حزب العدالة والتنمية ومشروع الهيمنة على مؤسسات الدولة والمجتمع
حزب العدالة والتنمية ومشروع الهيمنة على مؤسسات الدولة والمجتمع
محمد إنفي
إذا كانت الدولة هي عبارة عن منظومة من المؤسسات الدائمة وذات الطابع العام ولها أجهزة مسئولة عن صياغة القرارات وتنفيذها في المجتمع، فإن هذا الأخير- المكون من الأفراد الذين تجمعهم شبكة من العلاقات- له، هو أيضا، كيانه الثقافي والاجتماعي الذي يحتاج إلى مجموعة من البنيات والمؤسسات لتنظيم هذه العلاقات. وكل اختلال في العلاقة بين الدولة والمجتمع، يتولد عنه الاستبداد واحتكار السلطة وتعطيل دور المؤسسات الوسيطة.
في المجتمعات الديمقراطية الناشئة، يبقى النكوص والتراجع عن المكتسبات وارد في كل لحظة، لكون التقاليد الديمقراطية غير راسخة ومؤسساتها غير محصنة. فالجنوح إلى الهيمنة والاستبداد والسيطرة على كل المؤسسات، قد يجعل من بعض مؤسسات الدولة (الحكومة، مثلا) أو بعض مؤسسات المجتمع (الحزب، الجمعية…) أدوات لخدمة المصلحة الحزبية الضيقة وليس لخدمة مصلحة الدولة والمجتمع. وفي هذه المقالة المتواضعة، نبرز ذلك بالأمثلة.
ففي الوقت الذي تطلب فيه عدة دول أفريقية الاستفادة من تجربة المغرب في مجال تدبير الحقل الديني، تأبى بعض الجهات إلا أن تشوش على الصورة الإيجابية لبلادنا في هذا المجال وتجعل من الاستثناء المغربي شيئا من الماضي. فبدل أن يبقى هذا الحقل بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة، أرادت جهات أن تجعل منه مجالا لتركيز مشروعها الإيديولوجي الخاص وميدانا لتصريف خطابها السياسي، ضدا على أحكام الدستور وعلى الاحترام الواجب لحرمة المقدسات. ويأتي على رأس هذه الجهات، الحزب الحاكم الذي يريد بسط سيطرته على المؤسسات الدينية بواسطة ذراعه الدعوي، المتمثل في حركة التوحيد والإصلاح، المرتبطة بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
لقد كاد أن يصبح مألوفا في بعض المدن وفي بعض المساجد أن تسمع يوم الجمعة ومن فوق المنبر خطابا سياسيا، إما يمجد موقفا معينا أو يصفي حسابه مع جهة ما، دون الاكتراث لما يسببه ذلك الموقف من حرج للمصلين الذين لبوا النداء ليس لسماع الآراء السياسية للخطيب وإنما جاءوا لسماع موعظة تفيدهم في دينهم ودنياهم وتعينهم على أداء واجباتهم على الوجه الأكمل.
ويكاد يكون أغلب فرسان هذا النزال السياسي من المنتسبين أو المتعاطفين مع حركة التوحيد والإصلاح. وهنا، يتكشف الوجه الحقيقي للذراع الدعوي للعدالة والتنمية، الذي يعمل على اختراق المؤسسات الدينية، وذلك بواسطة خطباء ووعاظ يدينون بالولاء لهذه الحركة؛ ومن ثم لحزب العدالة والتنمية. فبعض الخطباء، هنا وهناك، لا يترددون في الإعلان، صراحة أو ضمنيا، عن انخراطهم القولي والفعلي إلى جانب هذا الحزب في الصراع السياسي الدائر ببلادنا بين المحافظة والحداثة و بين الحاكمية والديمقراطية.
لا نحتاج أن نذكر باستغلال فضاءات العبادة في الحملات الانتخابية من قبل بعض الخطباء الذين لا يتورعون عن إقحام المساجد في حساباتهم السياسية، دون مراعاة لقدسية الأمكنة ولتنوع مشارب المصلين السياسية والفكرية والعقدية، في حين يربأ الفقهاء والخطباء، الذين قد يكون لهم تعاطف سياسي مع أحزاب أخرى، بنفسهم عن إقحام أماكن العبادة في الحسابات والصراعات السياسية. ولا نحتاج أن نذكر بالحملات التكفيرية بسبب الخلافات السياسية والفكرية، والتي تكون منابر المساجد، في كثير من الأحيان، مسرحا لها.
