التلميذ والهاتف النقال، أية علاقة..؟
المختار أعويدي
مدخل :
أحدثت تكنلوجيا الإتصالات ثورة هائلة في مختلف المجالات الإقتصادية، والإجتماعية، والسياسية، والعلمية، والثقافية، والتربوية.. لما وفرته من إمكانات نقل وتبادل، بل وتدفق المعلومات عبر وسائلها المختلفة، مِن وإلى مختلف بقاع الأرض. وهي بذلك قد خلخلت الكثير من المفاهيم التقليدية، وزعزعت عددا من الإعتقادات السائدة، بل وإطاحت بالكثير من القيم الراسخة، وأحدثت ارتباكا شديدا في مختلف أنماط الثقافات، بل وحتى الهويات الخاصة بالكثير من الشعوب. إنها فعلا ثورة هائلة يشهدها العالم، تعمل بشكل دؤوب على دك حصون مختلف الثقافات، والقلاع الهوياتية حتى الأكثر والأشد انغلاقا منها. وتسريع وتيرة ومفعول العولمة الشاملة، وجعل شعوب الأرض أكثر تجانسا من أي وقت مضى، بصرف النظر عما إذا كان هذا التجانس إيجابيا أو سلبيا..
أهمية الهاتف النقال ووظائفه :
ويمثل الهاتف النقال واحدة من الأدوات الرهيبة لهذه الثورة الشاملة، لما وفره من خدمات متعددة، وقدرة هائلة على نقل وتبادل المعلومات المختلفة، منطوقة كانت أو مكتوبة أو مصورة.. وما منحه من حرية شبه مطلقة في الحركة والتواصل، من وإلى أي نقطة أو بقعة على سطح الأرض. وما كسره من قيود كان يفرضها الهاتف الثابت. إنه أداة تكنلوجية جبارة، تجعل العالم بأكمله بين يدي المرء، برغم حجمه الصغير الذي لا يتجاوز قبضة اليد الواحدة.
إنه يؤدي في الوقت ذاته الكثير من الوظائف والخدمات العديدة. فبالإضافة إلى كونه هاتفا نقالا يسمح بحرية الحركة والإتصال مع أي نقطة على سطح الأرض، فهو أيضا مذياع لاقط لمختلف القنوات الإذاعية، وهو آلة تصوير، وكاميرا فيديو، وساعة منبهة، وجهاز تسجيل، وتخزين، وإرسال، واستقبال، وقراءةٍ لمختلف الوثائق الصوتية، والنصية، والصورية، والرقمية. وهو بالإضافة إلى كل ذلك حاسوب متناهي الصغر، يسمح بمختلف أشكال التواصل، بما فيها التواصل عبر شبكة الأنترنت، وبالتالي مختلف الشبكات الإجتماعية..
تنامي وتفاقم ظاهرة انتشار الهاتف النقال في صفوف التلاميذ :
إننا إذن بصدد آلة جبارة، موضوعة بين يدي أبنائنا التلاميذ، لها أكثر من حدّ وفائدة وخطورة في نفس الوقت. وتأتي خطورتها بالأساس من هذا الإنتشار الكبير جدا لهذه الأعجوبة في صفوفهم. حتى أننا نكاد نجزم أنه لا يوجد تلميذ يخلو جيبه من هذا الجهاز. بل اننا قد نجزم أنه قد تعوز بعض التلاميذ بعض الأدوات المدرسية (دفاتر، كتب..)، لكن تكاد لا تعوزهم أبدا هذه الآلة العجيبة. يتساوى في ذلك المنحدرون من الطبقات محدودة الدخل، والطبقات الميسورة على حد سواء. بل إنهم أول من يحوز آخر صيحاتها وموديلاتها الجد متطورة، والتي يتقنون استعمالها والتفاعل معها بشكل يثير الدهشة حقا.
