مقولة المؤامرة: شماعة الإخفاق التي تقاوم الزمن…
بقلم: بلقاسم الجطاري
حظيت مقولة « المؤامرة »، على امتداد تاريخ الشعوب الإسلامية، بحضور لافت للانتباه، واحتل الحديث عن تفاصيلها وخيوطها حيزا مهما في حياة الأفراد والشعوب، فتم بموجبها تبرير سلوكيات سياسية، وتفسير مسارات ومصائر، وصياغة نظريات لتفسير التاريخ، بل ولم يتردد كثير من المؤرخين والإخباريين العرب والمسلمين في استدعائها لتبرير الحروب التي قامت بين المسلمين، أو تلك التي نشبت بينهم وبين خصومهم من الأمم الأخرى، وعلى نهجهم سار دارسون معاصرون لم يسلموا من بريقها الأخاذ، ولم يقدروا على الفكاك من إغرائها الخادع للعقول والبصائر، فوضعوا إخفاق الأمة الحضاري في سلتها، وردوا تخلفها عن ركب التقدم إلى ذوات تتآمر عليها في الخفاء وفي العلن، وتنصب أمامنا المتاريس والشرك وما إليها من مثبطات الهمم.
والحق أن المرء لا يحتاج إلى كبير عناء كي يلاحظ النزوع الاختزالي الذي يسم القائلين بالمؤامرة في كل وقت وحين، مثلما لا يحتاج إلى نباهة متقدة كي يقف على النزعة المركزية التي ينطلق منها هؤلاء، أي تلك النزعة التي يغدو فيها الفرد-الجماعة بؤرة الوجود التي يسعى الآخر الماكر والشرير إلى إلحاق الأذى بها أو التخلص منها.
إن الحديث عن هذه المقولة يملك راهنية مديدة بالنظر إلى ديمومتها التاريخية، وتجذرها في الوعي الجمعي والفردي لمختلف الفئات الاجتماعية. ومن أراد ان يقف على تجلياتها في حياة المغاربة يكفيه الالتفات إلى الخطابين: الصحفي والسياسي، ليقف على شيوع ثقافة المكائد والدسائس، وغلبة منطق تذويت العقبات وشخصنة المشاكل والصعوبات. أما الذي لم يفحمه المثال فما عليه إلا أن يتأمل قليلا ما يتسرب من بعض المؤسسات الرسمية ذات الصدى والسلط المركزية (برلمان، مجالس مؤسسات، جامعات…)، لأنها تشهد على انتشار عدوى هذا التبرير الاختزالي بين كل فئات المجتمع، وتوضح بجلاء أن هذا الداء لم يستثن فئة دون غيرها، طالما قد استمسك بأفهام كثير من الجامعيين الذين يفترض فيهم أن يكونوا في جبهة « العلم »، وفي طليعة المنادين بإعمال العقل، لا مجاراة السيل.
لقد كتب متخصصون كثيرون في مواضيع السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا مؤلفات ومقالات يتناولون فيها أعطاب المجتمعات الثالثية بمبضع التشريح، وقالوا أن هذا المسمى « مؤامرة » لا يعدو أن يكون وجها من وجوه « سيكولوجيا التخلف »، وعلامة من علامات القصور الجماعي على مواجهة حقيقة الفشل، وسعيا مرضيا إلى تصدير الأزمات والأعطاب الاجتماعية من دائرة « النحن » إلى دائرة « الهم »، أما الباحثون في فروع علم النفس الاجتماعي فقد أرجعوا ذلك إلى حاجة الفرد الفاشل إلى شماعة يعلق عليها هزيمته، وردوا ذيوع الفكرة إلى هيمنة الفكر الخرافي الذي لا يتوانى في استدعاء مقولات « الحسد » و »الغيرة » و »السحر » لتفسير أمراض الفرد النفسية والعضوية، وتبرير إخفاقه في الاندماج أو الترقي الاجتماعي.
قد يقول قائل، إن قولا كهذا يسقط بدوره في براثن « الاختزال » الذي يدعي معاداته، طالما ينفي وجود « آخر » يتربص ب »الأنا » على وجه الإطلاق. وهذا قول مقبول يستحق أن نفرد له تفصيلا خاصا كي لا يساء فهم رأينا بخصوص هذه المقولة. إننا لا ننفي، بكل تأكيد، وجود هذا « الآخر » نفيا مطلقا، ولكننا نرى أنه من العته والجنون أن يستمر الحديث عن كل إخفاق بلغة التآمر، وأن تسترسل الجماعة في كيل التهم يمينا وشمالا عند كل هزيمة أو نكسة طارئة. لأن نظير هذا السلوك انهزامي في صلبه، يقفز على الأعطاب والإشكاليات، ويتركها على حالها، بل ويزيد من حدتها كثيرا. ولا حاجة إلى التذكير، هنا، بكلفة الإصلاح والعلاج التي ترتفع كلما تأخر تشخيص الداء وطلب الدواء.
إن الفكر النقدي الحر يرفض ذلك، ويقضي، بدلا عنه، باستيعاب الخلافات في سياق مقولات عقلانية، من قبيل الصراع أو التدافع أوتضارب المصالح وما شاكلها. وهذا القول يعني، من ضمن ما يعنيه، أن هذا الآخر الذي تسارع الذات المهزومة إلى تحميله وزر خيباتها هو في الحقيقة براء منها، وأنه في الواقع ليس غير وجه من وجوهها في مرآة السلوك الاجتماعي.
