خوصصة قطاع التعليم العالي: الخيار الاستراتيجي للحكومة
بقلم: بلقاسم الجطاري
أقدمت وزارة التعليم العالي بداية الشهر المنصرم على إصدار مشروع قانون يقضي بتغيير وتتميم القانون 01.00 المتعلق بتنظيم التعليم العالي والبحث العلمي، وذلك في سياق مبادرة تشريعية تروم، حسب ديباجته، تحيين القانون المذكور (الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2000) وملاءمته مع مقتضيات الدستور الجديد، وتحسين حكامة المنظومة، ورفع الغموض عن عدد من مقتضياته. فضلا عن غايات أخرى مختلفة.
مشروع القانون الذي يقع في 48 مادة، والمكون من سبعة أبواب، جاء بمستجدات عديدة أهمها باب جديد خاص بالبحث العلمي، ومواد مختلفة موزعة على الأبواب الستة الأخرى. وهو مشروع مصوغ بالتعديل عن طريق الزيادة في مجمله، وهو في الآن نفسه، اجتهاد تشريعي يعكس، بكل تأكيد، التصور الحكومي لمهام الجامعة المغربية، ويرسم الخطوط العريضة لمشروع تطوير قطاع التعليم العالي، وتمكينه بترسانة تشريعية تسمح له بالمساهمة في إحداث الإقلاع الاقتصادي المأمول.
غير أن إلقاء نظرة سريعة على المستجدات التشريعية التي جاء بها المشروع كاف للوقوف على تردد المشرع في ملامسة العديد من المشاكل الجوهرية التي تعترض القطاع، واكتفائه بتسطير حزمة إجراءات إدارية (انتداب المجلس الأكاديمي وتحديد مهامه، تسمية مهام جديدة لمجلس الجامعة، انتداب مجالس تدبير المؤسسات وتحديد مهامها، تدبير الترشيحات الخاصة بالمناصب…)، وهي إجراءات قانونية تعطي الانطباع أن الداء التشريعي الذي يحول دون تطوير القطاع حبيس البنود الإدارية، وأن مشاكل القطاع وأعطاب المؤسسة الجامعية مردها إلى الإشكالات المسطرية، وليس إلى غياب المشروع السياسي الذي يضع التعليم العمومي على رأس قائمة الأولويات في كل مشروع إصلاحي محتمل.
سنتناول في هذا المقال الموجز بعضا من المقترحات التشريعية التي جاء بها المشروع، والتي تعكس، في تصورنا، أخطاء في تشخيص اختلالات المنظومة، وفشلا في وضع اليد على مكامن الداء في الجسد الجامعي، ولتكن البداية بحديث مشروع القانون عن استحداث مؤسسات التعليم العالي المنتسبة (المؤسسات الخاضعة لمختلف القطاعات الوزارية والتابعة لوصايتها)، وأخرى محدثة في إطار الشراكة، وذلك بهدف تحقيق اندماج النظام الوطني للتعليم العالي وتوحيده وعقلنته، بحسب منطوق مشروع القانون دائما.
إن هذا المرمى دونه عقبات كثيرة في تقديرنا، لأن الحكمة ليست بفتح المؤسسات الجامعية الجديدة، وتوزيعها على مختلف أقاليم المملكة، وكذا اختصار مؤشرات النجاح في بعدها العددي، ولكن الحكمة في تمكين هذه المؤسسات بالسبل الكفيلة بجعلها قادرة على توفير العرض التكويني المتميز ودفعها إلى الانخراط في سؤال التنمية من خلال الانفتاح على محيطها السوسيومهني والسوسيوثقافي. إن مآل هذه التجربة سيكون شبيها بمآل كل المبادرات المؤسساتية التي أقدمت عليها الدولة في إطار سياسة اللامركزية، وخير حجة نسوقها في هذا المضمار هي عودة الدولة إلى منطق الأقطاب الكبرى واقتراحها تقليص عدد الجهات في مشروع الجهوية الموسعة، كما لنا في تجربة التعليم الإبتدائي خير شاهد ودليل، وتحديدا في قيام وزارة التربية الوطنية بانتهاج سياسة المدارس الجماعاتية في ما يمكن اعتباره عودة إلى مركزة التعليم، وإعلانا صريحا عن فشل تجربة بناء المدارس في المناطق النائية. والذي ينبغي التنويه إليه هنا أننا لسنا ضد مبدأ فتح الأنوية الجامعية والمؤسسات المنتسبة في مختلف المدن المغربية المتوسطة والصغرى، ولكننا لا نرى من فائدة في تشظية الجهد وتشتيت بنيات الاستقبال والتكوين، لأن من شأن ذلك التأثير على مستويات المردودية والحكامة، وذلك من منطلق استحضارنا لواقع البلد وخصوصياته وإمكاناته البشرية والاقتصادية.
