تهديد فرنسا: السياق والمآل
تهديد فرنسا: السياق والمآل
بقلم د. محمد بالدوان
لا يمكن أن يخرج ضرب فرنسا يوم 08 يناير2015 عن سياق الصراع الذي يشهده العالم بين معسكر السلام والديمقراطية ومعسكر الارهاب والديكتاتورية. إذ لا يمكن بأي حال أن يقتنع الناس بأن ما جرى في فرنسا مجرد هجوم متطرفين مسلمين على مجلة أساءت لنبي الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم.
ألم يمضي زمن بعيد على جريمة الرسوم المسيئة؟ ولماذا جاءت ضربة المتطرفين في هذا الظرف التاريخي؟ وهل من الطبيعي انتقال أعمال التطرف بهذه السرعة إلى ألمانيا؟ أ بإمكان هذه التهديدات أن تصل حد العصف بأوروبا؟ ألا يمكن أن يكون من ورائها قوى تدافع عن مصالح كبرى، وتخشى أي تحول يمكن أن يطرأ على واقع العلاقات الدولية؟
سيبدو الهجوم على باريس أكثر وضوحا باستحضار مساعي فرنسا الحثيثة لدعم مشروع قيام الدولة الفلسطينية بالرغم مما تضمنه من إجهاز على الحقوق الفلسطينية، وامتداد الهجوم في وقت وجيز إلى ألمانيا يعكس رسالة سياسية قوية يريد بعثها معسكر الحرب والإرهاب العالمي، في سياق فقدانه التحكم في إدارة الصراع.
كما سيكون المشهد مكتملا إذا وضعنا هذه الضربة الارهابية في سياق المشاركة الفعالة لفرنسا في الحرب على داعش والنظام السوري، وبعد توالي الأنباء عن تراجع وخسائر تنظيم الدولة ونظام بشار، وفي سياق دعوة موسكو أطراف الصراع السوري إلى مفاوضات أواخر يناير، وجمع أطراف الصراع الليبي للحوار بإشراف أممي، واقتراب التفاوض الأمريكي الإيراني حول الملف النووي من نهاياته، وتبادل رسائل إيجابية بين قطر ومصر، وتراجع أسعار النفط إلى مستوى غير مسبوق(46 دولار للبرميل) بعدما كانت تستفيد من ارتفاعاتها دول(الجزائر- إيران…) ما فتئت تدعم الديكتاتورية واللاستقرار.
ليس من الطبيعي أن ترد أخبار عن رغبة فرنسية بعدم حضور نتانياهو إلى تظاهرة باريس، كما كان من الغريب إصرار الأخير على حضور التظاهرة متسللا ببراعة إلى الصف الأمامي !
و كان ملفتا غياب شخصية أمريكية وازنة إلى التظاهرة وما تلاه من اعتذار « كيري » مصحوبا بتحديد زيارة إلى باريس لبحث قضايا الإرهاب.
وما يؤكد حضور غايات كبيرة وأجندات مغرضة من هذه الأعمال الارهابية في فرنسا وألمانيا، تركيز قادة الدولتين على إخراج الإسلام من دائرة الاتهام، بل ذهبت « مركل » إلى القول بأن « الاسلام جزء من ألمانيا » في رسالة واضحة إلى صانعي الفتنة مفادها استحالة دخول ألمانيا في عملية بتر غبي لأجزائها. لا بل صرح « هولاند » يوم 15 من يناير 2015 بأن المسلمون هم أكبر ضحايا التطرف الذي يضرب العالم اليوم !؟
لا يوجد في أوربا اليوم نعرات عرقية أو طائفية يمكن أن يراهن عليها مثيرو الفتن لإضعاف أو تهديد أوروبا، ولن يكون غير العزف على التوتر العقائدي والتحريض الديني سبيلا إلى النجاح في ذلك. لكن هيهات أن تنطلي مثل هذه الحِيَل على الأوروبيين.
أصبح معلوما مِن التاريخ بالضرورة من يقف وراء مشاريع الازدراء بالأديان أدبيا وماديا، ولا شك في أن المستقبل القريب سيكشف عمن كان يجلس خلف لوحة قيادة التحريض والتأثيث للهجوم على مثل هذه المشاريع المتهالكة، ليمدها ويمد من يقف وراءها بالحياة والانتعاش، ولو أن في الرغبة عن حضور « نتانياهو » إلى تظاهرة باريس، وما زامنه من غياب « كيري »، إشارة إلى المدبر الأصلي لمذبحة « شارلي إيبدو ».
فعلا، أظهرت إسرائيل حرصا شديدا على الحضور في الصفوف الأمامية لتظاهرة باريس، ربما لتفادي تكريس الرؤية التي تضعها إلى جانب الارهاب بعدما أحجمت عن الانضمام إلى التحالف الدولي ضد داعش. أو ربما لدفع الولايات المتحدة إلى الغياب عن التظاهرة وإضفاء مصداقية على الأخبار التي رُوجت عن تورطها في أحداث باريس، بخاصة إذا استحضرنا دخول العلاقات الاسرائيلية الأمريكية فترة جفاء غير مسبوقة في عهد إدارة « أوباما ».
انطلاقا مما راج من أخبار عن طلب « هولاند » من « نتانياهو »عدم حضور التظاهرة، وإصرار الأخير على الحضور، ومن غياب الولايات المتحدة عن التظاهرة، أرجح أن التشخيص الأولي لمعسكر « أوباما »-« هولاند » يذهب إلى اتهام « إسرائيل » ومجموعات ضغطها بتشجيع العمليات الإرهابية.
إن ما يرجح وقوف معسكر الحرب واللاستقرار وراء كل هذه التطورات الجديدة التي أُطلِقت شرارتها من فرنسا، وتكاد تصل في ظرف قياسي إلى الولايات المتحدة،(اعتقال شخص بتهمة التخطيط لتفجير الكونغرس يوم 14 يناير 2015) ، الخروج الإعلامي للسناتور « ماكين » ليدعو من جديد إلى تدخل بري أمريكي في العراق وسوريا.
يبدو أن ثمة مساعي جادة لإرباك استراتيجية التحالف الدولي ضد « بشار » و »داعش »، والتي بدأت تأخذ طريقها نحو النجاح، وأمام استشعار ذلك من قبل بعض أطراف معسكر الحرب والديكتاتورية، اهتدت إلى لعب هذه الورقة الخطيرة في أوروبا آملة كسر هذا التحالف، أو توريط أقوى دولة فيه في حرب برية. لكن ما يتوالد من تطورات يدل على المضي بإصرار في تنفيذ استراتيجية التحالف الدولي. ما سيأتي حافل بالمفاجآت؛ آمل أن تكون سارة لأنصار الحرية والديمقراطية والاستقرار.
Aucun commentaire