لقد انتشر الهاتف النقال بمؤسساتنا التربوية بشكل واسع وفظيع، برغم ترسانة النصوص المانعة لذلك (المذكرة الوزارية، الأنظمة الداخلية للمؤسسات..)، حتى أنه قد أصبح أحد المكونات الأساسية للمجتمع المدرسي. مع ما يعنيه ذلك من تداعيات وخيمة العواقب، بالغة السلبية، سيئة التاثير للغاية على سير العملية التربوية بكل أبعادها وفي جميع فضاءاتها. سواء تعلق الأمر بفضاء القسم، وتأثير ذلك على سير الدروس ومستوى المردود الدراسي، وطبيعة العلاقات التربوية تلميذ/أستاذ، تلميذ/تلميذ، تلميذ/إدارة، وكذا سلامة مختلف عمليات التقويم والإختبارات وجدواها، وتدخل هذا الجسم الجديد للتأثير فيها. أو تعلق بباقي فضاءات المؤسسة التربوية (ساحات، ملاعب التربية البدنية، قاعات الأنشطة التربوية…) وما يفعله هذا الجسم الغريب في كل تلك الفضاءات من تأثير في نوعية العلاقات السائدة، وتوجيهها الوجهة السلبية، وبالتالي إنتاج سلوكات وظواهر سلبية في صفوف التلاميذ، غالبا ما يميزها العنف، والميوعة الأخلاقية، تـُعقد رسالة المؤسسة التربوية، وتعرقلها في أغلب الأحيان.
لقد أصبح الهاتف النقال معبود الكثير من التلاميذ وديدنهم، لا يكادون يفارقونه سوى مضطرين، عند دخولهم الحصص الدراسية، بل أن من بينهم من يجازف باستخدامه حتى وهو داخل القسم خلال الحصص الدراسية. سواء في التواصل مع زملائه التلاميذ، أو في التشويش وإثارة المدرس، أو في الغش في الإختبارات والفروض الدراسية. مع ما يعنيه ذلك من تشويش وإزعاج وحتى عرقلة للدرس، واستفزاز للمدرس والزملاء.
ولا تكاد الحصص الدراسية تنتهي حتى يصبح الجميع منهمكا في العبث بهاتفه النقال، إما لفحص الرسائل الواردة أو التعرف على المكالمات الضائعة، أو العبث بمضامينه من الصور والفيديوهات، أو التسلي بالألعاب الإلكترونية التي يتيحها، أو حتى الإبحار في الشبكة العنكبوتية بحثا عن الإثارة والتسلية في الغالب الأعم (ألعاب، أغان، أفلام، دردشة وتواصل عبر شبكات التواصل الإجتماعي المختلفة..). ويفوت ذلك على التلاميذ فرص التواصل الإيجابي، وبناء علاقات مفيدة، وتبادل الرأي بشأن عدد من القضايا التربوية التي ترتبط بالدروس ومضامينها، وسبل التعاون البناء فيما بينهم..
