يوم من يوميات مدرس : التعييــــــــن
ما إن دخلت المنزل حتى ناولتني أمي ظرفا بريديا أصفر. فتحته بيدين مرتعشتين بعد أن تأكدت من مصدره. أخرجت الورقة وقرأت المضمون بسرعة:
»نشعركم بأنه تم تعيينكم بنيابة فجيج. لذا يتعين عليكم الالتحاق بالنيابة قبل تاريخ…. مصحوبين ب « …
أرجعت الورقة إلى الظرف حتى دون أن أتم قراءتها. لاحظت أمي اضطرابي فاستفسرتني متوجسة عن فحوى الرسالة. فأجبتها بأن الذي خفت منه وقع.
إقليم فجيج يُصنّف ضمن المناطق الصعبة. المنطقة: أ. هي بكلمة واحدة كما تُعرِّفها أمي: الصحـــتـــــراء، بكل حمولتها ودلالتها. تقع جنوب شرق المغرب العميق. المغرب الأقسى .المغرب غير النافع حسب توصيف ليوطيأو المغرب المنسي. اعتُبرت منطقة تأديببية.رغم أني لا أفهم وما زلت لماذا تُعْطى لبعض المفردات معنى معاكسا. فلا أحد ممن أعرفهم أدّبتهم المنطقة. بل زادتهم تذمرا وتمردا.
رتبت كل ما أحتاج إليه من كتب وكسوة في حقيبة كبيرة .جمعت أمي بعض الأواني :طنجرة صغيرة، براد وإبريق. صحون، ملاعق وسكين …. وضعتها داخل صندوق وزودتني بكيس من « زميطة المرمز » كانت تحتفظ بها، وكيس من التين المجفف. وبعد ذلك أمطرتني بسيل من الأدعية. هذا كل ما كانت تملكه أمي وأغلاه.
فأمي يرحمها الله – كأمهاتكم الطيبات – لم تقرا ماكسيم غوركي(1) ولم تلج المدرسة يوما في حياتها .لكنها تخرجت من مدرسة الحياة الشاقة بشهادة امتياز.
شدت على يدي ثم ضمتني إلى صدرها الحنون .تحسَّستني وكأنها تكتشفني لأول مرة .ودعتني بحرارة كأنها تخاف أن تبتلعني الصحــراء. انتابتني رغبة بالبكاء لكنني حبست دموعي، قاومتها /قمعتها .ففي عُرْف أمي الرجال لا يبكون. حملت زادي ومشيت.
الطريق إلى بوعرفة كدرب النضال شاق ،طويل و عسير. لم يكن يتسع أنذاك لمرور حافلتين .به منعرجات مخيفة…. واسألوا كل من خَبِره طويلا يأتيكم بالوصف الدقيق.
بعد رحلة شاقة. ذهبت توّا عند المدير. تفحصني هذا الأخير من الرأس حتى أخمص القدمين. دَوّن بعض المعلومات تخصني. تاريخ ومكان الازدياد، نوع التكوين، الشهادات المحصل عليها…. أبدى بعض الاندهاش حين أخبرته أني مجاز في الأدب الانجليزي. ثم خاطبني بنظرة أبوية فيها كثير من العطف: “غدا ستقلع ،ياولدي ،شاحنة تحمل « السوّاقة » إلى الدوار الذي توجد به المدرسة. ستُقلع فجرا. سأخبر السائق بالأمر وأوصيه بك خيرا. إذا فوتت هذه الفرصة، عليك انتظار أسبوع آخر، لأنه ليس هناك وسيلة نقل غيرها. »
وصلنا المدرسة على متن شاحنة تنقل الإنسان والحيوان. نقل مزدوج!! ألقيت نظرة مستكشفة. المدرسة /القسم أو القسم المدرسة بابها مفتوح، بلا نوافذ.بها سبورة سوداء كأيامي، مقاعد بال عليها الدهر و… وكرسي عتيق. يحدها شرقا إخوة لنا أعداء.ومن الشمال حزن وقهر دفين، ومن جهة الجنوب الشيح والريح . وعلى غربها قبور متناثرة. بجوار المدرسة بيت مهترئ مُعِدّ للسكن (غير اللائق طبعا) بيت يشبه الدار المهجورة.خربة.أكاد اراهن أنها لا تختلف عن الأطلال التي كان يقف عندها امرؤ القيس ويبكيها. نسجت حول سقفه العناكب خيوطها.وعلى أرضه المتربة آثار لزواحف من بينها أفاعي وعقارب سامة تكون قد مرت من هنا. وبخصوص الافاعي والعقارب فتلك حكاية أخرى.
نصحني الأستاذ الذي عوضته بنثر الفراش للتخلص من الزواحف والحشرات السامة التي قد تكون علقت به قبل أن آوي إلى الفراش. كما أسرَّ إلي بعد تردد بأن البيت قد يكون مسكونا (يقصد تسكنه الأشباح)، طمأنته بأني لا أهاب الأشباح. بل قد أجد نفسي في حاجة إليهم ليُؤنِسوا وحدتي. ليس لدي ما أخسره الآن. فأنا مستعد لخوض تجربة جديدة مع كائنات غير بشرية سمعت عنها كثيرا ولم تُتح لي فرصة رُؤيتها. إذن إنها فرصتي الآن.
في المساء وبعد غروب الشمس، انتابني ضجر وضيق كبيران. أحسست أن » لا حدود لتعاستي…،لاحدود لحزني ،ضائع مغمور…أشغل وظيفة تافهة في قرية لا مكان لها على الخارطة… »(2)
في الليل خِلت نفسي سجينا في زنزانة انفرادية.تازمامارت.كلانا يترجى حلا لوضعيته. هم يأملون سراحا وأنا أنتظر انتقالا.
أحسست برأسي يكاد ينفجر. عاودتني رغبة شديدة في البكاء. هذه المرة لم أقاوم. بكيت. سالت دمعة مأسورة على خدي. كانت ساخنة وبها ملوحة.
أشعلت سيجارة من نوع « تروب »* أمدني بها أحد الجنود لغاية غير مفيدة. قال لي ستحتاجها.
داهمتني الذكريات …تذكرت أمي…الجامعة، حلقات النقاش الصاخبة…الأصدقاء الذين هاجروا إلى الخارج لإتمام دراستهم. آه ، ليتني لحقت بهم…
وتذكرت ….. فشدني الحنين، شعرت بتيار يسري في جسديالمتعب خدر.قشعريرة.
أغمضت عيني. لأتلذذ بالذكريات. داهمني النعاس من كثرة الإرهاق والتعب. فنِمــــت.
**********
(1) ماكسيم غوركي: أديب روسي/سوفياتي صاحب رواية « الأم« .
(2)عبد الرحمان مجيد الربيعي(عيون في الحلم) دار الطليعة.
« تْروب » : نوع من السجائر الرخيصة كان يوزع على الجنود.
Aucun commentaire