معاهدة الحماية.. حينها سُيّس التاريخ
معاهدة الحماية.. حينها سُيّس التاريخ
بقلم د. محمد بالدوان[1]
نشرت جريدة هسبريس الالكترونية مقالة موسومة بـ « معاهدة الحماية.. عندما يتسبّب السلطان في استعمار الأوطان » بتاريخ 18 نونبر 2014، وقدمت لها الجريدة بما يلي: « دأب أغلب الناس على الحديث عن استقلال المغرب أكثر من استعماره، وعن طريقة نيله الاستقلال من المحتل الفرنسي أكثر من التساؤل عن العوامل الرئيسة التي أفضت إلى استعمار هذا الوطن، حتى أن الجواب عن سؤال « كيف احتُلّ المغرب » يبقى شبه مجهول لغير المهتمين بالتاريخ المعاصر للمغرب ».
يُظهر عنوان المقالة ومضمونها، وتقديم الجريدة، قصورا كبيرا في الثقافة التاريخية لكاتب المقالة ومقدمها، وإن شفع للمقدم افتقاره للمنهجية العلمية، فإنه لا يعذر كاتب المقالة، وهو دكتور كما قُدم، عن هفواته المنهجية وشروده عن المنهج الأكاديمي في مقاربة الموضوعات، بخاصة إذا تعلق الأمر بقضايا حساسة، ولا يشفع له الاعتذار بأنه قارب الموضوع من زاوية سياسية. أليس بمقدوره مراجعة بعض الأحداث التاريخية قبل تناول الموضوع؟ ألا يجذر به اكتساب حد أدنى من الثقافة التاريخية للخوض في موضوع تاريخي برؤية سياسية؟ أ مِن الأكاديمية اعتماد مرجع وحيد لبناء قناعات راسخة؟ وبأي معنى كانت مقاربته سياسية: هل كان يقصد الكاتب التركيز على الحيثيات السياسية لتوقيع معاهدة الحماية؟ أم كان يريد تمرير موقف سياسي عبر معاهدة الحماية؟
تصحيحا لما ورد من تجاوزات تاريخية ومنهجية في المقالة المشار إليها أعلاه، سأقارب موضوع الحماية واحتلال المغرب، من زاوية تاريخية ترصد مفهوم التحول التاريخي العام للمغرب والعالم الاسلامي منذ القرن 19م ومطلع القرن 20، وهو الأساس لأنه أصلا تاريخيا عاما لا يمكن إنكاره، وإليه يرجع الفرع الذي تمثله الأحداث المجهرية المرافقة لتوقيع معاهدة الحماية، وفي ضوئه يمكن تقييمها واتخاذ مواقف مبدئية أوسياسية من معاهدة الحماية واحتلال المغرب.
من قال أن احتلال المغرب جاء بعد معاهدة الحماية(30 مارس 1912)، فقد يكون قوله مناسبة طيبة لإحداث قسم دروس التاريخ المسائية. إن من يتأمل تاريخ المغرب الحديث يجد أن منحنى تطوراته تتدحرج بتقدم الزمن نحو الانحدار. ولن أنطلق من سقوط سبتة منذ مطلع ق15م، ومدن ساحلية أخرى خلال القرن 16م. بل سأنطلق من القرن 19م، وأجزم بأن المغرب انتهى شأنه في أواسط هذا القرن.
اصطدم المغرب عسكريا بفرنسا منذ 1844 في معركة « إيسلي » بعد رفض السلطان عبد الرحمان بن هشام تسليم الأمير عبد القادر الجزائري لفرنسا، فمُني إثرها المغرب بهزيمة نكراء وفقد بعدها الكثير من الأراضي والسيطرة على الحدود. ولم يمر سوى 16 سنة حتى اصطدم عسكريا من جديد بإسبانيا(حرب تطوان 1859) انتصارا لثورة قبائل الأنجرة ضد بنايات الإسبان خارج حدود سبتة. ومني الجيش المغربي إثرها بهزيمة ثانية غرّمته 20 مليون ريال إسباني، وأزالت حجاب الهيبة عن المغرب واستطال بعدها النصارى على حد تعبير الناصري صاحب كتاب « الاستقصا… ».
فالمسألة كما يبدو تتعلق بمعركتين خطيرتين أنزلتا المغرب إلى الحضيض، وأفقداه السيطرة على التراب والتحكم في ميزانية الدولة، إذ بدأ توغل الأجنبي بعدها إلى المغرب بشكل طوعي ومنظم بمعاهدات صلحٍ تعطي امتيازات للمنتصر وتجهز على ما بقي من قوى المنكسر.
فقد شهدنا خلال هذه المرحلة دخول الشرطة الاسبانية إلى التراب المغربي لتحصيل رسوم الموانئ لضمان استرجاع ما بقي من غرامة حرب تطوان(10 مليون ريال إسباني)، كما شهدنا تزايد أعداد المغاربة المحميين من قبل الأجانب على الأراضي المغربية بموجب الاتفاقية المغربية الفرنسية لسنة 1863.