دوافع ومجالات الإستخدام السلبي للهاتف النقال من طرف التلميذ :
لقد أصبح استخدام الهاتف النقال من طرف التلاميذ داخل المؤسسات التعليمية يأخذ أبعادا سلبية، بل وحتى خطيرة في بعض الأحيان، مما ينعكس سلبا على الأداء التربوي للعملية التعليمية التربوية برمتها. ويمكن إجمال هذه الجوانب السلبية التي تستخدم فيها هذه الأداة من طرف التلميذ فيما يلي:
ـ الغش الدراسي : بالنظر إلى قدراتها الهائلة في التواصل، والتخزين، وقراءة مختلف الوثائق، تستخدم الهواتف النقالة في الغش والتحايل على مختلف عمليات التقويم التربوي، بما فيها الفروض، والإختبارات، والإمتحانات، وخاصة الإشهادية منها كامتحانات الباكالوريا. حيث يبدع التلاميذ طرقا غاية في الغرابة في الغش موظفين هذه الوسيلة. وقد تُلحق بها تقنيات أخرى، من قبيل السماعات العادية التي تستخدم تحت الحجاب من طرف التلميذات، أو سماعات البلوتوث متناهية الصغر التي تحشر في عمق الأذن من طرف التلاميذ الذكور على وجه الخصوص، حتى لا تكون مرئية. ناهيك عن زرع أعداد لا حصر لها من الهواتف النقالة في كل أنحاء الجسد، مستعملين في ذلك أشرطة لاصقة، حتى في الأماكن الحساسة أحيانا، وذلك للحيلولة دون الوصول إليها من طرف المراقبين. وتحسبا لتمكن المراقبين من الوصول إلى أحدها، فيتم بذلك اللجوء إلى الهواتف الإحتياطية. وقد يتم ارتداء ألبسة فضفاضة للتوهيم، وإخفاء الأثر.. وقد يتم تبادل وتقاسم نصوص الفروض والإختبارات بين التلاميذ حتى خلال حصص الإنجاز، بالإستعانة بتقنية التصوير وتقنية البلوتوث والرسائل القصيرة، وخاصة بين التلاميذ الذين يدرسون لدى نفس المدرس، وفي نفس المستوى الدراسي.
ـ التشويش والشغب : يستخدم النقال من قبل بعض التلاميذ أحيانا في التشويش على المدرس، عن طريق إصدار رنات هاتفية مجهولة المصدر، بأصوات غريبة ومستفزة (حيوانات، منبه السيارة، غناء، موسيقى…)، وأحيانا محاكاة حتى جرس المؤسسة، لإيهام المدرس بنهاية الحصة الدراسية.. وقد تستخدم آلة التصوير لالتقاط صور للزملاء أو للمدرسين باستعمال الضوء الكاشف (فلاش)، وهو ما يمثل إزعاجا وتشويشا حقيقيا. ويساهم تواطؤ باقي التلاميذ، وعدم كشفهم عن الفاعلين/المشوشين في استفحال هذا النوع من الشغب داخل الأقسام. وهو ما قد يفسد الحصص الدراسية، ويساهم في هدر الزمن المدرسي.
كما قد يستخدم النقال أيضا في التواصل بالرسائل الصوتية، أو النصية القصيرة داخل القسم خلال الحصص الدراسية بين تلاميذ نفس القسم أو من قسم لآخر. وقد ينشغل آخرون عن الدروس بالتواصل عبر شبكات التواصل الإجتماعي، أو بالإبحار في الشبكة العنكبوتية. وعند قيام بعض المدرسين بحجز هذه الهواتف، تندلع أعمال شجار وخصومات وأحيانا احتكاك بدني بين المدرس والتلاميذ المعنيين. مما قد يستوجب في بعض الحالات انعقاد مجالس تأديبية. وهو ما يعني إهدار الكثير من الجهد والوقت بسبب هذه الآلة.
ـ التحرش والإبتزاز والإزعاج : يلجأ بعض التلاميذ إلى استخدام الهاتف النقال لتحقيق بعض المآرب، من قبيل التحرش بزميلاتهم، واستدراجهن إلى ربط علاقات عاطفية عابرة. فقد يحصل التلميذ على رقم هاتف زميلته بطريقة من الطرق، وربما يتم ذلك بمساعدة زميلاته الأخريات، فتبدأ عملية المطاردة بالرسائل النصية الغرامية، أو المكالمات، داخل وحتى خارج المؤسسة، وقد يتحول ذلك إلى إزعاج حقيقي، ما قد يورط التلميذة المستهدفة في عدة مطبات، سواء داخل القسم تجاه أساتذتها، أو حتى داخل البيت تجاه أفراد أسرتها. وقد ينتهي الأمر أحيانا بخصومات وشجار داخل الأقسام خلال الحصص الدراسية، أو خارجها. بل قد ينتهي الأمر إلى مجالس التأديب حينما تسوء الأمور. وقد يقوم بعض التلاميذ والتلميذات بتقاسم أرقام هواتف زميلاتهن، وربما حتى صورهن العادية أو المعدلة، مع أشخاص غرباء عن المؤسسة، ما قد يعرضهن للضغط والإبتزاز وحتى الإغراء، وربما الوقوع والتورط في علاقات تمهد للإنحراف، والعزوف عن الدراسة. وهو ما تكون له نتائج وخيمة على المسار الدراسي للضحايا.
