من المؤامرة إلى الاستقراء
من المؤامرة إلى الاستقراء
بقلم د. محمد بالدوان
bouddiouan76@gmail.com
قد يلتبس على قراء بعض الآراء الداعية إلى ربط تطورات الأحداث برهانات القوى الدولية الكبرى تحديد معيار هذا التحليل؛ أ يتوسل نظرية المؤامرة؟ أم يوظف منهج الاستقراء؟
إن أول ما يرتكز عليه التحليل القائم على نظرية المؤامرة إخلاء المسؤولية الذاتية أو الجماعية إزاء كل مكروه، بل ويكيل كل التهم للآخر المعادي، غير أن منهج الاستقراء لا يمكنه الشروع ثم الوصول إلى النتائج إلا إذا انطلق من الذات.
ويجنح المهووس بالمؤامرة إلى التعميم وتصنيف الأشخاص والجماعات إلى موالٍ ومعادٍ، وإصدار المواقف بصيغة الأبيض أو الأسود، دون أدنى اعتبار للزمان أو المكان أو الظروف. بينما يميل المشتغل بالاستقراء إلى الخوض في التفاصيل، وتحديد مختلف الدرجات في العداء والصداقة، وبحث المواقف المحتملة من أقصى الشدة إلى أقصى الرخاء، مستحضرا كل المتغيرات المتاحة.
لا يمكن للاستقراء أن يبني موقفا قائما على عقيدة ثابتة، إذ يستحيل أن يصل إلى التعميم/الموقف/الحقيقة… دون استجماع كافة الأحداث و المعطيات والعناصر الواقعية، وعند هذا الحد يمكن إدماج المنهج البنيوي الذي يضع نسقا داخليا لكل تلك المتغيرات ثم يستجلي منها القوانين دون الحاجة إلى عناصر خارجية[1](وثيقة إثبات رسمية مثلا).
فحين نمحص رأيا ما، ثم نجده يستدعي مجمل المعطيات الواقعية والمتغيرات الراهنة، ويضع لها نسقا واضحا يستمد منه القوانين/ المواقف/ المسؤوليات/ الفاعلون…، فلا يمكن اعتباره رأيا يجانب مناهج البحث في العلوم الإنسانية أو الاجتماعية أو السياسية. وإذا بلغ به التحليل في كل مرة إلى ذات النتيجة، وقد اتبع خطوات منهجية، فلا يجوز وصمه بالركون إلى منطق المؤامرة.
صحيح، قد يفضي هذا التحليل المنهجي إلى نتائج ظنية، إذ لا يوجد ما يسمو على الوثيقة الرسمية لإثبات حقيقة ما، لكن غياب الوثيقة لا يعني انتفاء النتيجة التي يصل إليها التحليل المنهجي، فكثيرة هي القضايا التي كانت مجرد قراءات، ثم صارت بعد حين حقائق تثبتها الوثائق الدبلوماسية والسياسية التي كانت سرية فيما مضى، وحينئذ يكون لها وقعا سياسيا قويا يفوق بكثير تأثير مقالات الرأي.
إن أقرب مثال واقعي عما أوردته، يجسده التشخيص السلبي الذي كان يعرضه كُتاب الرأي عن واقع حكام دول العالم الثالث قبل 2011 تنويرا للجماهير، وبعد ظهور وثائق « وكيليكس » أواخر 2010 تأسست حقائق قطعية فجرت الشوارع من المحيط إلى الخليج.
وأسوق مثالا آخر يعود بنا إلى أواخر القرن 19 م، حين صرح « تيودور هرتزل » مختزلا مؤتمر الحركة الصهيونية الذي ترأسه في « بال » السويسرية، واعْتَبَر تَصْريحَه في أعقابه سريا[2]، وقد صار علنيا بعد قيام الدولة العبرية، إذ قال بأن الكيان اليهودي قام معنويا في « بال »(1897م)، وستقوم أركانه المادية قطعا بعد 50 سنة.
ولا أشك في أن كُتاب الرأي استبقوا وقوع هذه الحقيقة قبل خروج كلام هرتزل إلى العلن، وربما حتى قبل انكشاف أمر رسالة وعد « بلفور » إلى الصهيوني « روتشلد »، ولم يكن لهم إلى ذلك من سبيل سوى رصد تطورات الأحداث ودراسة ترابطاتها في بناء نسقي.
وعند قراءة التطورات السياسية وتحليل العلاقات الدولية وتحديد حجم الفاعلين وقوة تأثيرهم في الأحداث، تؤكد توالي الأحداث التاريخية، واطِّراد النتائج التي تُخلفها، على وجود قوى دولية تتحكم في السياسات، وقوى جهوية وإقليمية تشاكس وتنافس، فكيف لكائنات مجهرية أو جماعات « جِهاليّة » ضمن هذا النسق المحكم أن تؤثر أو تصنع التاريخ؟ !
[1] – راجع المنهجان(الاستقرائي والبنيوي) في كتاب مناهج العلوم الاجتماعية لـ »مادلين غراوتس »، الصفحات:20-435-441Madleine GRAWITS, Méthodes des sciences sociales, ed.4, Précis dalloz, Paris, 1979.
[2] -Henry Laurens , La question de Palistine(1722-1922), l’invention de la Terre sainte, Tome 1, Fayard, Paris, 1999, p. 176.
Aucun commentaire