الشيطان الذي يختبئ خلف مرسوم فصل التوظيف عن التكويـن في قطاع التربية والتعليـم
الشيطان الذي يختبئ خلف مرسوم فصل التوظيف عن التكويـن
في قطاع التربية والتعليـم
سعيد عبيد[*]
شكلت اتفاقية 8 مايو 2007 بين الحكومة المغربية وممثلي قطاع التكوين والتعليم الخصوصي بالمغرب منعطفا خطيرا نحو تغوّل هذا الأخير، مقابل وأد التعليم العمومي، وذلك من خلال تمكين المستثمرين الخواص في مجال التكوين والتعليم الخصوصي من امتيازات خيالية، على كافة الصعد العقارية والضريبية والتربوية، بل وحتى التقنية والجمركية، علاوة على تسهيلات أخرى كثيرة! من بينها على سبيل الذكر تسهيل ولوج القطاع الخصوصي إلى العقار العمومي بالتفويت عن طريق الترامي! مع المساعدة التقنية في مجال التعمير! وكذا تمكينه من المقرات والتجهيزات! والإعفاء الضريبي عمّن في ذمته أقل من 20 مليون سنتيم، وإعادة جدولة ما فوق ذلك! علاوة على الاستفادة من صناديق إنعاش الاستثمار! ومن الدعم المباشر من ميزانية الدولة! وكذا من الدعم الخارجي! والاستفادة من خدمات أطر وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي (بما في ذلك الإلحاق)! والاستفادة المجانية من تكوين الأطر الإدارية والتربوية! و – صدقْ أو لا تصدق – تخصيص منح لطلبة التعليم الخصوصي!
وإذا كانت هذه الاتفاقية الإطار تنزيلا قانونيا للدعامة رقم 18 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999)، فتنفيذا لمقتضياتها المذكورة آنفا، ترأس رئيس الحكومة – بحضور أكثر من مائة من باطرونا التعليم الخصوصي – بتاريخ 8 نونبر 2013 توقيع اتفاق بين كل من وزير الاقتصاد والمالية ووزير التعليم العالي من جهة، وبين هذا الأخير ورؤساء الجامعات من جهة ثانية، لتكوين عشرة آلاف (10000) إطار تربوي، في غضون ثلاث سنوات (2013/2016)، وهو الاتفاق الذي كان يتغيّا تأهيل الشباب حاملي الشهادات العليا، عبر الحصول على إجازة مهنية في تدريس مختلف التخصصات العلمية والأدبية والتقنية والرياضية، وفقا للحاجيات المعبر عنها من طرف قطاع التعليم الخصوصي، بغلاف مالي قدره 161 مليون درهم من ميزانية الدولة!
ورغم كل هذا التدليل الحكومي للقطاع الخاص، فإن هذا الأخير لم يستقبل في السنة الأولى من هذا التكوين، أي 2013، سوى 68 إطارا من أصل 3500 ممن استفادوا من ذلك المشروع الضخم! وظل – بالمقابل – يقتات كالطفيليات على أطر وزارة التربية الوطنية الموظفين الرسميين من جهة، ضدا على قانون الوظيفة العمومية، وكذا على من لم يستفد من برنامج التأهيل المذكور من خريجي الجامعات المحبطين، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للعمل بأقل من الحد الأدنى للأجور، قريبا من عتبة الفقر والهشاشة، في سوق يطغى فيها العرض على الطلب بأضعاف مضاعفة، ولا ينظم العمل فيها نظام أساسي خاص بالموظفين يحدد الواجبات والحقوق، إلا ما هو قائم من واقع يكاد يكون نسخة منقحة ومزيدة من واقع الإقطاع والسخرة، بعيدا عن كل رقابة أو متابعة جدية، سواء من الحكومة، أم من الوزارة المعنية، أم من النقابات!
