انتخابات العالم القروي:الرعد الكاذب
رمضان مصباح الإدريسي
الآلة تتحرك ،فهل يتحرك معها الناخب؟
ابتعادي عن « السياسة الصغرى » في قريتي مستفركي(45كلم ،جنوب غرب وجدة) جعلني أقترب أكثر منها ؛لكن ضمن سياق وطني انتخابي ،من مستوى آخر ،غير التنافس الحزبي الآني ،من أجل مقاعد جماعية تُرى –غالبا-تشريفية،أكثر منها تكليفية. في القرية يسود ممثلو السكان ولا يحكمون..
كنت ،في موضوع قديم لي ،اقترحت تتبع الآلة الانتخابية الوطنية ،حينما تُشغل ؛لكن لمعرفة كيف تشتغل ،وليس فقط ما تنتج. ثم لمعرفة مخرجات اشتغالها ،خارج الفائزين والراسبين.
مخرجات تبرر وجودها أصلا؛و تقيس مدى قوة التغيير الذي تحدثه لدى المواطنين ؛خصوصا وبنك المغرب الانتخابي لا ينقصه رصيد مهم من التجارب .
أستعيد اليوم هذا الاقتراح،وأتمنى أن تنتبه الجهات العليا ،والأكاديمية المختصة ،إلى هذا الجانب من اشتغال الآلة؛ لأنه أكثر أهمية من مجرد تكميم النتائج ،وترتيب الأحزاب،وتشغيل المؤسسات .
هو هكذا لأنه المبرر العميق لاختيار آلية الانتخاب ،ضمن النهج الديمقراطي الذي حسمت فيه البلاد دستوريا.
خارج ثنائية الفوز والفشل ،ماذا استفاد المواطن من الانتخابات؛كما تُجرى في بلادنا منذ فجر الاستقلال؟
إلى أي مستوى مواطني ارتقى هذا المواطن ؛ضمن مراقي الدراسة التطبيقية؛في « جامعة » الانتخابات؟
هل هو مؤهل للتخرج ؛وبالتالي الثقة في قراراته واختياراته ،وهو يقوم بدوره الحاسم في تقرير مصير دولة اختارت أن تكون ديمقراطية؟ وإذا كان لايزال في مراحل تعثره الأولى ؛فهل هذا ناتج عن إعاقة ذاتية أم موضوعية؟
الملك يفتتح الدروس الانتخابية:
خطاب 20غشت 2015 خطابُ قُرب انتخابي – في جانب منه- يستند إلى معطيات لا تتأتى إلا لرئيس الدولة ؛ومن هنا أهمية التوجيهات المباشرة الواردة فيه،والإشارات ؛وأهمية حتى البياضات القصدية التي تشكل مادة لاشتغال السياسي « الباطني » التخصصي:
*توضيح مهام المؤسسات و »دورها وتأثيرها في حياة المواطنين؛لأن من حقهم أن يعرفوا كل شيء عن مؤسساتهم،ليتخذوا القرار ويحسنوا الاختيار ».
*تعريف المواطنين بالمسؤولين عن الخدمات الإدارية والاجتماعية التي يحتاجونها في حياتهم: »هم المنتخبون الذين يصوت عليهم (المواطن) في الجماعة والجهة لتدبير شؤونه المحلية ».
*ربط عدم اهتمام بعض المواطنين بالانتخابات بكون « بعض المنتخبين لا يقومون بواجبهم على الوجه المطلوب.بل إن من بينهم من لا يعرف حتى منتخبيه. »
* »بعض المنتخبين يظنون أن دورهم يقتصر على الترشح فقط.وليس من اجل العمل. »
* »التصويت لا يجب أن يكون لفائدة المترشح الذي يكثر من الكلام،ويرفع صوته أكثر من الآخرين ؛بشعارات فارغة. »
* »إن التصويت وسيلة بين أيديكم لتغيير طريقة التسيير اليومي لأموركم ،أو لتكريس الوضع القائم ؛جيدا كان أو سيئا. »
*ويواصل منبها الناخبين: « عليكم أن تحكموا ضمائركم ،وأن تحسنوا الاختيار .لأنه لن يكون من حقكم غدا أن تشتكوا من سوء التدبير ،أو من ضعف الخدمات التي تقدم لكم. »
لماذا يجد الملك نفسه مضطرا إلى الاقتراب أكثر من سلوك الناخب ؛في وجود ترسانة قانونية انتخابية محكمة ،أو تكاد؛وفي وجود حكومة منتصبة للتتبع ،وأمناء أحزاب يملكون –ظاهريا على الأقل- زمام أحزابهم،ويتلقون دعما ماليا من الدولة للتأطير السياسي؛ وفي وجود هيئة ناخبة ومنتخبة ،بعشرات السنين من التجارب؟
لو أدرجنا هذه التوجيهات ضمن خطاب ملكي سابق لانتخابات1963؛لبدت عادية،في سياقها ،و لانشاز بها.