لكن الملاحظ أن هذا الكلام، على حجيته الظاهرة، لا يلقى في أذهان مجتمعات الجنوب صدى كبيرا، وحينما تقتنع بصوابه فئات متمردة على فكرة الانقياد الأعمى فإنها تظل، في الغالب، عاجزة عن تمثل مقتضياته ومتطلباته، والتصرف بناء على مضامينه. وهو ما يجعل من مقولة المؤامرة إشكالية اجتماعية معقدة تتجاوز هامش « الإرادة » الفردية، لتحتل حيز العطب السوسيولوجي ذي الامتداد والتجذر الأنثروبولوجي.
لقد كتب الباحث المغربي القدير »عبد الله حمودي » في موضوع الفعل السياسي المغربي الحديث، وسعى بما أوتي من حصافة ورصانة إلى فهم إواليات العقل السياسي المغربي، فأدرك أن المسميات الحديثة، من قبيل الأحزاب والجمعيات… ليست سوى نسخا باهتة من أشكال التنظيم التقليدي التي عرفها البلد على امتداد تاريخه. وكشف، بالدليل والحجة، أن سرعة الانتقال إلى ضفة التحديث بطيئة جدا، لذلك لا يجب أن ننخدع بتاتا أمام بريق الأضواء والتكنولوجيا والتسميات، فنحن في بداية الطريق، ولم نبتعد عن ديار الآباء والأجداد إلا ببضع خطوات.
إن هذا الكلام يفسر إلى حد بعيد فشل النخب المغربية في تجاوز عقلية « المؤامرة »، لأنه يوضح أن الاعتقاد بها لا يعدو أن يكون جزءا من تمثلات نكوصية كثيرة تعيق مسيرة التحديث المأمولة، تمثلات منغرسة في تربة اللاوعي الجمعي، صور وتفسيرات خرافية للأحداث والوقائع، وسلوكات تقليدانية مغلفة بغلاف حديث، علاوة على فعل ثقافي وتعليمي يكرس التفكير الماضوي ويزكي أزمة القيم، ويؤخر أي مشروع نهضوي محتمل.
إن بناء المستقبل يقضي، باختصار، التأسيس لفكر نقدي يقضي مع هذه المقولة البئيسة، لأنها من مخلفات الانحطاط، ومن أمارات التخلف والخنوع للآخر الذي تدعي الأمة مسؤوليته عن تخلفها التاريخي. لابد أن نضع حدا لكل منطق تبريري ينأى بالذات عن دخول مجاهل المسؤولية. والطريق إلى ذلك يمر بالضرورة عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تعد الخلف. نحن في حاجة، إذا، إلى نهضة ثقافية تأتي من بين أسوار المؤسسات التعليمية والجامعية، لأنها الوحيدة القادرة، من خلال تطوير مخرجاتها، على إحداث الرجة اللازمة للقطع مع مثل هذه المقولات التبريرية، ومن ثم التأسيس لثقافة العمل والنقد الذاتي وتحمل المسؤولية.
1 Comment
بعض الملاحظات
وانا اقرا مقال الأستاذ الجطاري مشكورا سجلت ملاحظتين
الأولى انه يخص بالمجتمعات التي تلجأ الى (المؤامرة ) لتبرير فشلها المجتمعات العربية الإسلامية دون غيرها والمجتمع المغربي خصوصا وهذا في نظري شيء من التخصيص لايستند إلى أي اساس علمي حتى ننشره هكذا، فتتلقفه العوام على اساس انه حقيقة علمية بينما نحن نعيش حالات عرفتها امم وشعوب متقدمة جدا فسرت ما حدث لها من وقائع واحداث على انها تآمر من الأجنبي فأثبت التاريخ بأن تلك الأحداث في حد ذاتها كانت جزءا من مؤامرة كبرى اشتركت فيها تلك الأمم من تنفيذ مخططاتها الإمبريالية
الملاحظة الثانية وهي ان الأستاذ غاب عنه ان المؤامرة والتآمر مرتبطان بالفعل السياسي منذ وجد ولم تخل الأمم في مشارق الأرض ومغاربها من دسائس ومؤامرات سواء بين الحاكمبن من جهة والمحكومين من جهة اخرى أوداخل بلاطات الحكم في حد ذاتها ولنا في تاريخ البشرية جمعاء أمثلة كثيرة جدا ولعل الرجوع إلى كتاب الأمير لميكيافيلي فيه امثلة كثير من ذلك
الملاحظة الثالثة أن التآمر في وقننا الحاضر لم يعد مقتصرا على الصراع بين الحاكم والمحكوم بل اصبحت تشارك فيه امم وحضارات ضد امم وحضارات اخرى هدفها إضعافها وتتفيه هويتها والقضاء على ذاكرتها وزرع الفتنة بين افرادها واحياء بعض النعرات القبلية او الشعوبية من اجل تشتيت وحدتها ولم تقسيمها الى دويلات صغير لاحول لها ولا قوة تصبح سهلة للإبتلاع
ولاأظن الأستاذ الجطاري يخالفني الرأي إذا قلت له بأن المغرب يعيش فعلا مؤامرة على ترابه منذ فجر الإستقلال إلى اليوم ولازال يعيش هذه المؤامرة التي اشترك فيها العدو والصديق ويدفع الشعب المغربي ثمنها غاليا وهو ماعبر عنه صاحب الجلالة اخيرا بما اصبح معروفا ب(درهم مقابل سبعة دراهم) انها التآمر على وحدة المغرب الترابيةوعلى صحرائه
بعجالة اود ان اقول للأستاذ الكريم إن التآمر موجود في حقل السياسة عبر التاريخ وبين جميع االأمم لذلك على الجميع ان يكون يقضا لمواجهته حفاظا على الهوية وخصوصا على الحرية والإستقلال
ولنا في الشعوب التي لم تحسب ذلك جيدا خير مثال
ولنا عودة للموضوع إن شاء الله