وبدل أن تتدخل الحكومة لإجبار القطاع الخصوصي على الوفاء بالتزاماته بخصوص تشغيل مخرجات الاتفاق أعلاه، بعد أن تعمل على الإشراف المستعجل على تكييف ذلك التشغيل وفق مقتضيات قانون الشغل، بما يضمن لمستخدميه – علاوة على الكرامة الإنسانية! – كافة الحقوق التي لنظرائهم في القطاع العمومي، من ترسيم، وأجرة، وتحديد لساعات العمل، وتعويضات عن الأعباء والأولاد، ورخص، وترقية، وتغطية صحية واجتماعية، وتقاعد، وحق في التنظيم نقابي… عمِيتْ وصمّتْ عن كل ذلك، بل وزادت في إيغال الخنجر إلى عظم المواطنين المغلوبين على أمرهم من دافعي الضرائب، تحت وطأة انتهازية لوبي قطاع التكوين والتعليم الخصوصي، من خلال إلغاء المرسوم 2.02.854 (2003) القاضي بتوظيف خريجي مراكز التكوين، وتعويضه بالمرسوم 2.15.588، في عز عطلة صيف 2015، القاضي بفصل التوظيف عن التكوين، في غفلة من الجميع، وعدم التشاور مع أحد من المعنيين، وعلى رأسهم المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين التي ستتولى التأهيل، والتي صدمت إذ وجدت نفسها وجها لوجه أمام هذا الإجراء المباغت، وأمام سكوت رهيب ومريب من الأحزاب والمركزيات النقابية التي لم تحرك ساكنا إلا بعد أن ملأ احتجاج جحافل الأساتذة المتدربين بكافة المراكز بالمغرب الدنيا، وشغل الناس! عندها فقط فرضت القضية نفسها، ولا تزال، على حديث الشارع والعالم الافتراضي، وداخل البرلمان، وعلى كثير من المنابر الإعلامية المستقلة والحزبية، باستثناء قنوات « العامْ زينْ » طبعا.
غير أن مناقشة ما يدعوه الأساتذة المتدربون المحتجون بالمرسوم المشؤوم – وهو كذلك – لم تتخذ مسارها الصحيح من خلال وضعها في السياق التاريخي الذي استهللنا به هذا المقال، ولذلك لم توجه أصابع الاتهام مباشرة إلى الجهات المختبئة خلف المرسوم، انطلاقا من مبدإ علم الجريمة الأساس: « ابحث عن المستفيد تعرف من هو الفاعل »، ربما لأن كثيرين من الجالسين تحت قبتي البرلمان ومجلس المستشارين، من الحكومة والمعارضة معا، قد سرّهم ذاك المرسوم، ماداموا من المستثمرين في التعليم الخصوصي، أو ممن يستثمر التعليم الخصوصي فيهم، ولا يعرفون هم ولا أولادهم شيئا اسمه التعليم العمومي، اللهم إلا ما كان له عليهم من فضل فيما سلف. وهكذا حين صرخ أحد نواب المعارضة: « بين سطور المرسومين يختبئ الشيطان »، لم يستطع أن يواجه المغاربة بالحقيقة، ففسّر هذا الشيطان المبهم – ويا ليته ما فعل – بمغالطة تلقفتها كثير من المنابر بَعده بلا تمحيص، مفادها أن الشيطان هو البنك الدولي، وأن هذه الخطوة الحكومية جاءت استجابة لإحدى إملاءاته حول تقليص الإنفاق العام والوظيفة العمومية.
وقد سبق لي أن بينت في منابر أخرى أنه إذا كانت رعونة هذه المؤسسة الإمبريالية العريقة في استتباع دول الجنوب وجرها من أعناقها بحبال الديون يعرفها الجميع، ولا تحتاج إلى فضح، لأنها تُفصح عن رعونتها في تقاريرها وإملاءاتها السنوية، فإن تعليق المرسوم المشار إليه آنفا على مشجبها تلبيس ومغالطة وتهرب من التبعات، ذلك لأنها ليست المرة الأولى التي يتدخل فيها ذلك البنك في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية للمغرب، ولكن الأمر استمر منذ عقود، ومع كافة حكومات ما بعد « الاستقلال »، وبلغ ذروته – كما يذكر المتابعون – مع توقيف التوظيف أو تقليصه إلى أدنى إمكانياته منتصف التسعينيات. ومع ذلك، استمر التكوين بابا شرعيا للتوظيف (مقابل التوظيف المباشر سيئ الذكر)، ولم تفصل بينهما حكومة، مهما كانت درجة انحنائها في سلم المنحنين.
