موقع الأمازيغية في التقرير الاستراتيجي لـ CSEFRS: مؤشر على النزعة النكوصية في تنزيل الوثيقة الدستورية
بقلم: بلقاسم الجطاري
تواترت أخبار متطابقة، عبر عدد من وسائل الإعلام، كشفت عزم المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي CSEFRSرفع توصية ضمن تقريره الاستراتيجي يقترح فيها الاستمرار في اعتماد الفرنسية لغة أجنبية أولى بالمغرب، وتعميم اللغة الأمازيغية بالسلك الابتدائي فقط، وهي المقترحات التي نعتقد أنها تكشف، بشكل أو بآخر، تصور الفاعلين بهذه المؤسسة لمشكلات لغات التعليم والتعلم، ونظرتهم للحلول الآنية والاستراتيجية الكفيلة بتطوير نظامنا التعليمي، وإصلاح أعطابه العرضية والبنيوية.
سنخصص هذا المقال المختصر، للحديث عن الجانب المتعلق باللغة الأمازيغية، ليقيننا بوجود إرادة نكوصية، ووعي ارتكاسي، يسعى إلى تقويض عدد من المكتسبات التي حققتها الأمازيغية منذ خطاب أجدير، وفرملة وتيرة التصالح والاعتراف بالمكون الأمازيغي، والنهوض به، وهو ما من شأنه وضع المثبطات أمام خيار تصليب الذات الوطنية وتقويتها، أمام المد العولمي الجارف، وأشكال الاستلاب التي تنفذ عبر وسائط الإعلام الحديثة.
إن الحديث عن تعميم اللغة الأمازيغية بالسلك الابتدائي فقط، يعني، فعليا، وجود إرادة، واعية أو غير واعية، في الإبقاء عليها حبيسة مستويات التعلم الدنيا، أي أن أقصى ما يمكن أن يكتسبه التلميذ المغربي في هذه اللغة لن يتجاوز المهارات الكتابية والشفهية التواصلية الأساسية التي تتناسب مع درجة النمو السيكومعرفي للتلميذ المغربي (أقل من 12 سنة)، وهو ما سيبقيها حبيسة شرنقة مغلقة، هي واقعة فيها منذ القدم. وهكذا لن يكون متاحا أمام المغاربة إمكانية تطوير سجلات اللغة الأمازيغية الفكرية المعرفية؛ لأن ذلك يقتضي، بالضرورة، تدريسها بالسلكين الإعدادي والثانوي؛ السلكان اللذان يستلزمان ضرورة مواكبة الإنتاج الفكري العالمي، واستحداث المصطلحية العلمية الضرورية من جهة. واللذان يعرفان نسبة تمدرس لا بأس بها من جهة ثانية، فضلا عن مسألة ثالثة هي وقوع محتوياتها ومناهجهما الدراسية ضمن دائرة البرامج التعليمية المشتركة بين كل أبناء المغاربة، وهذا المعطى الأخير نعتبره حجة نتوجه بها إلى أولئك الذين يراهنون فقط على البحث الجامعي والأكاديمي، لتطوير الدرس اللغوي والأدبي والثقافي الأمازيغي. ولهؤلاء نقول أيضا أن السبيل إلى تشرب اللغة الأمازيغية (في صيغتها الكتابية العالمة) يمر بالضرورة عبر عملية إغماس طويلة تنطلق من المدرسة الابتدائية وتنتهي بالتعليم العالي. بحيث يتم تمهير المتعلمين، بالتدريج، في مكونات اللغة المختلفة، لينتهي بهم المطاف قادرين على التعبير بالأمازيغية عن مختلف مجالات الحياة الفكرية والثقافية.
لن يكون إذا، ممكنا تطوير الأمازيغية، في ظل تصور كهذا يبقي عليها في وضع لا يختلف كثيرا عن وضعها السابق، بل ولا نرى بإمكان تحقيق هذه اللغة أي تراكم يذكر، إلا أن تسيير بضع خطوات على مستوى خفض معدل التمثلات السلبية تجاهها، حال دون تفعيل شعار التعميم الوارد بالمقترح بالشكل اللازم، أفقيا وعموديا، ومجاليا وبيداغوجيا.