وعندما يحصل التجاوب بين التلميذات والتلاميذ، يتم تبادل الرسائل الغرامية النصية، وحتى بعض المضامين الإباحية، خلال الحصص الدراسية. وقد يلجأ بعض التلاميذ أو التلميذات إلى تمثيل بعض المسرحيات (إغماء، مغص..) حتى يسمح لهم المدرس بالتوجه إلى المرافق الصحية (مرحاض) للمؤسسة، حيث يتم إجراء مكالمات غرامية كاملة في غفلة من الأستاذ وإدارة المؤسسة. وقد ينتهي الأمر بعدم حضور حصص دراسية كاملة بسبب الإنشغال بهذه المكالمات. ما قد يفتح الأبواب على منزلقات ومخاطر قد تهدد المسار والمستقبل الدراسي للتلميذ.
ـ التشهير وتصفية الحسابات : قد يتحول الهاتف النقال لدى التلميذ أحيانا، إلى أداة للتشهير، وتشويه السمعة، وإلحاق الضرر بالآخر، في إطارالصراع مع من يعتبرهم خصوما له، أو في حالة عدم التمكن من تحقيق الذات في بعض الأمور الشخصية. أو في حالة التعرض لما يعتبره تعنيفا، أو تجريحا، أو تبخيسا، أو إهانة، أو حرمانا من الغش.. أو فقط رغبة في التسلية والمزاح.
فقد يتم استخدام الهاتف خاصة من طرف بعض التلاميذ الذكور الذين فشلوا في ربط علاقات عاطفية مع زميلاتهم، في التقاط صور شخصية لهن، في أوضاع معينة خلال الحصص الدراسية، وخاصة حصة التربية البدنية، أو داخل فضاءات المؤسسة الأخرى. ثم يتم تعديلها والعبث بها، بالإستعانة ببعض برامج معالجة الصور (فوطوشوب..)، وربما حتى نشرها بعد ذلك على الشبكة العنكبوتية. ما قد يُلحق الأذى بسمعة التلميذات المستهدفات، ويؤدي إلى نشوب شجارات تكون فضاءات المؤسسة مسرحا لها. وقد يتدخل الآباء أحيانا على الخط، ما يؤدي إلى تطورات سلبية، قد تصل أحيانا إلى ردهات القضاء. وأحيانا قد يؤدي انتهاء علاقة عاطفية عابرة بين تلميذين، إلى استخدام الصور، أو الفيديوهات المخزنة على الهاتف النقال إلى أدوات للتشهير وتشويه السمعة. وقد لا يسلم حتى الأساتذة والإداريون أحيانا من هذه العمليات، فقد يتم تصويرهم بواسطة النقال في وضعيات معينة، قد توحي بالكثير من الحمولات السلبية، بهدف استعمالها الكيدي ضدهم، لأجل التشهير بهم، والنيل من سمعتهم، بدوافع الإنتقام و »رد الإعتبار ».
ـ تنسيق مختلف الأعمال الجماعية أو الفردية : أصبح الهاتف النقال يتيح للتلاميذ إمكانية التنسيق القبلي لمجموعة من الأعمال المختلفة التي يهمّون القيام بها، سواء داخل المؤسسة التعليمية، من قبيل التغيب الجماعي، أو مقاطعة بعض الحصص الدراسية، بل وحتى تهييء بعض الوقفات الإحتجاجية والإضرابات (مسار نموذجا..)، أو حتى الإعداد لإثارة الشغب، أو تبادل مواضيع الفروض والإختبارات المختلفة إبان إجرائها. أو خارج المؤسسة، من قبيل تنسيق مواعيد جماعات/عصابات واستدعاء أفرادها للمشاركة في اعتراض سبيل الخصوم واستعمال العنف، وتصفية الحسابات، وربما الإنزلاق إلى تنسيق أعمال إجرامية (سرقة، مخدرات، اعتراض سبيل..)
