الإصلاح نهج الأقوياء
الإصلاح نهج الأقوياء
بقلم د. محمد بالدوان
كم كان يبدو قويا حين ارتمى في بالوعة ماء لانقاذ الساكنة من الفيضان، كان مقداما نافعا منتجا، كما لم يبدو مثله كل مغوار يجلجل صوته صالونات النقاش وتظاهرات الاحتجاج. وحين تحدث أفصح بذكاءٍ فطري مغربي، وباح بكلمة السر: صدح بكلمة الاصلاح وجافى قاموس اللائم والمنتظر.
ذاك الرجل هو علال، وصفه ثلة من الاعلاميين بـ »القادوس »، ولا أدري إن كان وصفا بريئا، أم ينهل من مخيال سلبي حيال صانعي الاستثناء داخل مجتمع ابتلي بالافساد. غير أني أجد فيه علال المصلح، لم يُلق باللائمة على المسؤولين ولا على الساكنة، أحسب أن هواه إصلاحي شأنه شأن كثير من المغاربة: يبادرون ولا ينتظرون، يبذلون ولا يبالون، بفضلهم تَخَطّى المغرب أحلك الظروف.
يتمثل كثير منا النهج الاصلاحي بكونه نهج الضعفاء وملاذ الرعاديد والأغبياء، أو خطاب يلوكه المراوغون والمنافقون والأغنياء… غير أني كلما تأملت نهج الاصلاح وحياة المصلحين بدا لي خلاف ذلك.
ربما نسينا أن نهج الاصلاح سلكه الأنبياء دعوة متواترة عبر الزمن لإصلاح عقيدة التوحيد من شوائب الشرك والخرافات، واختيارا سديدا ينير مسالك التدافع ويكسب التوازن في الرجات والمنعطفات.
صاغ مقدماته نبي الله شعيب مناديا قومه « إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ. وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ .عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ »(هود/88). فخلد القرآن ذكره بما أحياه من منهج يَلزم متصدري التغيير؛ جُهدٌ قَدْرَ الاستطاعة وفي حدود الممكن، وفعل ضمن دائرة المتاح، ثم سداد وتأييد يرجى من القدير الفتاح.
وأكمل نظريته خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، حتى لا يضل من قام إلى إصلاح ما أفسدته سِنون الجهالة والتخلف. فلم يمس رمسا ولا رمزا ولا صنما، ولم يفرض دعوة ولا عقيدة ولا دولة، حتى أكرمه الله بأنصار احتضنوا الفكرة والدولة. وبعد قيام الدولة، إن دعي إلى صلح (الحديبية) جنح إلى السلم رغبة في فتوحات السلام، حتى ولو ظهر لمن يرى في التنازل، ضعفا ودَنِيّة في الدين.
استحضارا لكل تلك المعاني والمفاهيم، لا يمكن للمصلح أن يضع في أولوياته الوصول إلى رئاسة السلطة أو الخلافة، لأنه مهووس بالاصلاح، ولا يهمه طبيعة السلطة التي تحمل مسؤولية تنزيله، ولا يزهد في أي عمل يرجى منه الاصلاح. وقد تناديه الرئاسة وهو منهمك في أعمال البر، ولا يعني ذلك تنزيها لسريرته من طموح الرئاسة، لكنه لن يستسيغ الوصول إليها بالعنف والإكراه، ولن يرضى تقلدها إلا بعد التسليم والانتخاب.
فالمصلح قوي بالمعنى الذي لا تكون فيه السلطة أو الخلافة مصدر إغراء يدفعه إلى قتال المنافسين، أو حبل استدراج يجره إلى نادٍ ينسيه فرائض الاصلاح، أو يسحبه إلى مستنقع يلطخ فيه بهاء الاصلاح بالدم أو الوحل.
ما يميز نهج الاصلاح أيضا نَفَس التفاؤل وبشائر الأمل، فهُما بمثابة طاقة تجعل المصلحين في حركة دائبة وبحث متواصل عن تفاصيل واقع المجتمع وتناقضاته، واستشراف علمي لمستقبله ومآلاته.
وفي ضوء هذا النهج، يتحرر المصلح من التعميم والتشاؤم والاستسلام الذي يطبع عقل ونفسية كثير من العوام، ويمنح لنفسه إمكانية الفعل والتأثير، وهامش الإغارة والمناورة.
إن منطق الاصلاح يفرض على معتنقه الايمان بالتحالف والتشارك، ويجعله يرتب لائحة الشركاء من الحسن إلى الأحسن ومن السيء إلى الأسوء، ولا يمكن أن يستبد به هاجس النقاء ليصرفه عن ثراء الخيارات إلى شُح الثنائيات(أبيض/أسود) وعقم الثبات.
بهذا المعنى يستمد منهج الإصلاح قوته من دقة تشخيص الوضع، وواقعية الأطروحة والهدف، واستباقية الفعل، وتراكمية الإنجاز.
وحين يملأ هذا التصور أفئدة أنصار الإصلاح تتملكهم قدرة هائلة لتجاوز عوائد الناس المشوبة بالفساد، حيث يظلون أعصياء على اتباع فساد استساغته العامة، وكأنهم بذلك يتمثلون الحديث الذي رواه الترميذي: » لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا ».
أعجبت بحال أهل الاصلاح فأنشدت عنهم قائلا:
أصلح ولا تَنْظُر من ذي العجز إقداما » » » »وتسامى تأتيك الدنيا طوعا وإرغاما
بادر إلى الخير العميم وانهض متألقا » » » »ولا تطع صاحب البؤس إنْ كان لوّاما
فكم عملا يأتيه جمر القصف بركانا » » » »وتحضنه أيادي العز والخُلْصِ إسلاما
أبشر مِن بابٍ ولو كان ظاهره عذابا » » » »فإن باطنه يخفي رشدا تجنيه إكراما
وقل للحزم أقبل شبرا فسنأتيك أميالا » » » » وقل للعابد يكفيك ذاك النهج إحراما
1 Comment
نعم صحيح