وضعية اللغة العربية الفصحى أمام اللهجات المحلية في العالم العربي
وضعية اللغة العربية الفصحى أمام اللهجات المحلية في العالم العربي
(نموذج المغرب في علاقته مع المشرق العربي)
ذ. بنعيسى احسينات – المغرب
إن اللغة العربية الفصحى في استعمالاتها، باعتبارها لغة القرآن ولغة رسمية بالنسبة للعالم العربي، من الخليج إلى شمال إفريقية، لا تتعدى القراءة والكتابة والتعليم والتدريس، رغم كونها كانت لسان العرب في الجزيرة العربية في الجاهلية، عبر التواصل اليومي والشعر وسوق عكاظ والمعلقات، وفي صدر الإسلام، في القرآن وسنة رسوله محمد (ص)، وفي عهد الخلفاء الراشدين الأوائل، قبل ما يسمى بالفتوحات الإسلامية، في الشرح والتدوين وجمع القرآن وغيرها.
واليوم يتم التواصل في العالم العربي، في جميع مستوياته وطوائفه، في الغالب الأعم، باللغة العامية المحلية أو ما يطلق عليه في المغرب بالدارجةأو اللهجة، حسب كل قطر قطر؛ قصد تسهيل الفهم والتبليغ كأن العربية الفصحى لغة أجنبية دخيلة.
أما في المغرب، تحتل الدارجة المغربيةأو اللهجة المغربية أو العامية المغربية، رغم تغير لكنتها من منطقة إلى أخرى، مكانة خاصة باعتبارها لغة التواصل اليومي بامتياز؛ في البيت والشارع والأماكن العمومية وحتى في الإدارات العمومية والخاصة، إلى جانب الأمازيغية (البربرية) المكرسة خصوصا في جل البوادي، وفي الجبال والمغرب العميق، واللغة الحسانية في الجنوب والصحراء المغربية. هذا دون أن ننسى من جهة، اللغة الفرنسية الموروثة من الاستعمار، المستعملة في الإدارات والمقاولات، وكذا عند الطبقات الأرسطوقراطية وبعض النخب المولعة بها في المدن الكبرى، وكذا الإسبانية في الشمال من جهة أخرى. أما العربية الفصحى فهي لغة القرآن، ولغة الكتابة والتأليف، والصحافة المكتوبة، ولغة الإذاعة والتلفزيون في نشراتها الإخبارية، وفي بعض برامجها من حين لآخر، ولغة الوثائق والتقارير والأحكام في الإدارات العمومية والمحاكم، إلى جانب كونها لغة التعليم والتدريس والمحاضرات مخترقة بالدارجة والفرنسية والإسبانية وغيرها في غالب الأحيان من أجل الشرح والتبسيط..
أمام هذا التشخيص المبسط، نجد أن اللغة العربية الفصحى محصورة في مجالات محددة، ومستعمليها أيضا محدودين وفي مناسبات محدودة كذلك. وهذا يجري في العالم العربي بطوله وعرضه مع اختلافات طفيفة. إلا أن الدارجة أو العامية أو اللغة المحلية وكذا الأمازيغية في المغرب الكبير، وزد على ذلك الفرنسية والإسبانية والإنجليزية وغيرها، هي كلها لغات التواصل اليومي عند كل الفئات بدون استثناء على طول الوطن العربي من الخليج إلى المحيط.
فإذا كانت اللغة العربية يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون، حسب نسبة الأمية بكل بلد وبكل قطر، وحسب المجالات المحددة لاستعمالها كما أسلفنا، فهي لا يستعملها الكثيرون من الناطقين بها بطلاقة وسلاسة بشكل سليم، كما حُدد لها أن تكون وتُستعمل من حيث القواعد؛ من نحو وصرف وبلاغة وأسلوب وتعبير. فحتى في الجزيرة العربية نفسها، التي هي منبت هذه اللغة باعتبارها لغة قريش ولغة القرآن، إذ لا أحد يتقنها نطقا وسلامة إلا الراسخين في علم اللغة وآدابها وفقهاء وشيوخ الدين على الأرجح. إنها تستعمل فقط في وثائق وتقارير الإدارات العمومية وفي التعليم والتدريس والقراءة والكتابة لدى نخب محدودة في المجتمع العربي.. وتضل اللغة المحلية (الدارجة والعامية والكردية والأمازيغية وغيرها من اللغات الأجنبية في كل بلدان العالم العربي) هي المستعملة على نطاق واسع جدا وبشكل يومي.