هل قدر العقل الانتخابي المغربي أن يظل جامدا إلى هذه الدرجة؟هل سيظل دوما بحاجة لمن يستعيد معه،قبل كل استحقاق، أبجدية الانتخابات؟
لاشك أننا حينما نقف على رأس التلميذ ،وهو يُمتحن، ونجد أنفسنا مضطرين إلى خرق مسطرة الامتحان ،وتوجيهه صوب سبل الإجابة الصحيحة ؛نكون غير واثقين من مؤهلاته،وغير مرتاحين للتكوين الذي يتلقاه .
لا أتصور أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل- مثلا- تضطر لهكذا خطاب انتخابي توجيهي ،يقارب سلوك الناخب الألماني ؛وهو بكل مؤهلاته ،وبكل اعتزازه بمواطنته المسؤولة التي لا يقبل بخصوصها دروسا للدعم والتقوية.
إن خطاب القرب ،هذا ،من جلالة الملك ؛وهو معزز بخلفية جهوية ،مستقبلية، نعتها الخطاب بالثورية ،لدليل مؤكد على أن نمو رصيد بنك المغرب الانتخابي ،لايعني وجود ثراء سلوكي انتخابي لدى أغلبية الناخبين المغاربة؛ثراء يبعث على الثقة في نزاهة الاختيارات ،يوم الاقتراع.
وعليه فستظل أسئلة اشتغال الآلة الانتخابية ،بالكيفية المذكورة، واجبة الطرح ؛حتى تتحقق الاستفادة الأخرى- أو الأساسية- من الانتخابات ؛بالكيفية التي تجعل الناخب يكسب أيضا ،وليس الفائز فقط ،الذي غالبا ما يسارع إلى الهرب بفوزه ؛دون تقديم أي دروس لناخبيه ،مما يخدم بناء المواطنة .هذا أخطر من التقصير في مجال الخدمات المفترض تقديمها من طرف المجالس الجماعية،على الوجه الأكمل..
الناخب الذي ضيعناه:
*ناخب نزيه،صادق في اختياره،عارف بكل حقوقه وواجباته،محيط باختصاصات جميع مؤسسات الدولة .
لاحديث عن فساد انتخابي ،يشغله عن اختيار المترشح الأكفأ لتدبير جماعته ،وجهته؛في ولاية محددة زمنيا،ومحكومة بإمكانات مالية شفافة،وبسياسة عليا للبلاد ،صارمة ومعلنة .
*ناخب يطمئن إلى أن الجهات القضائية والأمنية،هي المتفرغة ،بكل صدق وعدل ويقظة،لردع الفساد الانتخابي ،إن وجد؛ليتفرغ هو لمحاربة التخلف التنموي – بحسن الاختيار- في حيه وجماعته وإقليمه وجهته.
*ناخب لا يطالب بشاطئ البحر لساكنة فاس،لكنه،في المقابل لا يسكت عن رداءة الخدمات الصحية والتربوية ،وعنفوان الجريمة في جماعته.
ناخب يعرف كيف يطالب بحقوقه ،لدى من هي بيده،بصوت مسموع ،دون حاجة إلى ترطيب مطالبه بتملق المخزن ،ورفع صور الملك.إن الملك ،إياه، يصرح بأنه لن يقبل شكايتكم ،غدا،إن أسأتم الاختيار اليوم.