ـ ترويج المخدرات وأقراص الهلوسة : قد يصل الأمر في بعض المؤسسات، أن يصبح النقال أداة لترويج السموم في صفوف التلاميذ، مثل المخدرات المختلفة، وأقراص الهلوسة. ويتحول بذلك بعض التلاميذ إلى وسطاء بين تجار هذه السموم، الذين يتربصون بالفضاءات الخارجية للمؤسسات التربوية، وبين ضحاياهم من التلاميذ. وهو ما قد تنجم عنه تأثيرات سلبية على الأداء التربوي، وعلى سلوكات وعلاقات هؤلاء التلاميذ، في حال انزلاقهم إلى التعاطي والإدمان.
ـ التباهي وإبراز الذات والتعبير عن الإنتماء الإجتماعي : يمثل الهاتف النقال أداة للتباهي والإفتخار فيما بين التلاميذ، ووسيلة لاستعراض المواهب في استعماله، واستيعاب مضامينه وقدراته المختلفة، وبالتالي وسيلة لفرض الذات وسط الزملاء والزميلات. ما يدفع إلى قيام تنافس محموم فيما بينهم، لأجل اقتناء أفخر الأنواع، وآخر الموديلات والصيحات. وهو ما ينجم عنه حتما إبراز الإنتماء والخلفية الإجتماعية لكل تلميذ، وبالتالي تكريس الفوارق الطبقية فيما بينهم، وهو ما يتنافي ورسالة التربية وفاسفتها. وبروز التنافر والتباعد، وحتى التناحر والصراع أحيانا. ما قد يفرز بعض الظواهر السلبية كالسرقة، سرقة الهواتف فيما بينهم في مختلف الحصص، وخاصة حصة التربية البدنية. التي يتحلل فيها التلاميذ من هواتفهم إلى حين. أو القيام بتكسير أو إعطاب هواتف بعضهم البعض. مما يشعل خصومات وشجارات بين التلاميذ، ينجم عنها تكريس العنف والكراهية..
ـ تسجيل تخزين وتقاسم مضامين سلبية : يُسهل الهاتف النقال عمليات تسجيل، وتخزين، وإرسال، واستقبال مختلف المواد النصية، والصورية، والصوتية. وهي الإمكانات التي يستثمرها الكثير من التلاميذ في تقاسم وتبادل الكثير من المضامين غير الأخلاقية، ذات الحمولة الإباحية، أو حمولة العنف، أو التحريض، أو الكراهية أو غيرها من القيم السلبية. مستعينين في ذلك بالتقنيات التي يوفرها النقال كتقنية بلوتوث Blutooth، أو الرسائل القصيرة sms، أو رسائل mms. ما يكرس ثقافة سلبية مدمرة، قائمة على العنف، وتحكم الغرائز، سارية بين التلاميذ، لكنها غير معلنة، تقوم بالإجهاز على كل ما تعمل المدرسة على بنائه وتلقينه وزرعه وترسيخه لدى التلميذ، من قيم إيجابية. ما يجعلهم يعانون من ازدواجية في شخصياتهم وسلوكاتهم المختلفة.