ذلك تفنيد أول، والتفنيد الثاني يكمن ببساطة في أن تقليص مناصب الوظيفة العمومية إنما يتحقق بتقليص المناصب المالية المخصصة لها، لا بتكوين أو تأهيل فائض من رأس المال البشري يفوق تلك المناصب؛ وبالتالي فقد كان بالإمكان ضبط صنبور التقشف في أدنى صبيبه وفق الحاجة منذ البداية، أي بالتحكم في عدد الناجحين في مباراة الولوج إلى المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين! وطبعا لا أحتاج إلى التنويه إلى أن المقصود بالحاجة هنا إنما هي حاجة الخطاب الرسمي (وقد حددها في 7000 منصب في الأسلاك الثلاثة للموسم المقبل)، لا حاجة الضرورة الواقعية (وأقلها 20000 منصبا)؛ وبهذا يتم تكوين نفس عدد حاجيات سوق الشغل، دونما تفييض.
وهكذا لا يحتاج المرء إلى كثير من الفطانة ليكتشف أن المستفيد الأوحد من هذا التفييض، ومن مرسوم فصل التوظيف عن التكوين، إنما هو – بالحصر – قطاع التعليم الخصوصي، ما دام أن مَنفذ الخلاص الوحيد – على سبيل الحصر أيضا – للأطر التي ستحمل دبلوم التأهيل التربوي، ولا يتكلل امتحان توظيفها في القطاع العمومي بالنجاح، إنما هو مؤسسات التعليم الخصوصي. وبهذا تكون الدولة قد كوّنت من المال العام لكافة المغاربة أطرا تلد ذهبا لمستثمر جشع في القطاع الخاص، همّه الرئيس، إلّم نقل الوحيد، هو الربح، ودعْنا من حديث العوام عن « جودته »، في غياب دراسات علمية تأخذ بالمعايير الدولية المعتمدة لدى المؤسسات المستقلة المتخصصة في التقييس، لتلك « الجودة » المزعومة، وهي المعايير التي تشمل بشكل مركّب مندمج متكامل كلا من البرامج، والمناهج، ونظم الدراسة والتقويم، ومؤهلات التسيير الإداري والمالي والتأطير التربوي، والتكوين المستمر، والقوانين المنظمة للعمل، والقدرة على إدماج ذوي الاحتياجات الخاصة وفق تربية متخصصة، ومقرات الدراسة، وتجهيزاتها، وتوظيف تكنولوجيات الوسائط المتعددة، والتحكم في مختلف أصناف المهارات، والإنتاجية، والأنشطة المندمجة والموازية، ونسبة المساهمة في سوق الشغل والتنمية البشرية والاجتماعية، وكذا نسبة الولوجية إلى المعاهد والمدارس العليا والجامعات المرتبة عالميا في مراتب محترمة، إلى غير ذلك من مكونات العملية التعليمية التعلمية ومتعلقاتها، على عكس ما يُسوَّق « للجودة » في المجتمعات المتخلفة من مفهوم مبتسر حين تُحصر في عدد المتعلمين في كل قسم، عدم غياب أي أستاذ لمرض أو إضراب، وحصول المتعلم على معدلات عالية؛ فقد أضحى القاصي والداني يشتم الروائح الكريهة التي ما فتئت تتزايد حدّتها المتصاعدة من أورام النفخ في نقط المراقبة المستمرة في مؤسسات التعليم الخصوصي، وإثقال عواهل المتمدرسين المحدودبة بما تنوء به مما لا يجد له سندا تربويا واحدا لدى كل نظريات التربية والتعليم في العالم، تحت ضغط منافسة طاحنة وغير شريفة بين أغلب المؤسسات (أو بالأحرى المقاولات) العاملة في سوق التعليم الخصوصي، وصلت حد الفرنسة المبكرة، وطمس الهوية، وإقحام عشوائي للمواد، والتصرف الماكر في البرامج (خاصة في مستوى الثانية باك بحذف مواد الامتحان الجهوي)، واستنزاف متصاعد شرهٍ لجيوب المواطنين الباحثين عن تعليم جيد، أو عن « شراء » نقطة عالية تؤهل صاحبها للولوج إلى أحد المعاهد العليا أو الكليات ذات الاستقطاب المحدود (كالطب والصيدلة والهندسة)، دون أن ننسى الامتصاص الوحشي لعَرق شباب مؤهل علميا، وجد نفسه عاطلا ضحية سياسات فاشلة في مجال التعليم والتشغيل، لتنطبق عليه أنياب تجار التعليم الخصوصي، بأجرة تبدأ – يا للحقيقة المفزعة في مغرب الألفية الثالثة!