الأحكام الاجتماعية المسبقة
كانت بيداغوجيا التعليم بالأهداف موضة من موضات الفكر التربوي،التي تم استيرادها من موطنها الأصلي(الولايات المتحدة الأمريكية) كما تستورد البضائع و المنتجات المصنعة من لباس و طرق للطبخ و تأثيث المنزل،وهندسته.كما نستورد المدارس الفنية و الثقافية و الشعرية و الروائية و القصصية و الفكرية الفلسفية و السياسية و الاقتصادية.إننا امة تشكو من الضعف ،ولقد أشار ابن خلدون إلى أن الضعيف هو الذي يقلد القوي و العكس ليس صحيحا.والضعيف يتأثر بالقوي في كل مناحي الحياة.وبما أننا امة ضعيفة فإننا نتأثر و لا نؤثر،وننفعل و لا نفعل.لأننا وجدنا أنفسنا خارج صناعة التاريخ.ففي الوقت الحاضر نحن متعلمون من النوع الرديء و لسنا معلمين.
بيداغوجيا الأهداف حددت مسارا للفكر الغربي طبعا.لان الأمم الأخرى ليس لها نصيب في فكر أو ذكاء تحليلي و تنظيمي(هذا ما يعتقد به المتعصبون للجنس الأبيض المتفوق).فلسنا في نظرهم إلا شعوبا متوحشة ومتخلفة،وغير قادرة على الفعل والابتكار ،بل قادرون على الشعر والدين،وعاجزون عن التفكير.
بيداغوجيا الأهداف حددت مسارا تصاعديا و تطوريا للفكر.يتكون من 6 مراحل(مراقي كما يحلو لبعض المترجمين المغاربة) وهي مراحل متصلة كالزمن ومنسجمة.ولا يمكن القفز على أية مرحلة.انه كالنظام البنكي:يتكون من مدخلات و مخرجات.وهذه المراحل الستة لا باس من التذكير بها ،وهي/المعرفة أو الاستقبال/الفهم/التطبيق/التحليل/التركيب/التقييم. إن المرحلة السادسة تتكون من عمليتين :النقد الداخلي و النقد الخارجي.فالمرحلة السادسة هي مرحلة إصدار الأحكام.
لكن البعض منا، وبحكم السطحية في التفكير،يقفزون مباشرة إلى إصدار الأحكام المسبقة،التي هي اقرب إلى الإشاعة منها إلى الحكم المبني على معرفة و تحليل.ولعل الذين أصدروا فتاوى تكفر هذا الدارس أو ذلك الناقد أو المفكر مثل طه حسين و نصر أبو حامد و فرج فودة ،وبعض المخرجين السينمائيين مثل يوسف شاهين و غيرهم كثير ،انطلاقا من ما يكتبونه أو يصورونه و لا يتفق مع أهوائهم. وبعض الأحيان يصدر الحكم و الفتوى عن جهل عما يكتب أو ينتج.إن المتعصبين لا يؤمنون بالاختلاف،والفكر الأخر.وفي هذا الصدد صدرت أحكام مسبقة على باحث مغربي مرموق،يشهد له الغريب قبل القريب بتمكنه و درايته،وقيمة النتائج التي توصل إليها،في تناوله لمشكلة التراث الفكري و الفلسفي العربي الإسلامي.انه الباحث و المفكر و المثقف المغربي المعروف محمد عابد الجابري الذي اخضع العقل العربي للتشريح و التحليل و النقد.و الذي صدرت في حقه فتاوى التكفير من بعض مواقع التواصل العنكبوتية.لقد رأى بعض الناس أن أفكاره مغلوطة و أحكامه خاطئة،لأنه طبق منهجا ماركسيا ثوريا يربط الفكر بالواقع الذي افرزه ربطا جدليا…من الصعب أن نقبل بهذا الحكم على دارس من العيار الثقيل للتراث الديني و الثقافي و الفلسفي و الفكري بصفة عامة: الأوروبي و العربي قديما و حديثا.ونقول بجرة قلم و صيحة لسان أن الباحث الجابري أخطا في النتائج و الأحكام لمجرد أن نظرته للأمور لم تكن نظرة الفقيه المتدين.