النتائج السلبية لاستخدام الهاتف النقال :
إن هذا الإنتشار الكبير للهاتف النقال في صفوف التلاميذ، وما يرافقه من سوء استثمار واستغلال واستعمال هذه الأداة، وتوظيفها التوظيف السلبي السيء، سواء داخل المؤسسة التعليمية أو خارجها، ينجم عنه الكثير من المشاكل والعواقب الوخيمة، على التلميذ ومساره الدراسي، وحتى على توازنه النفسي والإجتماعي والتربوي والأخلاقي. ويُمكن إجمال بعض تلك العواقب فيما يلي :
ـ انشغال التلميذ، بل هَـوسُه بالهاتف النقال، قد يؤدي به إلى السقوط في حالة إدمان التعاطي لهذه الأداة. ما يجعله مرتبطا بها أشد الإرتباط، وملتصقا بها في كل أوقاته، حتى خلال حصصه الدراسية. وهو ما يعني ضياع أوقات ثمينة، ربما قد تنتهي بالعزوف عن الدروس، وإهمال إنجاز الواجبات الدراسية، وعدم الإهتمام بمطالعة ومراجعة الدروس، ما قد يدفع إلى الفشل الدراسي، بل والإنقطاع عن الدراسة..
ـ إفساد الحصص الدراسية، نتيجة التشويش والإزعاج المتعمد أو غير المقصود الناتج عن الرنات المختلفة الصادرة عن مختلف الهواتف التي يحوزها التلاميذ.
ـ صرف التلميذ عن استثمار أوقاته في تحريك مواهبه، والقيام بإبداعات وبأعمال إيجابية في مختلف المجالات (رسم، موسيقى، مسرح، بيئة..)
ـ المساهمة في استفحال الغش في صفوف التلاميذ، عند اجتياز الفروض والإختبارات والإمتحانات، ما يعني تعويدهم على التهاون في الإهتمام بالدروس، وعزوفهم عن تهيئها وامرجعتها. وبالتالي الدفع بهم نحو الفشل الدراسي.
ـ الحيلولة دون تقوية روابط التواصل الإيجابي للتلميذ مع محيطه (تلاميذ، أصدقاء..) وتقوية إمكانية إنزلاقه نحو العزلة السلبية والفضاء الإفتراضي، وبالتالي الإنحراف، ناهيك عن هدر أوقات مهمة لا تعوض.
ـ تمثـل وتشرُّب التلميذ لمجموعة من القيم الهدامة، التي تنعكس سلبا على بناء شخصيته ومساره الدراسي، نتيجة تقاسم صور وفيديوهات ووثائق، ذات مضامين مُخلة بالأخلاق السوية (إباحية، عنيف، كراهية..)
ـ ربط علاقات مشبوهة باستعمال الهاتف النقال (عاطفية، عصابات، إدمان، انحراف..) قد تورط التلميذ في أعمال إجرامية (مخدرات، سرقة، زنا…)
ـ تبذير مصاريف مهمة في اقتناء آخر صيحات النقال، وفي تعبئتها، وهو ما يرفع من كلفة التمدرس على الآباء..
ـ تنامي ظاهرة سرقة الهواتف فيما بين التلاميذ، رغبة في الحصول على « موديلات » تليق بطموحاتهم ورغبتهم في فرض الذات، ما يشعل صراعات وشجارات تنعكس سلبا على العلاقات التربوية، والمردود الدراسي..
ـ التأثير السلبي على صحة التلميذ البدنية والنفسية (الجهاز السمعي مثالا لا حصرا..)
إن هذا الوضع الوخيم الذي فرضه استفحال انتشار المحمول في صفوف التلاميذ داخل المؤسسات التربوية، وهذه النتائج الكارثية التي ينتجها على مستوى أدائهم الدراسي، ومستوى علاقاتهم التربوية والسلوكية والأخلاقية، وحتى على مستوى رسالة المؤسسات التعليمية نفسها، ليرمي بالمسؤولية جسيمة، على عاتق كل المتدخلين، والشركاء الفاعلين في العملية التربوية. وخاصة المؤسسات التربوية، والآباء وممثليهم. وفعاليات المجتمع المدني ذات الإهتمامات التربوية..