صحيح أنه في بلاد المشرق؛ أي في الجزيرة العربية والخليج والحجاز والعراق ولبنان والشام وفلسطين وحتى بلاد الكنانة (مصر)، تسود لهجات أو لغات محلية رغم تباينها الطفيف؛ من حيث النكهة واللكنة والنطق واستعمال بعض المفردات الخاصة بكل منطقة وجهة، تبقى متقاربة في عمومها وقريبة من العربية الفصحى من حيث البناء وجل المفردات المستعملة، لا من حيث النحو والصرف السليمين المتحكمين بصرامة في الفصحى. إلا أنه يقع التواصل في الغالب الأعم بين المتخاطبين بها بدون صعوبة أو عناء. هذا إذا ما استثنينا لغات ولهجات الأقليات في المشرق العربي كالكردية وغيرها.
لكن في شمال إفريقيا، في المغرب الكبير، خصوصا في الجزائر والمغرب، فدارجتهما؛ أي عاميتهما أو لهجتهما المتباينة شيئا ما من حيث اللكنة (مثلا العامية الجزائرية هي امتداد للعامية في شرق المغرب أو العكس)، رغم كون كلماتها عربية في مجملها تتخللها وتنصهر فيها الأمازيغية والرمانية والفرنسية والإسبانية، تبقى مستعصية على الفهم والتواصل مع باقي الدول العربية، إما لكون إخواننا العرب لا يبذلون أي مجهود أو لا يرغبون في تعلمها بالمرة، لأسباب ربما عرقية باعتبارها أدنى من لغتهم المستعملة عندهم في اعتقادهم، وهذا هو الراجح، أو لصعوبتها ومرجعيتها الأمازيغية، إذ الدارجة المغربية الشعبية مثلا، ليست عربية، بل هي أمزيغية بناء وصرفا، بكلمات عربية حسب الباحث محمد شفيق1. فهي اللغة الثانية للأمازيغين السكان الأصليون الذين لا زالوا يحتفظون بلغتهم الأصلية، اهتدوا إليها من أجل التواصل مع العرب المقيمين والمستقرين بالمغرب من الفاتحين والغازين والمهاجرين والنازحين من الأندلس، حسب ذ. محمد بودهان2. بمعنى تعريب الأمازيغية دون المساس ببنائها وصرفها، التي تحولت مع الأيام إلى دارجة أو عامية خاصة للمغاربة، انخرط فيها الجميع بعد اندماج التام بين العنصر الأمازيغي والعنصر العربي والأندلسي، بالمصاهرة والجوار وغيرها، يجمعهم الإسلام. هذه الدارجة ستعرف نقلة نوعية كبيرة، مع تطور التعليم وتقدمه في صفوف النخبة المتعلمة، وفي وسائل الإعلام السمعية منها والبصرية. إلا أنها لا زالت تحتفظ في غالبيتها ببنائها وصرفها الأمزيغيين. وهذا الأمر لا يفهمه إلا الناطقين بالأمزيغية والباحثين في علم اللغة المقارن.
ربما هنا تكمن الصعوبة في تعلمها من طرف الشرقيين، لأنها تختلف عن لهجاتهم المحلية بناء وصرفا، رغم وجود كلمات وعبارات عربية مشتركة. وهذا في الغالب ما يجعلهم ينفرون منها، إن لم يكن هناك أسباب أخرى تغذيها النزعة العرقية وعقدة تفوق لعنصر على باقي العناصر كما يتوهم البعض. وهذا ما يستشف من مواقف وسلوكات جل إخواننا المشارقة الذين يتجاهلون ويجهلون الكثير عن شمال إفريقيا، أي المغرب الكبير باعتباره، حسب قناعتهم، تابعا للعروبة وللبلاد العربية هوية، لكن يحتل الدرجة الثانية أو الثالثة، بين المنخرطين في العروبة باسم الإسلام، لا باسم الأرض والانتماء.
فالمغرب على سبيل المثال، يرحب دائما بفكر وفن وثقافة المشارقة ويلتهمها التهاما بدون عقدة نقص، كما يرحب، وبكرم حاتمي، بمفكري المشرق وفنانيه من كل المستويات حتى المغمورين منهم، في ندواته ومهرجاناتهوسهراته وحفلاته، ويغدق عليهم بسخاء من مال الشعب بدون حساب أو حرج. لكن في المقابل لا نجد نفس هذا الاهتمام وهذا التعامل عند إخواننا المشرقيين، إزاء مفكرينا وفنانينا، إلا من رحم ربك أو فرض نفسه في الميدان. هذا دون الحديث عن المواقف السياسية المحتشمة ناذرا، من وحدتنا الترابية وثغورنا المحتلة، إن لم تكن عكس التيار.