وآخر تقليعة في استغلال المساجد للترويج السياسي، أتتنا من طنجة حيث شبه أحد الخطباء « بنكيران » بالرسول صلى الله عليه وسلم. ففي تسويق غير مسبوق لصورة زعيم حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة، أقدم خطيب مسجد محمد الخامس بطنجة (انظر مراسلة « محمد العمراني » في الموضوع بجريدة « الاتحاد الاشتراكي » ليوم الخميس 6 مارس 2014)، على تشببه « عبد الإله بنكيران » بالرسول محمد( ص).
ولتمرير هذا التشبيه، فقد خصص الإمام خطبة الجمعة لسيرة خير البرية، مركزا على حسن تعامله مع أفراد عائلته وبالأخص مع أحفاده من فاطمة الزهراء، ليقحم الخطيب، بعد ذلك، « بنكيران » في خطبته، ليس بطريقة مسقط الطائرات، كما قد يظن البعض، بل بشكل مدروس ومحسوب، حيث أشاد بتأسيه بالرسول الكريم قبل أن يستشهد بالفيديو الذي يظهر فيه « بنكيران » وهو يلاعب أحفاده. وقد كان ينقصه فقط أن يعرض على المصلين الفيديو المذكور.
وهنا، نفهم لماذا تم تداول ذلك الفيديو العائلي بشكل واسع في « اليوتوب » وفي المواقع الاجتماعية وفي الجرائد الإليكترونية. فالأمر يبدو مدروسا بعناية؛ ولم يكن ترويجه لا اعتباطيا ولا مجانيا. فللذين تساءلوا، في حينه، عن خلفيات نشر ذلك الفيديو، يأتيهم الجواب من خطيب مسجد محمد الخامس بطنجة. وهو جواب يؤشر على وجود « مخطط خطير يستهدف السيطرة على المساجد (…) من خلال تجنيد الخطباء والأئمة المجندين من طرف حركة التوحيد والإصلاح (…)، وهذا يدفعنا مرة أخرى لدق ناقوس الإنذار للتحذير من هذا الاستغلال الخطير لحرمة المساجد، والذي بلغ مستويات غير مسبوقة في ظل الغياب شبه التام للوزارة الوصية على الحقل الديني التي يبدو وكأنها سلمت مفاتيح مساجد المملكة لحركة التوحيد والإصلاح » (« محمد العمراني »، في المراسلة المشار إليها أعلاه).
إن تساهل الجهات المسؤولة – رغم تنبيهها، إما إعلاميا أو بواسطة رسائل موجهة لمن يهمهم الأمر، كما فعل الاتحاد الاشتراكي، مثلا- مع استغلال بيوت الله لتمرير خطاب تكفير الخصوم السياسيين أو للدعاية لسياسة حزب العدالة والتنمية، في بلد به تعددية سياسية وثقافية وفكرية، لمن شأنه أن يتخذ أبعادا خطيرة، خصوصا وأن بعض الخطباء يتجاوزون واجب التحفظ ويوظفون منابر المساجد للدعاية السياسية، دون اكتراث لما يمكن أن يحدثه ذلك من اشمئزاز ومن ردة فعل لدى المصلين الذين لا يقاسمون حزب العدالة والتنمية اختياراته السياسية والفكرية.
وأكاد أجزم أن ما منع، إلى حد الآن، المصلين من تنظيمات أخرى من رد فعل مباشر على بعض الخطباء، هو الاحترام الواجب لأماكن العبادة والمراعاة لشعور المصلين والحرص على عدم السقوط في الاستفزاز. لكن كثرة « الحك على الدبرة »، قد يفقد معه البعض صبره ويخرج عن طوره؛ وبهذا، سنسقط في الفتنة. فهل هذا ما يريدونه؟
إن المساجد، نظرا لوضعها الاعتباري ولدورها الاجتماعي، تعتبر مؤسسات مجتمعية بامتياز، رغم إشراف الدولة عليها بواسطة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية. فالمسجد هو المكان الوحيد الذي يقصده الناس خمس مرات في اليوم على طول أيام السنة، ليس طلبا لمنفعة مادية أو لخدمة إدارية، بل تلبية لنداء رباني واستجابة لدافع روحاني.
ويكتسي يوم الجمعة (عيد المؤمنين) أهمية خاصة عند المسلمين. ولأهميته، فقد شرع الله خطبة الجمعةالتي هي من أهم وسائل الدعوة إلى الله تعالى. فقد دعا الله المسلمين إلى السعي إلى المساجد يوم الجمعة للتعبد بذكره تعالى. ودور خطبة الجمعة، لم يكن سوى تذكير المؤمنين بربهم عن طريق الوعظ والإرشاد والتذكير بما يصلح أحوالهم الدينية والدنيوية، وبما يعرفون به كيف يعبدون ربهم .