– بـ 500 درهما، وتصل بشق الأنفس إلى 2000، ولا تحلم بالحد الأدنى للأجور إلا فيما ندر، مع العلم أن كل ذلك لا يساوي غير الفُتات بالمقارنة مع الأرباح الفاحشة التي يجنيها، في ظل تواطؤٍ مشين من مفتشي الشغل المرتشين. ولا داعي لذكر المعاملة المزاجية الحاطة من الكرامة، المرهقة نفسيا وبدنيا، حيث لا يحق للأستاذ أن يمرض، فإن مرض خصمت أيام مرضه من الأجرة الهزيلة، ولا يحق له أن يحتج على شيء، بما في ذلك عدد الساعات، أو الأقسام، أو المستويات المسندة إليه، ولا يحق له أن يتخذ إجراء تأديبيا تربويا إزاء « أولاد الفشوش »، ولا يحق له أن يثبت نتائج الفروض والمراقبة الموضوعية إن أتت بأقل من نقط عالية، وويل له إن اشتكى منه تلميذ أو ولي أمره، بل ولا يحق له أحيانا حتى أن يجلس في مكتبه والمتعلمون منهمكون في الكتابة، بل وأحيانا أخرى تبلغ الوقاحة ببعض المديرين من « أصحاب الشكارة » أن يطلب من الأستاذة أن تلبس كذا أو كذا من أشكال اللباس، وأن تنظف المؤسسة بعد ساعات العمل!! – وكأن الموظف هناك مجرد ظل باهت في منزل للأقنان – تحت طائلة تهديد مفتوح بالطرد في أية لحظة! ولا ريب أن الجودة براءٌ من كل هذا العبث الذي سيزيد حتما من الأعطاب النفسية والاجتماعية والتربوية الناجمة عن التعليم الخصوصي (مما هو جدير بدراسات علمية وتربوية ونفسية ميدانية مستقلة)، بدل أن يكون – كما يفترض – إضافة نوعية تتجاوز مثالب التعليم العمومي، وتسد ثغراته، وتشرع آفاقا جديدة له، ولمَ لا تقود قاطرة التجديد والتجريب التربويين في البلاد، ولا تكتفي بالربح على حساب التشهير بسوء سمعة ذلك التعليم العمومي، وهو التشهير الذي يتخذ في كثير من الأحيان شكل البروباغاندا في الحروب الدعائية القذرة!
صدمت وأنا أقرأ بلاغ مجلس الحكومة بتاريخ 19/11/2015، إذ ورد فيه: « إن المترشحين الناجحين وقعوا محاضر الالتحاق بمراكز التكوين بصفة « طالب متدرب »، وليس بصفة « أستاذ متدرب » المعتمدة سابقا »، وهو ما سيكرره بشكل أو بآخر وزير التربية الوطنية ووزيره المنتدب لاحقا. ورغم أن هذا التضليل الصادم مناف للواقع، وقد تحدّاه الأساتذة المتدربون – وأُصر على تسميتهم بالأساتذة المتدربين، لأنهم كذلك – بإشهار نماذج من محاضر الالتحاق الخاصة بهم، فإنه يحمل في أحشائه نكتة لغوية مضحكة قلما يُلتفت إليها. فالتسميتان: السابقة « أستاذ متدرب »، والتي قبْلها « طالب أستاذ »، كلتاهما مفهومتان لدى الجميع بلا التباس، فحواهما أن الحامل لهذه الصفة يتدرب على مهنة التعليم، وقس عليها أمثال « طبيب متدرب »، و »صحفي متدرب »، و »طالب مهندس »… بينما التسمية الغريبة التي ابتدعها المرسوم الحكومي المذكور « طالب متدرب »، لا يفهم منها غير أن المعني طالبٌ يخضع لتدريبٍ ما، أي تدريب هو؟ وفي أي مهنة أو قطاع؟ لا جواب محددا، لأن الصفة المذكورة تنسحب على كل طالب يتلقى تدريبا في أي مجال!! ومع هذا، فالمشكل ليس مشكل اصطلاح، والمعركة الحقيقية ليست لغوية شكلية مفرغة، بل الخوض فيها تحريف للحديث عن موضوعه، رغم أنها قرينة لفظية واضحة تشير إما إلى تخبط المعنيين بالأمر، لأن المصطلحات التي هي عناوين المفاهيم ملتبسة، وإما إلى المكر المختبئ خلف التسميات، كالشجرة التي تخفي خلفها غابة مظلمة من الألغاز والأهوال! وقد صدقوا إذ قالوا: « إن وراء الأكمة ما وراءها ».