إنها صدمة « الحداثة »، التي ستولد رغبة بحث جامحة عند النخب المغربية لتدارك التخلف عن ركب الحضارة الغربية. ولن تبحث عن مستمسكات التفوق والقوة في كوكب آخر، لن تجده إلا عند فرنسا أو بريطانيا العظمى. سيشهد عهد الحسن الأول(1873-1894م) إصلاحات مصدرها الأجنبي الغازي، وهل يمتلك العدو ما يكفي من النبل لتقديم يد المساعدة؟ ! لم تؤت الاصلاحات أكلها، وتَواصل التنافس الاستعماري على المغرب، باعتباره سوقا جديدة واعدة تسمح بتصريف فائض الانتاج على النحو الذي فصله « ألبير عياش » في كتابه « المغرب والاستعمار… »، فاحتلت فرنسا وجدة والدار البيضاء سنة 1907، وتغلغل الاسبان في شمال المغرب منذ سنة 1909.
يمكنني وصف ما سبق قصة قصيرة « جدا » عن احتلال المغرب، بالرغم من أني لم أصل بعد إلى توقيع معاهدة الحماية سنة 1912. غير أني أتساءل دائما مع طلبتي لماذا قبل المغرب توقيع هذه المعاهدة بشروط مهينة أجهزت على ما بقي من سيادته؟ أهي الخيانة كما يوحي إلى ذلك البعض؟ أم هي الظروف القاسية التي راكمتها الأحداث سالفة الذكر؟
لا شك في أن توقيع المعاهدة جاء بعد تجريب المغرب الحل العسكري مرتين(حربا إيسلي وتطوان) ولم يجن منه غير مزيد من التراجع والاندحار سياسيا واقتصاديا وماليا، وبعد فشل الاصلاحات التي كان يرجى منها انتاشله من الحضيض، لم يعد مقتنعا بجدوى المواجهة العسكرية، لا بل لم يعد قادرا على المواجهة العسكرية.
وقع السلطان عبد الحفيظ النص العربي لمعاهدة الحماية يوم 30 مارس 1912 وهو نص كثير الفصول[2] بخلاف النص الفرنسي القصير والمشكل من تسعة فصول؛ وقعه من منفاه في فرنسا تحت الحراسة والمراقبة، وعبر التهديد والضغط كما ذكره محمد حسن الوزاني في « مذكرات حياة وجهاد ».
وبالرغم من أن بنود معاهدة الحماية جاءت لتجهز على سيادة المغرب وإخضاعه للسيطرة، فما فتئت فرنسا تسعى إلى خرق هذه البنود، لا سيما تعهدها في المادة الثالثة بتقديم الدعم للسلطان ضد كل « خطر يهدد شخصه أو عرشه أو يمس سكينة الأوضاع في دولته ونفس هذا الدعم سيقدم لخلفه في العرش، ولمن يأتي بعده »[3]. غير أن فرنسا نصبت محمد بن عرفة ونفت محمد بن يوسف وعرضت البلاد لفتنة جراء رفض المغاربة لمحمد بن عرفة « سلطان النصارى ».
أقف عند هذا الحد تاركا للقارئ فسحة تأمل تطورات أحداث المغرب الحديث(ق19م) كما رتبتُها، أو ليرجع إلى مصادرها، وليتساءل: هل بإمكان قائد كيفما كانت طينته: علوي أو عثماني أوشيعي أو تقدمي أو… أن يرتفع على هذا التراكم السلبي القاسي؟
لكن دعوني أهمس في أذن كل مولوع بالاختزال بأن هذا المنهج قد يكون قويما في الرياضيات، أما علم السياسية فلا غنى له عن إدراك الماضي بخاصة إذا تعلق الأمر بالبحث عن أحداث طواها التاريخ. حينذاك لا بأس من إعلان الموقف السياسي بعيدا عن الهوى والانطباع والهرولة إلى المواقف الجاهزة.
[1] – دكتوراه تخصص تاريخ.
[2] – وهو نص ضربت عليه السرية داخل الارشيف الدبلوماسي الفرنسي، كما ضرب الكثير من التكتم على الجزئيات المرافقة لتوقيع المعاهدة. راجع محمد حسن الوزاني، مذكرات حياة وجهاد، جواد للطباعة والتصوير، الرباط، 1986، ج5، ص: 92-93.
[3] – راجع تفاصيل خرق بنود معاهدة الحماية من قبل فرنسا: ألبير عياش، المغرب والاستعمار: حصيلة السيطرة الفرنسية، ترجمة عبد القادر الشاوي ونور الدين سعودي، القسم الثاني، دار الخطابي للطباعة والنشر، ط1، 1985، ص: 93.
Aucun commentaire