وعلى ذكر قرار التعميم، يجدر بنا أن نسأل: ماذا أعدت القطاعات الوصية لأجرأة هذا القرار؟ ولماذا تتلكأ المؤسسات المعنية في تكوين الموارد البشرية، وتهييء العتاد البيداغوجي اللازم؟ كيف يمكن بلوغ هدف التعميم في ظل الفتور الذي يسم تعامل المسؤولين مع هذه اللغة؟
إن السير في هذا الطريق بالوتيرة التي يتم بها تكوين الأطر المتخصصة في هذه اللغة (سواء بالجامعات أم بمراكز التكوين في مهن التربية والتكوين)، يعني حاجتها إلى عقود طويلة، فقط لتحقيق الرهان العددي (الكمي) في الشعار المرفوع (أي بصرف النظر في جودة التعلم المنشود)، وحتى نقرب الصورة أكثر يمكن إعطاء المثال بحضور هذه اللغة بالجامعة المغربية، ولتكن جامعة محمد الأول بوجدة نموذجا (وهي الجامعة المطلوب منها تغطية ما يقارب ثلث الاحتياجات)، إذ لا تتوفر الأخيرة إلا على مسلك (وليس شعبة)، يتابع فيه الدراسة ما يناهز 300 طالب في الأسدس الأول، يتولى تكوينهم وتأطيرهم أساتذة قادمون من شعبتي: اللغة العربية واللغة الفرنسية)، أي أن هذا المسلك الفقير لا يتوفر على أي أستاذ متخصص، رغم انصرام ثمان 8 سنوات على تأسيسه.
صحيح أن الوضع بجامعتي أكادير وفاس ليس بهذا الشكل (تتوفر جامعة ابن زهر بأكادير، مثلا، على ستة أساتذة متخصصين)، لكنه، في الحقيقة، لا يتجاوزه سوى ببضع خطوات، ومن ثم فإن الشعور الذي يسود بين الفاعلين الجامعيين الغيورين على الهوية الوطنية هو انعدام الحماس والرغبة لدى جل المسؤولين عن تدبير الشأن اللغوي والثقافي بالبلد، ونحن لا نرى من مؤشرات دالة على وجود رغبة حقيقية في القطع مع واقع التهميش الذي عاشت في ظله الأمازيغية منذ الاستقلال. وقد كان حريا باللجنة المكلفة بموضوع لغات التعلم والتعليم أن ترفع سقف مقترحاتها، بخصوص الأمازيغية، بشكل يتناسب وحاجات هذه اللغة المادية والبشرية واللوجستيكة والتشريعية والحقوقية، لأنها أكثر من يعرف بالتعقيدات الإدارية التي تعوق تنزيل الشعارات الإصلاحية، وهي أكثر من يدري بحدة الممانعات والمقاومات الثقافية التي تقف في وجه الأمازيغية بسبب شيوع التمثلات الخاطئة حول مفهوم التنوع الثقافي.
إن ما يخشاه المتتبع الحريص على ثقافة بلده، هو تكرار الصيغ « المذكراتية » التي تم بها إدماج الأمازيغية بالمدرسة المغربية، بحيث ظلت حبيسة الوثائق والتقارير والمراسلات، ولم يتم التعامل مع أسئلتها وإشكالاتها البيداغوجية والديداكتيكية إلا بقليل من الحزم والجدية، بل ولم يتم تتبع مسارات حصيلتها بما يلزم من الحرص والمواكبة والتقييم والتقويم. ومثل هذا الأمر متوقع جدا في ظل مقترح التعميم بسلك الإبتدائي فقط.
في السياق نفسه دائما، يبدو من اللازم إثارة قضية ذات صلة بالنقاش الدائر على مستوى التقرير الاستراتيجي موضوع المقال، هي خروج بعض الهيئات، وباسم التخويف من فتنة ثقافية لا توجد إلا في أذهان المتحدثين باسمها. ولعل اللافت للانتباه بهذا الخصوص هو سعي بعض هذه الهيئات إلى ربط مطلب النهوض بالأمازيغية بأجندات أجنبية، وعدم تحرجها، في الحديث بمنطق المؤامرة كلما ارتفعت الأصوات التي تنادي بالقطع مع أشكال الهيمنة اللغوية والثقافية. وهو ما يدفع في اتجاه تشكيل اصطفافات إضافية بناء على قاعدة معطيات مغلوطة متوهمة. ويدفع في اتجاه خلق نوع من الاستعداء الثقافي لأبناء هذا الوطن بعضهم ضد بعض، من خلال الإصرار على إقحام اللغة العربية (اللغة الوطنية التي ينبغي إيلاؤها العناية اللازمة دون اعتماد منطق المزايدات السياسوية، والخرجات المناسباتية)، عند كل نقاش يتعلق باللغة والثقافة الأمازيغيتين (يمكن الاستئناس بأدبيات هذه الهئيات، وكتابات قيادييها، إبان مناقشة الوثيقة الدستورية).
إننا نعتقد أنه قد آن الأوان لتجاوز التعامل السياسوي مع موضوع الأمازيغية، ومع غيره من المواضيع ذات الطابع المصيري للأمة، وأصبح مطلوبا من الجميع العمل على إشاعة مناخ التعايش، وبناء جسور الثقة بين كل الأطراف، على قاعدة احترام التنوع، وقبول الاختلاف، والاعتراف المتبادل.
Aucun commentaire