إلى حد الآن، وبعد وشوك انصرام الأسدوس الأول من هذه السنة التكوينية، وبعد النضال الشجاع المستمر المتحضر المتنوع الأشكال والطرائق الراقية لأساتذة الغد، محليا وجهويا ومركزيا، في أفق التهديد باعتصام مركزي مفتوح، تنهج الحكومة – علاوة على التغليط – سياسة الآذان الصماء، مع التهديد بسنة « بيضاء »، وما هي في الحقيقة إلا سنة سوداء كـ »خافية الغراب الأسحم »، على حد تعبير الشاعر العربي القديم.
وإذا كان التغليط يمثُل على صعيد الاصطلاح في نكتة « طالب أستاذ » المشار إليها آنفا، فهو ماثل كذلك في الادعاء الماكر بأن توظيف هؤلاء الأساتذة المتدربين هو من باب « التوظيف المباشر » الذي حسم أمره دستور 2011، مع العلم أنه من باب التوظيف بعد الخضوع لتكوين تخصصي، ولا مباشرة فيه البتة؛ وكيف يكون مباشرا وقد اجتاز المترشحون فيه خمسة امتحانات متتالية: (انتقاء الملفات، وكتابي، وشفوي، وامتحان تخرج فيه شقان: نظري وعملي)، وتقاويم عديدة لمصوغات تربوية وعلمية تخصصية شتى، في أسدوسين طويلين عريضين يمتدان بامتداد عام تكويني مكتنز حد الضغط؟؟! كما يتجلبب التغليط أيضا بجلباب الجودة الوقور بين الفينة والأخرى، وذلك حين يدعي الوزير المنتدب المذكور أن خلفية المرسومين (والمضحك هنا أيضا أن حديثه كذلك عن مرسوم تحويل المنصب المالي للمتدرب إلى منحة، مع تخفيض قيمته إلى النصف!) هي ضمان جودة التعليم، والجودة من ذئب هذا الافتراء بريئة، اللهم إلا جودة التعليم الخصوصي – كما صرح بها جهارة بلاغ رئاسة الحكومة بعد الاتفاقية الإطار التي ذكرناها – فكان عليه أن يقولها لنا منذ البداية بلا روغان، ولا لف ولا دوران، ما دامت مرسوم حكومته سيضع رهن يديه، في الموسم المقبل فقط، 3000 إطار مؤهل راسب مسبقا في مباراة التوظيف العمومية، ليحتلبها كما شاء. فأي جودة تكمن في أن تمنح مراكز التكوين دبلوم التأهيل التربوي لعشرة آلاف أستاذ متدرب، ثم تقصي منهم لجان مباراة التوظيف 3000، لا بحجة عدم الأهلية، لأنهم مؤهلون بشهادة الدبلوم الذي يحملونه، ولكن بذريعة نظام ‘الكوطا » وعدم كفاية المناصب المالية؟ هذا التغليط الفج لا ينطوي على ذي عقل، وهو أقرب إلى الكذب التبريري، لأن الجودة المفترى عليها تكمن ببساطة في عدم منح دبلوم الأهلية التربوية إلا لمن هو أهل لمزاولة هذه المهنة الشريفة، وبالتالي فهي تكمن في اعتماد برامج ومناهج وطرائق حديثة دائمة التطور، وبأطر كُفأة دائمة التكون، وببحث علمي وتربوي دائم التجدد، وبأنظمة دراسة وتكوين وتقويم صارمة، ولا أرى بأسا هنا – نُشدانا للجودة – من استقلالية لجان التقويم عن لجان التدريس والتكوين، كما هو معمول به في سلك التبريز العريق، حيث لا يجادل في جودة شهادته المهنية مجادل، (رغم التشويه الذي عرّض له فئة من الأساتذة المبرزين أنفسهم منذ مدة، بسبب التعليم الخصوصي الذي يستغل كفاءتهم أيضا، وذلك حينما احتجزوا معدلات طلبة الأقسام التحضيرية والسلك التأهيلي في القطاع العمومي في خطوة « نضالية » مجنونة، وقدّموها في آجالها، أو ربما قبل أجالها، لنظرائهم في التعليم الخصوصي!). أما تحديد عتبة الناجحين في مباراة التوظيف فليس من الجودة في شيء، وإنما هي خدمة مجانية من أموال المواطنين لقطاع تعليمي خصوصي ليس في قاموس تواصله مع هؤلاء المواطنين قط كلمة « بالمجان »، ولا إحدى مرادفاتها.
