اللغة العربية تحت القصف العشوائي للعامية، وأخطاء الإعلانات الإشهارية !
مثل عديدين غيري من المتقاعدين، الذين أفنوا أزهى مراحل أعمارهم في خدمة الوطن، ولا يجدون فضاء للترويح عن النفس، عدا برودة كراسي الحدائق العمومية على قلتها، والاختناق وسط دخان السجائر في المقاهي ذات الخدمات الرديئة، جلست يوما على غير عادتي بإحداها وسط حينا البئيس، لتتبع أطوار مقابلة رياضية في كرة القدم، فألفيتها دون مستوى الندية والفرجة الكروية، على غرار أغلب مباريات البطولة الوطنية « الاحترافية ». وما زادني تذمرا، تعالي صيحات الشباب اليائس، التحكيم السيء والتعليق الأسوأ لواصف رياضي بدا أكثر شرودا من اللاعبين أنفسهم.
بيد أن ذلك كله، لم يلبث أن تبخر فور ظهور لوحة إشهارية، كانت مصفوفة ضمن أخريات في جنبات الملعب، تحمل إعلانا عن منتوج صناعي، مكتوبا بلغة أقرب إلى العامية منها إلى اللغة العربية. ورغم أن اللقطة مرت سريعا، فقد أثارت غيظي واستيائي، لاسيما أنني لم أجد سببا وجيها لعرض مثل هذه اللوحات الاستفزازية، أمام أنظار ملايين المشاهدين داخل الوطن وخارجه.
وقد لا يختلف اثنان في كون أصحاب الإعلانات التجارية، يعتمدون في استمالة وإقناع الجمهور، على أهل « الاختصاص » في صياغة خطاباتهم، من دون تعقيدات القواعد البنائية للغة العربية. حيث أن الإشهار يعد نوعا من التواصل، لترويج المنتوجات التجارية ذات الطابع الاستهلاكي عبر وسائط إعلانية، قد تكون لفظية أو مكتوبة أو مرئية ثابتة أو متحركة. من هنا، يلجأ معظمهم خلال إعداد « رسائلهم »، إلى لغة مبسطة وأكثر تداولا بين الناس، بهدف إيصال مضامينها للمستهلك وإغرائه بالإقبال على البضاعة المعروضة، بدل الاهتمام باللغة العربية والعمل على تعزيزها والإسهام في تطويرها…
ومما يؤسف له حقا، هو عدم التزام هؤلاء المستشهرين بالقوانين، واحترام الشروط المنظمة، في ظل انعدام المراقبة والمساءلة الصارمتين، علما أنه بإمكان الفصحى أن تكون لغة إعلانات بامتياز، وتحقق نجاحات باهرة بجماليتها وقدرتها على التأثير، إذا ما تم تبسيطها وحسن انتقاء مفرداتها. لكن هاجس المنافسة المربحة لديهم، جعلهم غير معنيين بأهميتها وما يتسببون لها فيه من آثار سيئة، إثر المضايقات ومحاولات التحريف والإقصاء. ودليلنا على ذلك، ما تزخر به الملصقات واللوحات الإشهارية من أخطاء، وبؤس الإنتاج الوطني التلفزيوني (سلسلة « الخواسر » نموذجا)، ودعوة رجل الأعمال وعضو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والفاعل في قطاع الإشهار السيد نور الدين عيوش، إلى توظيف الدارجة ليس فقط في التلفزيون ونشراته الإخبارية، بل كذلك في تدريس الصفوف الأولى من التعليم الأساسي، فضلا عن أن حكومة السيد بنكيران الأمين العام لحزب « العدالة والتنمية » ذي المرجعية الإسلامية، التي يفترض فيها الدفاع بقوة عن حرمة لغة القرآن ورفع المعاناة عنها، أبت إلا أن تغض الطرف عما يجري حولها، ولم تبد أدنى اعتراض عما لحق قيمتها العلمية من تبخيس، على يد كل من وزير التربية الوطنية والتكوين المهني السيد رشيد بلمختار، الذي رفض التحدث بها لفائدة إحدى القنوات الأجنبية بدعوى عدم إتقانها، والسيدة حكيمة الحيطي وزيرة البيئة، التي صرحت لأحد الصحافيين المغاربة، بأن الحديث بالعربية يصيبها بالحمى !