فالخروج عن هذا الهدف وعن هذه الوظيفة، هو خروج يُلبس الحق بالباطل ويحرف الكلم عن مواضعه؛ بل يحوِّل وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله إلى وسيلة للدعوة إلى الأشخاص أو إلى مجموعة معينة. فاستغلال المساجد من قبل حزب العدالة والتنمية بواسطة ذراعه الدعوي، حركة التوحيد والإصلاح، فيه مروق عن الدين وفيه استغلال مقيت للحقل الديني من أجل تحقيق مصالح سياسية آنية، ليست من الدين في شيء.
وليس الحقل الديني وحده الذي يسعا حزب العدالة والتنمية إلى اختراق كل مجالاته والهيمنة عليه. فمؤسسات الدولة نفسها لم تسلم من هذه الرغبة في الهيمنة. وقد اهتدى الحزب الحاكم إلى الوسيلة المثلى لتنفيذ مخططه، إذ انتقى من بين حوالي 20 قانونا تنظيميا، القانون التنظيمي الوحيد والأوحد الذي تمت المصادقة عليه خلال فترة حكومة بنكيران الأولى كلها؛ ويتعلق الأمر بالتعيين في المناصب السامية. بالمقابل، فقد صمت الحكومة آذانها أمام كل الأصوات التي تطالبها بتفعيل الدستور.
إن الهدف واضح من إسراعها بإخراج القانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في مناصب المسئولية: فبهذا القانون، سيصبح بإمكان الحزب الأغلبي العمل على تركيز أتباعه في دواليب الدولة. وبهذا، سيضمن لهؤلاء، من جهة، الترقية الوظيفية والاجتماعية، ومن جهة أخرى، وهذا هو الأهم، سيضمن السيطرة على مقاليد الأمور في المؤسسات المعنية. وإذا ظهر السبب بطل العجب!!!
فهل نحتاج أن نذكر بالضجة التي تحدث من حين لآخر في هذه الوزارة أو تلك أو في هذا القطاع أو ذاك بسبب ما يلاحظه المتنافسون على المناصب السامية من عدم تكافؤ الفرص ومن غياب الشفافية في التعيينات؟ وآخر ما طفا على السطح في هذا الباب، هو تدخل « لحسن الداودي »، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، لإلغاء مباريات التعيين في مناصب المسؤولية بالمؤسسات الجامعية، التي يفوز فيها مرشحون لا يناسبون رغبة الوزير، وبالتالي رغبة الحزب الحاكم، كما حصل، مثلا، في عملية اختيار عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. لقد رفض الوزير نتائج المباراة التي بوأت العميد السابق، د. « عبد الرحيم بنحادة »، المرتبة الأولى وبفارق كبير في النقط، وقرر إعادة التباري على هذا المنصب، مما دفع بالأساتذة الباحثين إلى الاحتجاج. وما هذا إلا غيض من فيض في سجل حكومة بنكيران وحزبها الأغلبي.
إن الرغبة في الهيمنة على مؤسسات الدولة والمجتمع، هي نزعة استبدادية تنطلق من فكرة الحاكمية وتستعمل التقية لإخفاء هدفها الحقيقي وتتخذ الدعوة كأسلوب للتغلغل في هذه المؤسسات، خدمة للمشروع الإخواني الذي يتناقض مع الفكر الديمقراطي.
وليس صدفة ولا اعتباطا أن تطفو فوق السطح، من حين لآخر، خلافات الأغلبية بسبب انفراد « بنكيران » بالقرارات (نذكر أن الأغلبية الحكومة في عهد حكومة عبد الرحمان اليوسفي كانت مكونة من 7 أحزاب، في حين أن الأغلبية الحالية مكونة من 4 فقط؛ ورغم ذلك…!!!). فهو لا يستطع أن يخرج من عباءة الحزب الذي يرأسه ويرأس الحكومة باسمه. ويكفي أن تسمعه يتحدث، سواء في البرلمان أو عبر وسائل الإعلام، لتدرك أنه يتحدث، ليس كرئيس حكومة، بل كرئيس حزب. فهو، من جهة، لم يستوعب بأنه يقود أغلبية، مكونة من أحزاب ذات توجهات مختلفة؛ ومن جهة أخرى، لم يستوعب بأنه يرأس حكومة، هي حكومة كل المغاربة، بمن فيهم الذين لم يصوتوا على حزبه والذين تمثلهم المعارضة، بمشاربها الفكرية المختلفة أيضا. لذلك، تراه في حملة انتخابية دائمة، يهدف من ورائها إلى تسويق صورة إيجابية عنه وعن حزبه؛ ولا يهمه إن كانت البلاد كلها تسير إلى المجهول. وهنا، يبرز الفرق بين رجال الدولة وبين محترفي السياسة.
Aucun commentaire