وهكذا لا يبقى من مبرر لدى الحكومة، ومن يردد سنفونيتها، في تجاهل مطلب الأساتذة المتدربين، سوى كون المترشحين كانوا على علم بمقتضيات مرسومي فصل التوظيف عن التكوين وإلغاء المنصب المالي وتقليص المنحة. وهي بهذا تضعهم، وتضع المجتمع كافة معهم، أمام الأمر الواقع، ليقولوا « سمعنا وأطعنا »، (ولا بأس أن تنقض هي تعاقد الموظفين معها على كون سن التقاعد محددة في الـ60، واحتسابه على قاعدة 2,5 في المائة عن كل سنة!!) وكأن العمل من جهة تفضّل حكومي وليس حقا طبعيا قبل أن يكون حقا مكفولا دستوريا، وكأن المراسيم من جهة أخرى منزهة عن النواقص، وليشرب الجميع البحر، وإلا فكيف يعقل ألا تفتح الحكومة ووزارتها باب الحوار مع عشرة آلاف إطار يحتجون، ومن ورائهم ذووهم وعوائلهم، منذ شهور؟ هل الحوار مع المحتج، ومقارعة الحجة بالحجة، بحثا عن الصالح العام واجبٌ تجاه الناخبين الذين كانوا سببا في وجود الحكومة أم تنازل؟ فضيلة في المجتمعات المتحضرة أم نقيصة؟ إن سد الحكومة باب الحوار مع الأساتذة المتدربين يفضح ضعف حججها بلا مراء، ما دام قد سبق لرئيس الحكومة أن صرّح بلا مواربة، في تمهيد خطير لتخلي الدولة عن مسؤوليتها التاريخية في رعاية التعليم العمومي، وتحديثه وترقيته باستمرار لعموم الشعب الذي تحكمه، أنه قد « حان الوقت لكي ترفع الدولة يدها عن الصحة والتعليم »، وأنه « ينبغي أن يقتصر دورها على منح يد العون للقطاع الخصوصي الراغب في الإشراف على هذه الخدمات »! مغلقا أذنيه عن تحذير الأمم المتحدة له رسميا، في شهر أبريل الماضي، من زحف التعليم الخصوصي بالمغرب، على حساب التعليم العمومي الذي أغلقت الدولة قرابة 200 مؤسسة له في الخمس سنوات الأخيرة!! مما واجهته الحكومة آنذاك بجواب مخجل يضحك على الذقون، أنزه قلمي عن ذكر اختزالية مبرراته في هذا المقام.
وإن سكوت الأحزاب المعارضة وجمعيات الدفاع عن المال العام عن هذا الضرب الواضح لمجانية التعليم وجودته، وعدم تبني النقابات العمالية لمطالب هذه الفئة المتضررة، وهي التي طالما رفعت مطلب الحفاظ على المدرسة العمومية، هو ما جعل الحكومة تستفرد بأساتذة الغد، وتنكل بهم هذا التنكيل « القانوني » والنفسي والاجتماعي والمادي والأمني، وتتمادى في سن مثل هذه المراسيم والقوانين التي لن تزيد حطب الاحتقان إلا اشتعالا، ولن تخدم غير الذين يعرفون كيف يُحلب ضِرع الوطن المتعَب، ومن أين تؤكل أكتاف المواطنين المرهقة.