فرغم ما حققه المغرب من تطور وتقدم في شتى المجالات ومختلف القطاعات. ورغم كون أبنائه وبناته يتقنون لغة المشارقة من الخليج إلى النيل بدون مركب نقص، كما يتقنون لغات العالم، ولهم القدرة الخارقة في تقبل الآخر والاندماج بسهولة فائقة مع أي محيط اجتماعي كان، ولو أن هناك مبالغة ملحوظة في بعض الأحيان لدى بعض فناناتنا، لأن المشارقة يفضلون التحدث معهم بلغتهم المحلية لا غير.
ورغم إكرام وتكريم فناني المشرق في المناسبات الرسمية وغير الرسمية، إلا أن إخواننا المشارقة، لا زالوا ينظرون إلى المغرب وإلى المغاربة نظرة احتقار ودونية وانتقاص، خصوصا عندما يتحدث المغاربة بلغتهم العامية التي لا يفهمونها المشارقة، باستثناء كلمات قليلة جدا، مما جعلهم ويجعلهم يجهلون الكثير عن المغرب وعن المغاربة والمغربيات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فنانة مصرية تصرح أنها تجهل أن المطربة سميرة سعيد مغربية.
وعلى هذا قس مدى جهل وتجاهل كبير للمغرب وللمغاربة، والتركيز على التفاهات الشاذة؛ كالسحر والشعوذة وعهارة بنات المغرب ووصفهم بساحرات وخاطفات للرجال، التي هي في الأساس، من صنع الخليجين والمشرقيين أنفسهم، لإرضاء وإشباع نزواتهم، وهم مستعدون لإنفاق ملايين من البيترودلار على ذلك بسخاء حاتمي بكل جرأة وافتخار. فإذا كان المغرب ينتج السحر والشعوذة، فالمشرق يُقبل عليهما بنهم ويستهلكهما. فما دام هناك طالب ومستهلك، هناك منتج ومسوق. فمن الجاهل والمتخلف إذا، المنتج أم المستهلك؟ يقول المثل: إذا وجدتم أناسا يعبدون حمارا، فعليكم بالحشيش. إلا أن مواطنيهم ومواطناتهم يختزلون المرأة المغربية في السحر والعهارة، ويجهلون أو يتجاهلون ما حققته المرأة المغربية من تقدم ورقي، ومساهمة فعالة في كل الميادين وفي كل المستويات، التي كانت حكرا على الرجل. بل أصبحت اليوم تنافس المرأة الغربية والأمريكية في مجالات عدة، وتحتل بمساهماتها المتعددة والمتنوعة، مكانة متميزة في بلدها وفي العالم. فبقليل من البحث، يمكن معرفة الإنجازات الهائلة للمرأة المغربية، التي تشق طريقها بحزم وإصرار، نحو التقدم والمستقبل؛ كباحثة وعالمة، كسياسية وإدارية، كمقاولة ورئيسة جمعيات، كمفكرة وأديبة، كفقيهة ومرشدة دينية، كطبيبة ومهندسة، كقاضية ومحامية، كبرلمانية ووزيرة، كربانة الطائرة وسائقة القطار والترامواي، كضابطة في الجيش والأمن وغيرهما، كفنانة ورياضية، كعاملة وموظفة. أما الكفاءات المغربية في الخارج، فحدث ولا حرج.
فالمغرب، رغم الاكتفاء الذاتي والتقدم الملحوظ الذي يتوفر عليه وبشهادة العالم، لا بشهادة جهة أو إقليم معينين، يظهر انه لا زال في حاجة ماسة إلى الاقتداء والتعلم من الشرقيين المنتهية في الغالب صلاحية سياستهم وثقافتهم ومعارفهم وفنونهم. فحضورهم يكاد يكون ضروريا في حفلات المغرب ومهرجاناته وندواته، لأننا تعودنا على جرعة مشرقية، ومدمنين عليها كيف ما كان مستواها وجودتها،. لأن مطرب الحي لا يطرب، ولا كرامة لنبي في وطنه، لدى المسئولين على الثقافة والفنون ومنظمي الندوات والمهرجانات في المغرب، باعتبار أن المغاربة يحبون الفن والغناء الشرقيين بمفهومه الواسع. وهذا الأمر يجب إعادة النظر فيه.