وللوقوف على مقدار هذا الاستهتار، يكفي التجول في أحياء وشوارع وأسواق مدننا الكبرى، حيث من النادر إيجاد لوحات إعلانية أو يافطات وملصقات في فضاء عام ومحلات تجارية وشركات صناعية وعيادات طبية ومرافق عمومية… خالية من الأخطاء أو من « الدارجة »، حتى صار مواطنون كثر معتادين بصريا على هذه « المعلقات »، لا يميزون بين الفصحى والعامية ولا بين الخطأ والصواب، بينما جعل منها آخرون مبعثا للسخرية. وقد بلغت الاستهانة ببعض الأحزاب السياسية، إلى حد جلد اللغة العربية في واضحة النهار، على لافتاتها ومنشوراتها أثناء حملة استحقاقات الرابع شتنبر 2015.
وفي تقديرنا المتواضع، يعزى تعاظم حجم العبث القائم إلى عوامل عدة، منها: تراخي المسؤولين، إسناد مهام وضع الإعلانات إلى أشخاص غير مؤهلين، ويجهلون أصول اللغة صرفا ودلالة وتركيبا لتدني مستوياتهم التعليمية، ثم غياب لجن المراجعة والتصحيح، مما بات يتهدد هويتنا ويعرضها إلى الاضمحلال. ولأن رداءة النصوص المعتمدة والأخطاء المنتشرة حد التخمة، والتمادي في المس بمقومات لغتنا وتهميش دورها، سيؤثر لا محالة على سلامة طباع المواطنين اللغوية، ويشكل خطرا حقيقيا على مجتمعنا ومستقبل أجيالنا القادمة، فإن حمايتها تستوجب انتفاضة عاجلة، والتصدي للعابثين بها عبر فرض غرامات مالية، على إعلاناتهم المخالفة للضوابط اللغوية والمقتضيات القانونية…
فاللغة العربية من أعرق اللغات السامية في العالم، التي لم تنل منها التحديات وصروف الدهر، بفضل مقوماتها الحضارية والثقافية، وبقيت متشبثة بجذورها الراسخة في عمق التاريخ، ومتجددة بما لها من مميزات وخصائص. وهي لغة حضارة إنسانية واسعة، وأداة للتواصل والتعارف ونقل المعارف والثقافة العربية، وحاملة لرسالة مشتركة بين أمم كثيرة، يعد العرب نواتها الأساسية. وتبعا لذلك، استطاعت تبوء مكانة مشرقة، وأصبحت لغة علم وعمل وسياسة وتشريع وتجارة ومنطق وفلسفة وتصوف وأدب وفن… فهي عماد وحدة الأمة ومرآة حضارتها ولغة قرآنها المجيد، ويشهد أدباء وفلاسفة غربيون بعظمتها، كما قال المؤرخ والكاتب الفرنسي إرنست رينان: « اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة ». غير أنه وبنفس القدر، الذي ساهمت به وسائل الاتصال الحديثة في مساندتها وانتشارها بين المتحدثين بها، تتعرض لحملة تشويه عند مزجها ب »العامية » في مقالات رأي أو خلال تعليقات إذاعية أو تلفزيونية، أو حين تحويلها إلى لغة ضحلة أو ارتكاب أخطاء فادحة في اليافطات واللوحات التوجيهية والإعلانات الإشهارية…
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى حشد كل طاقاتنا، بمؤازرة الدولة وكافة مكونات المجتمع، من مدرسة وهيئات سياسية ومنظمات نقابية وحقوقية وجمعيات حماية المستهلك ومختلف أشكال وسائل الإعلام… لاتخاذ تدابير زجرية واضحة قصد تحصين لغتنا العربية، لاسيما أن المجلس الأعلى للتربية والتكوين حسم في أمرها، واعتبرها مقوما للهوية واللغة الأساس للدراسة والتدريس. وهذا يدعونا إلى العناية بمتعلمينا الصغار، من خلال تحبيبها إليهم وتحسيسهم بأهميتها في حياتهم اليومية، مادامت تشكل جزء من قيمنا وثوابتنا وهويتنا، ويتحتم علينا تقويتها وتحديثها، وتنمية استعمالها في سائر المجالات…
ذلك أن أي محاولة لطمسها والمساس بها، يعتبر التفافا على المسار الإصلاحي لدستور 2011، الذي يقر برسمية اللغتين العربية والأمازيغية، ويحض على سن سياسة لغوية مندمجة… فاللغة، حصن الأمة الثقافي وحامي كيانها، وقد قال المستشرق الفرنسي جاك بيرك: » إن أقوى القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب، هي اللغة العربية، بل هي اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا… »
اسماعيل الحلوتي
Aucun commentaire