حين يرى المرء أن أرباب التعليم الخصوصي يضغطون بكل ما أوتوا من ثقل لينتزعوا اعتمادات لإنشاء جامعات خاصة تمنح دبلومات تعادل تلك التي تقدمها الجامعات العمومية في التوظيف، وكذا في الولوج إلى سلك الدكتوراه، فإنه يدرك البعد الذي يرمي إليه أخطبوط الاستثمار في هذا الباب، وبالتالي لا يسعه إلا أن يحيي ثبات أساتيذ الغد هؤلاء في نضالهم، لأنه ليس نضالا من أجل الخلاص الفردي/الجماعي لهذا الفوج كما يبدو للوهلة الأولى، ولكنه نضال من أجل المدرسة العمومية، ومدافعة ضد تسليع التعليم؛ أي إنه دفاع من أجل ضمان حق الأجيال القادمة في التعليم العمومي، هذه الأجيال التي يراد لها أن تكون مصادر ربح مفتوح للرأسمال المتغوّل، وهذا ما ينبغي أن يدركه المغاربة كلهم، ولا سيما المخلصون الذين يدافعون عن حق هذا الشعب في العيش بكرامة؛ فرفعُ مطلب « الحق في تعليم عمومي جيد للجميع »، كما في كثير من الدول المتصدرة عالميا للائحة التفوق في النظم التعليمية، كالدول الإسكندنافية وإستونيا وسنغافورة، أولى من البحث عن حلول أنانية سرعان ما تسقط في فخ الانخداع بمؤسسات يتاجر أغلبها بالتعليم، وأولى من رفع مطلب الزيادة في أجور ستذهب مستقبلا – لا قدر الله – إلى جيوب أخطبوط لوبيات الخوصصة التي تتناسل كالفطريات في التعليم والصحة والنظافة والأمن وباقي الخدمات. وما الاتفاق الأخير بين وزير الصحة ونقابة أطباء الصحة العمومية الذي يسمح لهم بالاشتغال بالمصحات الخاصة، في خرق سافر لقانون الوظيفة العمومية، في وقت يعرف فيه المستشفى العمومي نقصا مهولا في عدد الأطر الطبية، واكتظاظا رهيبا للمواطنين المرضى على أبوابه، ومواعيد بعيدة الآجال بشهور طوال لإجراء العمليات الجراحية، إلا تأكيد لهذا الاتجاه اللاشعبي المرتمي في أحضان أصحاب النفوذ الاقتصادي والمالي في البلاد، وكشف لزيف الشعارات الاجتماعية والتنموية البشرية المرفوعة، وهو ما سيؤول حتما إلى ما آل إليه واقع فئة من أطر هيئة التفتيش التربوي بقطاع التربية الوطنية، حين سمحت لهم ضمائرهم بأن يبيعوا بالمقابل خبرتهم التربوية لمؤسسات التعليم الخصوصي التي يزورونها بانتظام، بل وبعضهم يرابط بها صباح مساء، أو يتردد بينها وبين غيرها باستمرار، في الوقت الذي تقلص فيه حضورهم الواجب علميا وتربويا وميدانيا في المدرسة العمومية في كافة عمليات التأطير والمراقبة والتتبع والمواكبة والتحيين والتقويم والتجديد والتجويد، إلى أدنى عتباته، إلى درجة أن أحدهم قد يبلغ به الاستهتار ألا يزور الأستاذ – مجرد الزيارة – السنين ذوات العدد، اللهم إلا أن يأتي مهرولا لتأطير « تكوين » مدفوع الأجر، كتكوينات بيداغوجيا الإدماج المقبورة، وإلا فلينتظر أن يلقاه مصادفة إن هو أُسندت إليه مهمة « ملاحظ » في امتحان ما من الامتحانات الإشهادية، ليشربا الشاي معا في قاعة معدة لسكرتاريا الامتحانات، وهو يدخن ناقما على هذا التكليف مقابل « زوج فرنك »، أو يلقي النكت من حواليه ويضحك، كأن الوضع لا يعتريه شيء من الغلط إطلاقا، إطلاقا لا يعتريه شيء من الغلط!!
[*] المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالجهة الشرقية.
Aucun commentaire