الكوارث تفضح أميتنا الدينية..
عبد المجيد مجيدي*
مجرد تساؤل: لماذا نطلب النجدة من الله تعالى إثر لحظات الشدة والحاجة، ثم ننسى ذكره في أوقات الرخاء والدعة؟
إن النفس البشرية الموجودة على هذه الأرض مجبولة على طلب العون من أول قوي تبادر إلى الذهن في لحظات الجزع والخوف.
فالقوي الأزلي هو الله، وطبيعيا أن تطلب النفس النجدة من القوي تعالى، فقد وُجِدت آلهة بتسميات مختلفة عند الحضارات البشرية تعبيرا عن هذا الاستنجاد والحماية اللامحدودة.
لكن لو افترضنا أن النفس تخيلت قويا آخر غير الله تعالى فإنها ستلجأ إليه، إذ تتوهمه في تلك اللحظة هو القوي، وتترك القوي حقيقة وهو الله تعالى.
تقرر كلمات الله هذه الحقيقة: « هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق »؛ دعوة اضطرارية تتلاشى بعد زوال خطر الكارثة الطبيعية، لوجود إله آخر أشد ارتباطا بالنفس البشرية: « واتبع إلهه هواه ».
وهذا فرعون قال: « أنا ربكم الأعلى »، وكان ذلك في لحظات الانتشاء والسطوة، لكن في لحظات الخوف الشديد طلب فرعون النجدة ممن كان يعتبره خصمه ومنافسه وهو الله تعالى. يؤرخ القرآن الكريم لهذه الردة في الموقف: « وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ».
لذلك فتوجه الإنسان إلى ربه في لحظات الضعف والأزمات هو عودة اضطرارية ولجوء مؤقت، يختفي مع استرجاع جو الهدوء والراحة، ليستغني الإنسان بعد ذلك عن إلهه الاحتياطي، فيعبد آلهة أخرى أكثر إمتاعا ومؤانسة.
« الله » في تصور « إيمان الكوارث والنكبات » يعني أنني عندما أحتاجه أنادي عليه ليقضي حاجاتي أو يخدم مصالحي، أو يكون لي شرطي حماية من الإنس والجن، أو أدعوه ليهلك قوما ويرمل نساء وييتم أطفالا، أويحرر أوطانا أويقرر شرعية سلطانية.
لكن هناك من الناس من يرى غير ذلك؛ فالمتضررون مثلا في أرواحهم ومساكنهم وممتلكاتهم بسبب الكوارث الطبيعية يحمدون الله تعالى، ويرونها من قدر الله. ويصفها الواعظ المتحمس بأنها غضب رباني لظهور المنكرات والفواحش وانتشار البدع وكثرة ذنوب العباد خاصة في بلاد المسلمين..
غير أنه في واقع الأمر هذا الحمد والصبر عند الصدمة الأولى واحتساب الأجر هو حيلة فقهية قديمة تنطال على البسطاء إيمانيا، وتلعب بوجدانهم من أجل توهيمهم أن هكذا اعتراض هو قدح في إيمانهم بالقدر خيره وشره؛ فيعلقون فشل مشاريع بناء الطرقات وتجهيز البنيات التحتية على السماء، وكأن الله يحارب الحق في الحياة الكريمة كتجلي من تجليات حقوق الإنسان.
لكن لو غيرنا زاوية النظر الإيماني لقلنا أن فك العزلة عن البوادي وتنمية البلاد وتطوير الحياة المدنية.. كل ذلك أيضا من قدر الله، والسعي لخير الدنيا هو بعينه من أركان الايمان، فكما « لا يرضى الله لعباده الكفر » فلن يرضى لهم كذلك التشرد والأذى والمسكنة والذلة!
لأن الله يتصف بالكمال، ولا يحتاج إلى إبراز قوته والتباهي بها، أو معاقبة الضعيف وتعذيبه كي يكمل نقصا، بل على العكس من ذلك فالكامل لا يأتي منه إلا الخير كله، أما الشر فمنبعه نقص الإنسان وعجلته وذئبيته.
ولنتأمل إجابات العبد الصالح الذي صاحبه النبي موسى. ففي خرق السفينة قرر: « فأردت أن أعيبها »، أما عن كنز المدينة فقال: « فأراد ربك أن يبلغا أشدها ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك »، فأرجع إرادة العيب وفعل الخرق إلى نفسه الضعيفة، واعتبر إرادة حماية مال الغلامين من كمال الله.
من هنا نعتبر مسؤولية تدبير شأن الناس؛ باعتبارها تعاقدا زمنيا وليس قدرا محتوما؛ تتجلى في تحمل مصائب الدنيا التي اكتسبها الإنسان بفساده الأرضي. أما قوانين الطبيعة فهي لا تميز بين موجودات عالم الشهادة؛ لأن الدنيا مجتمع الإنسان، والله تعالى رب الناس وليس حكرا على المؤمنين وحدهم. أما اتهام خالق الكون خوفا من المُتَّهَمين الحقيقيين هو بعينه الخور الإيماني والسذاجة الشعبية في أدنى مستوياتها الإدراكية.
نقول هذا لأن الأمية الدينية في هذه الظروف تجد لها حتما محاضن للطوفان المتطرف الذي هو أشد وأخزى من طوفان الطبيعة. فالكوارث هي إشارات وتلميحات لضرورة تكريس الوعي الديني، وتجديد الفهم للإيمان بالقدر الذي ليس شرا كله وليس خيرا كله، وهي مناسبات تعري عقلية المواطن ــــEtat d’esprit ــــ ومدى استعداده لعُمارة الأرض وإصلاحها، وتقيس درجة محاربة الفساد ومنابع الإفساد، والأهم من كل ذلك ترتب الحكومات في سلم قيادة الأمم.
غير أننا لا زلنا لحد الآن نعتقد ـــ بسبب أميتنا الدينية ـــ أن الله مسئول عن كوارثنا، لذلك ندعوه وفي أعماق النفس عتاب له وتأنيب، كما أننا ننساه في نجاحاتنا لأن في الذهن توهم توفيق وتأييد من « الأنا » وليس منه « هو ».
إن أول ما يُتَعلم في مدرسة الإيمان هو « الصدق » مع الناس عند تحمل المسئولية، وليس إيجاد مبررات مقدسة لدى قلوب العامة في كل كارثة لتفادي المساءلة الأرضية..
فأين الصدق في التعامل مع كوارثنا أيها الأحبة ؟!
Aucun commentaire