الجنازة, ومنهم من يستدعي الأقارب والأباعد وكل من له صلة بصاحب الجنازة ويحدد معهم موعد الفن ويهيئ الطعام في كل منزل لاستقبال المعزين بعد الدفن فكل من حضر الجنازة لابد أن يطعم في بيت من بيوت أهل القرية وقد لا يجد أحدهم من يرافقه إلى بيته فيترجى جاره أن يقتسم معه ضيوفه ممن حضر مراسيم الدفن.
بعد تغسيل الجنازة وتجهيزها تنقل مباشرة إلى المسجد الذي يمتلئ بالمصلين على غير عادته أما الذين لا يصلون من النساء والرجال وبعض الأطفال فينتظرون خارج المسجد,وبعد صلاة الراتبة يصلى على الجنازة وبعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تحمل الجنازة على الأكتاف وتوضع في سيارة مكشوفة أو شاحنة صغيرة يركب فيها إلى جانب الجنازة بعض حفظة القرآن يرددون لاإلاه إلا الله محمد رسول الله يتبعهم الراجلون والراكبون الكل يسرع خلف الجنازة وليس أمامها كما في السنة النبوية , وجهته المقبرة والتي قد يكون الميت اختارها في حياته حتى ولو كانت بعيدة ,فرغبته محترمة .وعند باب المقبرة ,تقف بعض النساء العجائز آلاتي رافقن الجنازة من بعيد ويدخل الرجال فقط إلى المقبرة فيتجمهر بعضهم حول القبر وإعداده للدفن مادا يد المساعدة بينما يجدها الآخر مناسبة لزيارة الموتى من أقاربه ويترحم عليهم ويقينا يكون هؤلاء يتساءلون في أنفسهم عما يجري داخل هذه القبور وهل أصحابها يسمعونهم وينظرون إليهم وهل يستفيدون من دعائهم وترحمهم ويودون لو استطاعوا التحدث إليهم…؟ ولكن هيهات أن تكون لنا مفاتيح الغيب فنعلم ما يجري هناك .أعرف الكثيرين من أصحاب هذه القبور وأعرف أسماءهم منذ أن كنت صبيا وبعضهم حدثني عنه أبي رحمه الله وعندما أقف على قبر أحدهم أتخيله في حفرة مظلمة لا نور ولا هواء فيها , ضيقة لا تسمح بحركة واحدة مليئة بالنار والغبار وكل عذاب ,وقد ينطلق خيالي في الجانب الإيجابي فأتخيلها حفرة شاسعة شساعة الأرض والسماء كلها نور وورد وكلها طيب وتطيب .هذا الخيال يزعزع كياني ,ومشاعري ويجعلني أفكر في مصيري وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا .في ساعة الشروع فإنزال الميت في قبره يتحلق الجمع حول القبر ويرتفع صوت واحد يرد سورة ياسين والملك ثم تتلى الفاتحة والدعاء للميت ولكل الحاضرين ويصطف الناس لتقديم العزاء لأهل الميت ُثم يأخذ كل واحد نفرا من الناس إلى بيته ليطعمهم كما سبق الذكر .وتلاحظ كأن الناس يتعجلون مغادرة المقبرة وكأنها شيء مخيف ويوحي بكل ما هو مخيف وكأنها ليست المقر النهائي لكل مخلوق . جاء الأهل والمال والعمل .فأما المال فتخلى عن صاحبه عند باب بيته , وأما الأهل والأحباب فقالوا حسبنا المقبرة ,وأما العمل فيدخل مع صاحبه القبر فإن خيرا آنسه ,وبدد وحشته ,وإن شرا أعاذنا الله من شر الأعمال أصابه منه كل ما يكرهه من هوان وعذاب وجعله يقول يا ليتني كنت ترابا
Aucun commentaire