مسؤولية الآباء :
تكتسي مسؤولية الآباء أهمية قصوى في جزء كبير مما آل إليه الوضع داخل المؤسسات التعليمية نتيجة استعمال التلاميذ للهاتف النقال. تبرز هذه المسؤولية على عدة مستويات، تبدأ باقتناء الهاتف لفائدة الأبناء، ولا تنتهي باسترجاعه من إدارة المؤسسة، في حال حجزه نتيجة استعماله داخل فضاءات المؤسسة.
فالآباء يرتكبون عادة خطأ جسيما عندما يقتنون لأبنائهم ـ حتى وهم في سن مبكرة ـ أفخر أنواع الهواتف، ويقدمونها لهم كهدايا بمناسبة أو بدونها، من دون أن يُنبهوهم إلى ضوابط استعماله، ويُحذروهم من أخطاره، ويُحسسوهم بحدود استخدامه، خاصة داخل فضاءات المؤسسة التعليمية، أو على حساب أوقات الدراسة، والمراجعة، وتحضير الدروس. بل ان هناك من الآباء من يجارون أبناءهم بشكل مبالغ فيه، في اقتناء آخر موديلات وصرعات الهاتف النقال، متجاهلين أخطار ذلك على أدائهم التربوي، والدراسي، والسلوكي.
ومنهم من يبالغ في تحفيز أبنائهم، ودفعهم دفعا إلى الإنزلاق إلى مهاوي وأخطار الإستعمال غير المضبوط للهاتف النقال. فمتى ما تم حجز هواتف أبنائهم من طرف إدارة المؤسسة عند ضبطهم يستخدمونه داخل فضاءات المؤسسة، قد يحتجون على إدارة المؤسسة، ويستنكرون فعلها ذلك. ولا يتورعون عند استلامه من إدارة المؤسسة إلى إعادته في حينه إلى أبنائهم، برغم تنبيه الإدارة لهم إلى انعكاساته السلبية وأخطاره، وحتى إطلاعهم أحيانا على المضامين الإباحية غير الأخلاقية التي قد يتضمنها. وهذا يمثل في الحقيقة وجها سلبيا جدا لأوجه التنافر بين المؤسسة والآباء، وغياب التكامل والتواصل والتعاون. والذي يكون ضحيته في نهاية المطاف وفي غالب الأحيان التلميذ القاصر نفسه.
مسؤولية المؤسسة التعليمية :
لقد تنبه القائمون على الشأن التربوي منذ بدايات تداول الهاتف النقال في صفوف التلاميذ إلى تأثيراته السلبية على الفعل التربوي، وعلى أداء التلميذ والمدرس على حد سواء، فتم إصدار مذكرة وزارية (مذكرة :01 بتاريخ 03 يناير2000) تدعو إلى عدم استعماله من طرف العاملين داخل الحجرات الدراسية، وتمنع استعماله أو تداوله داخل فضاءات المؤسسة من طرف التلاميذ، وتـُحمل الآباء قسطا من المسؤولية متى ما تم حجزه من طرف المؤسسة. وقد تم تكييف النظام الداخلي للمؤسسات التربوية مع هذا المستجد، وأصبحت المادة 16 منه، تمنع استعمال الهاتف من طرف التلاميذ داخل المؤسسة.
وفي إطار محاربة الغش في امتحانات الباكالوريا، صدر قرار لوزير التربية الوطنية (2111.12 صادر في 31 ماي 2012) يخص تعزيز آليات ضبط كيفيات إجراء امتحانات نيل شهادة الباكالوريا. ينص على المنع الكلي على المترشحين الأحرار والرسميين إحضار الهاتف المحمول ـ ولو كان غير مشغل ـ إلى فضاء مركز الإمتحان، أو قاعات إجراء الإختبارات. بل ان القرار أكد على تطبيق أحكام الظهير الشريف 1.58.060 (25 يونيو 1958) على كل مترشح ضبط بحوزته هاتف نقال، وهو ما يعني تحريم وتجريم هذا الفعل. ويجعل العقوبة قد تصل إلى ثلاث سنوات، في حال تفعيل المساطر والإجراءات عند الضبط.