إن مغرب الأمس واليوم، ينفق ملايين من الدراهم بالعملة الصعبة غالبا لهؤلاء، ليقولوا عنه بلد عربي مضياف، من أجل الاعتراف به كبلد عربي، المستمر بدون شروط، تقديم الولاء والإخلاص للشرق، لأنه يمنح له هوية عربية باسم الإسلام، خارج الجغرافية والتاريخ. في حين المغرب ليس عربيا بل بلد إفريقي أمزيغي رغم أنه دولة إسلامية، ورغم أن لغته الرسمية عربية وأمزيغية دستوريا. فالسنغال على سبيل المثال، بلد إفريقي وليس فرنسي لكون لغته الرسمية فرنسية، وتركيا وإيران بلدان إسلاميان لكن ليس عربيان ولغتهما الرسمية ليست عربية، نفس الشئ بالنسبة لماليزيا وباكستان وأفغانستان وغيرها. فلماذا نتحمل هذا الاحتقار والذل والتبعية العمياء لكل ما هو مشرقي حتى يتم الاعتراف بنا كتابعين فقط، من الدرجة الثانية أو الثالثة؟
أليس التحرر من هذه الهيمنة والتبعية المفرطة للمشرق، مطلب مشروع للتخلص من هوية مزيفة مصطنعة، لا تمت لا للإنسان ولا للأرض تاريخيا وجغرافيا بصلة؟ ألم يكن الصواب هو العودة إلى الأصل والتشبث به مع الاحتفاظ بمكتسبات لغوية وثقافية متنوعة ومتعددة اكتسبها عبر التاريخ وساهم فيها؟ وهذا لا ينقص من قيمة المغاربة والمغاربيين (المغرب الكبير)، ولا يضعفهم، بل يقويهم ويميزهم عن باقي دول العالم العربي. فإلى متى يظل المغرب تابع بدل أن كون مستقلا أو متبوعا عن جدارة واستحقاق؟ فالمغاربة أكثر حفظا للقرآن الكريم في العالم العربي، وأكثر إتقانا للغة العربية الفصيحة نطقا وقواعد وكتابة، وأكثر تشبثا بلغته وثقافته الأمازغيتين منذ آلاف السنين.
فاللغة العربية الفصحى في نهاية المطاف، بجماليتها الراقية؛ حرفا وكلمات وكتابة وصوت، باعتبارها أجمل لغة في العالم، التي نجد أن أغلب المساهمين في تقعيدها وبنائها وعلميتها وتطويرها، ليسوا عرب، تبقى في الواقع لغة نخبوية بامتياز. إلا أنها تكاد تكون لغة ميتة، نظرا لتقليص أو انعدام استعمالاتها اليومية بين كل أفراد المجتمع بمختلف فئاته وطبقاته. فسياسات التعريب والدفاع عنها باستماتة كبيرة إيديولوجيا وديماغوجيا، والمناهج والطرق والأساليب البيدغوجية المستعملة في تدريسها، لن تُجدي نفعا يذكر منذ سنين، لكونها لم تحتفظ على عنفوانها وراهنيتها. غير أن الباطن والخفي أو المسكوت عنه عند القائمين عليها والمدافعين عنها، هو الحفاظ على الهوية العربية والعروبية كهوية وكعرق، وتكريس التبعية أكثر منه الحفاظ وتطوير اللغة العربية كلغة، متذرعين بشعار العروبة والإسلام. فما يضر المغاربة، وربما كل المغاربيين، ليس اللغة في حد ذاتها بل الهوية العروبية المفروضة عليه أو عليهم فرضا، التي لا تمت بصلة مع أصلهم التاريخي والجغرافي الترابي. يمكن أن يكونوا أفارقة أمازيغ مسلمين لغتهم عربية وأمازيغة، دون أن يكونوا عربا ينتمون إلى الوطن العربي، كما وقع لمصر والسودان والجبوتي وغيرهم.
—————————————–
أذ. بنعيسى احسينات – المغرب
هوامش:
1 – الأسس الثقافية للثقافة المغربية. محمد شفيق باحث وعضو في الأكاديمية المغربية ومدير سابق للمعهد الملكي للأمازيغية. دراسة في مذكرات من التراث المغربي، الجزء الثامن.
2 – في الهوية الأمازيغية للمغرب. ذ. محمد بودهان. منشورات » تاويزا »، الطبعة الثانية (يمكن تحميله عبر لانترنيت).
1 Comment
ما فائدة اللغة العامية التي هي أصلا فقيرة في المفردات والمفاهيم الفكرية ولهذا السبب إستعمالها لا يمكننا إنتاج فكر فلسفي أو علمي أو حتى فكر أدبي راقي