إن رفع الصور الملكية،غدا، لا يصحح أخطاء التصويت اليوم؛كما أن قراءة السور القرآنية لا تكون لغير التعبد . إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.والانتخاب من هذا السلطان.
*ناخب يقطع مع بُردة البصري: قولوا العام زين.. دون السقوط في العدمية.
*ناخب يعي ،كل الوعي،أنه لا يَنتخب واعظا ،ولا إماما للصلاة ،ولا مؤذنا ،وإنما ينتخب مستشارا جماعيا لخدمته ؛يطرق بابه متى احتاج لما هو بين يديه؛كما سمح هو لنفسه بطرق بابه طلبا لصوته.
*وأخيرا ناخب يدرك أن المترشح الكبير ،الذي يجب أن يصوت عليه الجميع ،حتى دون حملة انتخابية ،هو الوطن.والوطن بدون أبنائه مجرد وثن. يفوز الوطن حينما تظهر الهيئة الناخبة بمظهر راق،مفكر فيه.
مظهر يحرص الجميع على التمسك به ،والتربية عليه ؛ليسمو صُعدا ،بتوالي أجيال الناخبين.
النموذج السند، من جماعة مستفركي:( الكاتب غير منتم ،ولامترشح)
حيث تماهت الجماعة القروية مع النظام القائدي التقليدي لأزيد من نصف قرن؛خارج كل الأطر القانونية التي أرستها الدولة الحديثة؛بما فيها قوانين الانتخابات ،المؤسسة والمشرعة لتداول التدبير ألجماعتي.
فعلا قوى هذا النظام المستعصي الإدارة المحلية ،وصولا إلى شبه استقلال ،أو على الأقل شبه حكم ذاتي فرض نفسه على السلطة الإقليمية والجهوية،لاعتبارات لاداعي للخوض فيها هنا.
على مدى هذا الزمن لم تكن الانتخابات تطرح مشكلا جديا ؛لأن نتائجها كانت تحسم سلفا؛دون تزوير ودون ارتشاء للناخبين. لأن الجهة الوارثة للنظام القائدي كانت ترى نفسها –وتُرى من طرف أغلب الناخبين- على أنها الأجدر بالتصدر. حتى هيئة الموظفين الجماعيين ظلت خاضعة لكاريزمية الرئيس،ولم تكن تجرؤ على التهاون في أداء الواجب ؛غاب الرئيس أو حضر.
في ظل هذا الوضع لا يمكن الحديث عن تربية الناخب الزكراوي ليكون سيد نفسه في اختياراته؛لأن الموروث ،والثقل المعنوي للأعيان لم يكونا يسمحان بهذا.بل لم يكن حتى مطلبا مواطنياعلى مدى عشرات السنين.
بعد هذا سيحصل انشقاق حاد لأن جيلا من الشباب قرر،في مستهل السبعينيات، كسر الطابو ،ونقل النضال اليساري إلى القبيلة. إذا كان هذا الجيل لم يفلح في إسقاط النظام التقليدي المحلي –جماعاتي قائدي-فقد أفلح في زرع بذرة وعي – في اتجاه مواطنة زكراوية ،كاملة الحقوق – ستؤتي أكلها بعد سنين.
أمام تصلب الموروث احتد الانشقاق إلى أن اتخذ ،منذ أواخر التسعينيات،شكل مشيخيتين متصارعتين ،تخوضان الانتخابات الجماعية والتشريعية ب »قبور مفتوحة ».
بفعل عوامل متعددة ،يبدو أن الانشقاق يسير نحو نهايته ؛خصوصا بعد أن قررت المعارضة الالتحاق بالتنظيم السياسي للأغلبية. لم ينته الصراع طبعا ؛إذ لا شيء يبدو ناضجا وثابتا ؛لأن التأطير السياسي غائب كلية؛وقد استبدل باستعادة مرتبكة لتحكم أعيان المشيختين.تحكم يستهدف الوصول إلى المجلس الجماعي ،وليس تربية الناخبين واقدارهم على اختيار الأنسب لتدبير جماعة قروية لم تخرج بعد من مائة عام من الفقر.