برغم هذه الترسانة من النصوص المانعة لاستعمال وتداول الهاتف النقال من طرف التلاميذ. يلاحظ أن الكثير من المؤسسات التعليمية، يسرح فيها التلاميذ ويمرحون بهواتفهم المحمولة، من كل شكل ولون ونوع، داخل فضاءاتها المختلفة، بما فيها أحيانا حتى الفصول الدراسية. حيث ينهمك كل تلميذ في عالمه الخاص مع هاتفه النقال من دون حسيب أو رقيب، ما يجعل هذه النصوص المانعة تبقى حبرا على ورق. ويدفع بالظاهرة إلى الإستفحال والتفاقم داخل المؤسسات، وتزداد تأثيراتها السلبية سوءا وخطورة، على التلميذ وعلى ظروف وشروط التمدرس بالمؤسسة.
وأحيانا حتى في الإمتحانات الإشهادية عندما يتم ضبط استخدام المترشحين للهاتف النقال في عملية الغش، لا يتم التعامل مع ذلك بالحزم الكافي. بتفعيل آليات الردع، وتحريك المساطر المنظمة. مما يوجه رسائل جد سلبية للتلاميذ، ويجعلهم يتمادون ويوغلون في استخدام هذه الوسيلة في إفساد الإمتحانات وإفراغها من مضامينها الدستورية القائمة على المساواة، وتساوي الفرص، والشفافية والمصداقية. وهوما يهز أركان البناء التربوي بكامله..
وإن هذا التغاضي والتساهل مع ظاهرة تداول واستعمال الهاتف النقال داخل فضاءات المؤسسة من قبل التلاميذ، رغم وضوح منطوق النصوص الواضحة والصريحة المانعة لهذا الإستعمال، يُلقي بجانب كبير من المسؤولية على الأطر العاملة بالمؤسسة، تربوية كانت أو إدارية، مسؤولية التداعيات السلبية للظاهرة وانعكاساتها الوخيمة على الفعل التربوي عموما.
خلاصة:
إن هذا الإنتشار الكبير للهواتف النقالة في صفوف التلاميذ، وتنامي استعمالها بكثافة في الوسط المدرسي، قد حول هذه المسألة إلى ظاهرة حقيقية، مُلفتة، ومُقلقة، ومُفسدة للمناخ التربوي، ومُهدرة لأوقات وطاقات التلاميذ والمدرسين على السواء، تستوجب تدخل وتجند الجميع لتلجيمها، وتحجيمها، وترشيدها. فإنه لا يستقيم أي مجهود أو مردود دراسي، في ظل غزو هذه الآلة لعقول ناشئتنا، وفضاءات مؤسساتنا، بشكل مستفحل صارخ.
وينبغي لأجل ربح هذه المعركة أن يتظافر جهد العديد من الأطراف المتدخلة بشكل مباشر أو غير مباشر في الشأن التعليمي. بما فيها المؤسسة التعليمية واستنفار جميع آلياتها ومجالسها وأنديتها التربوية، وكذا الآباء وجمعياتهم، إضافة إلى الإعلام بكل أنواعه، وأيضا مختلف الجمعيات ذات البعد التربوي. من أجل إدماج جميع المقاربات الإيجابية في التعاطي مع الظاهرة، لأجل تطويقها والحد منها. بما فيها المقاربة التربوية التحسيسية، والمقاربة النفسية السلوكية، والمقاربة الإجتماعية، دون استبعاد المقاربة الزجرية الرادعة، بتفعيل مختلف النصوص الملامسة للمسألة، لأجل إعادة الأمور إلى نصابها، والمساهمة في ضمان شروط تمدرس طبيعي وسليم لأبنائنا التلاميذ.
Aucun commentaire