ونعلم أن عابد الجابري يأتي بالاستدلالات و الشواهد اللغوية و الفكرية و الأدبية يستنطقها و لا يستنتج إلا ما تنطق به محتوياتها(فنفس المقدمات تؤدي إلى نفس النتائج) أليس هذا هو منطق العقل ،ومنطق الجابري الذي يردده في كثير من مؤلفاته؟؟انه لا يحمل النص إلا ما يحتمل…إن الحكم على الأستاذ الجابري لا ينبع من سطر قراناه في هذا الكتاب أو ذاك. بل من يحكم له أو عليه،يجب أن يقرا ما قراه الجابري نفسه،وان يكون له اطلاع واسع على كل المناهج في العلوم الإنسانية،وعلى حسن قراءة الخلاصات و النتائج بموضوعية قدر الإمكان.أما إصدار أحكام على فكره، انه خاطئ ،لأنه لم يتبن رؤية إسلامية للموضوع،ولم ينظر إلى الأمر بمنظار الفقيه إلى التراث، فيمجده و يقدسه،و لم يستنتج أن الإسلام هو الحل لكل المعضلات و المشاكل التي تتخبط فيها المجتمعات المسلمة.إن هذا الحكم يبعدنا كثيرا عن فهم، أن عابد الجابري هو قارئ للفلسفة من النوع الرفيع،ومفكر فيها و متسلح بمناهج متعددة و له ثقافة تراثية واسعة،لا تقل عن الإلمام بالثقافة الغربية و الشرقية،ولا احد قادر على المجادلة البيزنطية في هذا الأمر،ولم يطلب من الجابري أن يكون فقيها و لا إماما ،يتسلح بنظرة واحدة لجميع الأمور:الإسلام هو الحل لكل المعضلات السابقة و الحاضرة و اللاحقة؟؟
لو قبلنا بهذا الأمر جدلا،ولن نقبل به حقيقة لأنه أمر مغلوط و خاطئ:عن أي إسلام نتحدث؟ فليس هناك في المنظور الحاضر إسلام واحد يدين له المسلمون في مشارق الأرض و مغاربها،الم يشر الرسول عليه الصلاة أن الأمة الإسلامية ستنقسم الى73 فرقة،واحدة منها هي الناجية…وكل الفرق الإسلامية تدعي لنفسها التقوى و الورع و الصلاح وغيرها على ضلالة.وكل فرقة تكفر الأخرى.من هو على حق إذن ؟:هل الإسلام الوهابي التكفيري؟أم القاعدي؟أم الاخواني؟أم الشيعي؟أم الصوفي؟أم الأحمدي؟أم البهائي؟ والقائمة طويلة…
إن تحليلا بسيطا ومنطقيا وبدون الدخول في جدل عقيم،يجعلنا نؤمن بالحكمة المأثورة »أهل مكة أدرى بشعابها »،وفي نفس السياق أشار الرسول الكريم آن المسلمين أدرى بأمور دنياهم .ونحن نقول: أن لكل حرب ساحتها و فرسانها و أسلحتها…فلكل ميدان له المبدعون و الناصرون له و المعارضون أيضا.فالاختلاف سنة الحياة و الكون و البشر.وفي العلوم الإنسانية التي هي علوم معيارية و ليست علوم دقيقة و حقة ،لا يمكن الحكم عليها بالخطأ أو الغلط،لأنها علوم مرتبطة بالإنسان، ذلك الكائن المتغير باستمرار حسب الظروف و البيئات.فكل حقيقة فكرية أو اجتماعية أو نفسية أو اقتصادية أو سياسية ،هي صحيحة في مكان معين وظروف معينة وفي مجتمع معين.و ليست صحيحة لمجتمع آخر ،أو لنفس المجتمع في كل الظروف.
لقد احتفل الفرنسيون بسارتر و فولتير و ديكارت و موليير و غيرهم من المبدعين ..ولم يصدر في حقهم لا إدانة،أو فتوى بالتكفير،أو استنكار لما نادوا به،سواء كان مقبولا أم لا.وهكذا عملت كل المجتمعات التي تحتفل بنوابغها ،وتعتبرهم من الثروات الوطنية التي يجب الافتخار بها وإعلاء قيمتها…فمتى نغير من عقليتنا المغلقة و المتعصبة؟؟؟
انجاز :صايم نورالدين
Aucun commentaire