من الزلات الانتخابية التي عاينتها التغييب الكلي لنقاش البرامج.البرامج التي تستحضر الحاجيات الحقيقية للقرية.
بل كثيرا ما عُرقلت برامج تنموية ،ومشاريع بنيات تحتية ،بما فيها التربوية (بناء الإعدادية مثلا)لا لشيء إلا لأنها متبناة من الخصم الانتخابي.
ومن أخطر هذه الزلات أن يتمتع أغلب موظفي الجماعة – على مدى الولاية الحالية،بوضعية وظيفية ،في منتهى الغرابة؛خارج قوانين الوظيفة العمومية المغربية.وضعية ملتبسة تجعل الموظف أقوى من المستشار ، ومن الرئيس نفسه،أحيانا.
قوة مستمدة من تمثيلية ،مقصودة- على مستوى هيئة الموظفين-لأغلب الدواوير .موظف بحجم دوار فعليك أن تتريث في الحساب أيها المستشار.
لعل تأثير غياب الكاريزمية السابقة،ومستوى التكوين ،وضعف المراقبة ،والاهتمام بالشأن الخاص بدل العام كلها عوامل أفرزت موظفين جماعيين أقوى من الهيئتين الناخبة والمنتخبة.
أمام هذه الوضعية المعقدة تقع على الناخب –وان لم يُكون من أجل هذا – مسؤولية ثقيلة ،وهو يختار ممثليه يوم الانتخاب.
بارقة الأمل في التئام الشمل،أو يكاد ؛وتفضيل الصالح العام؛لأن التفاني في خدمة الخاص ،حشر الجماعة في زاوية ،خارج الزمن وخارج قوانين البلاد.
استثمار النومذج:
إن التشريع الانتخابي ينطلق من مسلمة كون الانتخابات القروية مماثلة للانتخابات الحضرية؛ ومن هنا وحدة القوانين .هذا زلل ،بل زلل من درجة معضلة؛لأن القول بخلافه ،فيه حرج دستوري كبير. لكن أيهما أقوى :الواقع المعي شام الدستور؟
إن النمو القروي المادي بطيء؛وأبطأ منه النمو المعنوي المواطني؛فكيف نجعل تشريعا انتخابيا واحدا يسري على الجميع ،ونحن نعرف أن البنيات السوسيولوجية في القرية هي غيرها في المدينة؟ بل حتى سلم القيم يتباين بينهما إلى حد كبير.
إذا كانت الممارسة الانتخابية،في المدن ،كما عرفناها منذ الاستقلال ،خرجت منتخبين ؛لكنها لم تخرج ناخبين مؤهلين،كما يجب ،وبدون حاجة إلى دروس ؛فكيف بها في القرى ؟
ونحن بصدد « الثورة الجهوية » ألا يمكن ضبط التدبير المحلي بضوابط أكثر قربا و نجاعة – انتخابيا وإداريا- من ضوابط المركز ،التي كثيرا ما يتم تعطيلها؟
إن آلية الانتخابات مقتضى ديمقراطي ،وخيار لا رجعة فيه ؛لكن المواطنين، في المغرب الخشن (مغرب الأرياف) لم يدمجوا هذه الآلية ،ضمن نسيجهم الاجتماعي ،كبديل لموروثهم التدبيري التقليدي ؛بل يعتبرونها شأنا مخزنيا ،ثقيلا عليهم ،كما كان الأمر لدى أسلافهم مع ضريبة « الترتيب » العزيزية.
ومنهم من يستخف بها ويعتبرها مجرد موسم فلاحي خماسي ،أو سداسي، يجود بريعه الحرام.
من الرابح ومن الخاسر هنا؟ طبعا المنتخبون يستثمرون هذه الأوضاع لصالحهم ؛ومن هنا سكوتهم عن إثارة الأسئلة المقلقة.
ان الدرس الانتخابي يدفع صوب طرح كل الأسئلة الصعبة؛ولو كانت الجهوية مجرد قرارات تتخذ في المركز،وخرائط ترسم ،وناخبين ،كما اتفق؛ما نعتها الخطاب الملكي بالثورة المقبلة.
Ramdane3.ahlablog.com
Aucun commentaire