من المقترحات الجديدة التي جاب بها المشروع أيضا تلك التي مست مجال التعليم العالي الخصوصي، ومن خلال هذه المقترحات التشريعية يمكن تلمس الخطوط الكبرى للمشروع الوزاري، والوقوف على الإطار العام الذي يوجه التصور الحكومي لمهام الجامعة ووظيفتها التكوينية والتنويرية، ونعني هنا أن المشروع لم يكتف بتزكية التوجه الذي جاء به المرسوم موضوع التعديل، ولكنه مضى أبعد من ذلك وهو يقر إقرارا صريحا بالتزام الدولة تقديم الدعم اللازم للنهوض بهذا القطاع (يعد التعليم العالي الخاص طرفا أساسيا وشريكا، إلى جانب الدولة، للنهوض بمنظومة التعليم العالي والبحث العلمي، وتوسيع انتشاره والرفع من جودته، وتسعى الدولة إلى تطويره وهيكلته لكي يقوم بالمهام المنوطة به – ديباجة الباب الثاني). وبهذا المعنى تكون الدولة قد وضعت عجلة القطاع على سكة قانون السوق، وشرعت في التملص من واجبها القاضي باعتبار القطاع خدمة عمومية.
ليس هذا فحسب، إن مواد المرسوم المتعلقة بالتعليم العالي الخاص، واعتبارا للتحفيزات التي ما فتئت الدولة تقدمها للقطاع الخاص، ستفتح الباب أمام المقاولين الراغبين في استثمار أموالهم بالقطاع، وهؤلاء غير معنيين بالتوجهات الاستراتيجية التي تحتكم إليها الدولة من خلال مؤسساتها المنتخبة، لأن مرامي الفاعلين الخواص تدور في مجملها حول تحقيق الأرباح، والحفاظ على التنافسية اللازمة. ومن رحم هذا الواقع الذي يسهل استشرافه ستظهر إلى الوجود نفس الإشكالات والاختلالات التي برزت بفعل خوصصة القطاع العام واعتماد سياسة التدبير المفوض، من ذلك مثلا اجترار نفس المشاكل التي تخبط ويتخبط فيها التعليم المدرسي، بسبب استفادة القطاع الخاص من كفاءات القطاع العام، وعدم قدرته على تكوين طواقمه التعليمية الخاصة، وأيضا بسبب الأجور الهزيلة التي من المرجح أن يتلقاها المرشحون للعمل بالقطاع الخاص، وصيغ التشغيل التي يقترحها القطاع، والتي تقوم على أساس التعاقدات القصيرة الأمد.
ثمة في واقع الأمر سيل إشكالات واختلالات متوقعة، ونحن نكتفي بإعطاء الأمثلة وإثارة بعض من مصادر هذه الإشكالات. ماذا يعنيه فتح المعاهد والكليات الخصوصية ذات المخرجات الرفيعة ؟ إنه لا يعني أكثر من حرص الدولة على إعادة إنتاج التفاوتات الطبقية نفسها، وضرب مبدأ تكافؤ الفرص عرض الحائط. وإذا شئنا السير بالسؤال إلى مداه قلنا أنه يعني أيضا وضع القطاع في سياق فوضى السوق التي لا تؤمن بغير قانون العرض والطلب، وهو قانون لا يلتفت إلى الإنسان إلا باعتباره وسيلة، ولا يرى في التنمية إلا جانبها الاقتصادي البحت، ومن ثم كان خطرا على القيم التي تكرم الإنسان، وكان سدا يحول دون بناء المواطن المندمج في انشغالات وطنه والحريص على هويته.
سينتصب المعارضون وهم يدعون إلى النظر إلى تجارب الدول الأوروبية، وهذا قول مردود عليه برد صار نمطيا من كثرة اجتراره، وهو وجوب تأمل البنيات الاجتماعية ومقارنتها كاملة، وليس الاكتفاء بعقد المقارنات الجزئية التي صارت تبعث على التندر. إن إمكاناتنا لا تسمح لنا، في الوقت الراهن على الأقل، بخوصصة قطاع التعليم العالي، أو لنقل بتعبير أشد تركيزا إن واقعنا السوسيواقتصادي والثقافي لا يسمح للدولة بتوفير الدعم التشريعي واللوجستيكي والمادي للقطاع المذكور. والحق أن السير في اتجاه الخوصصة هو باختصار إعلان صريح عن سعي الدولة إلى تقليص عدد المستنفعين بالثروة، وحصر قائمة المستفيدين بمختلف أشكال الرأسمال المادي واللامادي الذي يزخر به البلد.
أليس في المشروع من حسنات تسجل له ؟ بلى، ويكفينا إعطاء المثال بحرص المشرع على تخصيص باب خاص بالبحث العلمي، يوضح الالتزامات والتدابير القانونية التي ستنظم هذا الباب، إنها خطوة هامة في طريق مأسسة البحث العلمي واحتضانه وتشجيعه، لكنها ستظل خطوة غير ذات أثر ولا فائدة ما لم يتم توفير الاعتمادات المالية الكفيلة بتطوير البحث. إن النهوض بالبحث العلمي يحتاج إلى قرار سياسي جريء يرفع من ميزانية البحث العلمي، ويوفر الدعم المؤسساتي الكفيل بخلق التنمية المستديمة. ومثل هذا القرار يحتاج إلى تصور استراتيجي واضح ذي خلفية فكرية ذات أسس عقلانية، وهو ما لا يتوفر في الوقت الراهن بسبب خضوع الفاعلين السياسيين لإكراهات التوازنات الاجتماعية، وتداعيات التحولات التي تشهدها المنطقة، فضلا عن قيود المؤسسات المانحة وإملاءات البنك الدولي، وعندما ستنجلي في الأفق إرهاصات هذا التصور ستكون مؤشرات النهضة بادية للعيان، وسيكون لنا، بالتأكيد، قول آخر.
Aucun commentaire