Home»International»الليبرالية (الجديدة ) وشرنقة* الشباب

الليبرالية (الجديدة ) وشرنقة* الشباب

0
Shares
PinterestGoogle+

الفوضى و اللا تنظيم اللذان سببتهما وتسببهما الليبرالية الجديدة  التي لم تسع إلى التغيير في المجال الاقتصادي فقط ، بل امتدت إلى الإنسان الذي لم تعد تقبله كما هو ، و سعت إلى  قلب قيمه ورصيده الرمزي رأسا على عقب ، وهي تسعى أمام أعيننا  لخلق إنسان جديد (1) وطمس أو إلغاء كل القوانين  التي تتعارض مع قوانين السوق ، ويوجد  برنامج  سري  تسعى الليبرالية الجديدة من خلاله إلى تحويل الإنسان إلى تمثال حي (2)،  و عزله عن القيم الاجتماعية  والإنسانية . ويرى الدكتور جاك لكان  (Jacque Lacan) أن طروحات الرأسمالية وممارساتها أصبحت كالعبودية القديمة تحاول تحويل الإنسان نفسه إلى  مجرد منتوج ضمن حضارة كل شيء للاستهلاك  .
فهي تحاول ضمن خطة مدروسة نشر الانحطاط الثقافي ، وضرب الجدل الفكري ، والحيلولة  دون تكوين المواطنين لرأيهم الحر (3) واختزال الرؤوس(4)  من أجل تمرير مخططاتها . ….واستغلالها من أجل تضخيم  الرأسمال المالي،  المبني على المضاربات المالية ،والنزوع نحو الربح السريع والسهل ، وتغليبه على الرأسمال المنتج (5) ، إنها حرب عارمة أسلحتها الشركات وقد تمكنت الدوائر الرأسمالية من احتكار خدمات   الثورة العلمية :التقنية والمعلوماتية المتعددة الجنسية وضحاياها فئات وشرائح واسعة من شعوب العالم ، مما أدى إلى تعميق الفوارق  ، وانتشار البطالة والفقر  وإثقال كاهل الشعوب بسياسة التقشف داخليا وتوجيهها نحو الأسواق الخارجية والمؤسسات المالية العالمية ، مما زكى لذى المواطنين الشعور بالإحباط  والقلق ، وشغل الإنسان الحالي بالبحث عن الشغل بشتى الوسائل والقبول بالفرص المتاحة كيفما كانت .
في الميدان الفلاحي  مثلا ، يتم تدريجيا احتكار المنتوجات  الفلاحية الغذائية باستعمال البيوتكنولوجيا  ، واستغلال الشركات الكبرى مثل مونسانتو الأمريكية لبراءة الاختراع ، وسن قوانين تجارية  صارمة قادت مجموعة من الفلاحين عبر العالم إلى السجن بسبب مخالفتها  ، واحتكار بيع البدور  ، وبيع المزيد من المبيدات والأسمدة  دون الاكتراث بانعكاساتها على البيئة  والتنوع والصحة .
ودون أن أوغل في التغيرات العميقة التي فرضها اقتصاد السوق وتوجهه الاستهلاكي في محيطنا ،وسعيه لتبضيع الكائن الحي  ، واستحواذه على  كل شيء حتى القوت اليومي  للإنسان ،أعطي لمقاربة الموضوع  أمثلة بسيطة من محيطنا القريب .
أصبحنا  في ظل اقتصاد السوق ، نجذ أبقارا في مجموعة من الدول خاصة الكبرى ،لم تعرف مند ولادتها لا المروج المعشوشبة  ولا السهول المنبسطة الخضراء ، ولا الجبال والأودية الجارية ، ولم ترع العشب في الطبيعة ، بل فتحت عيناها في أماكن مسيجة ومحروسة وضيقة ، تستعمل وسائل النقل لجلب  علفها الذي يتم اختياره وانتقاؤه بعناية  لجعلها تسمن بسرعة  جريا وراء الربح السريع ، ولم يمدحها الشعراء ، ولم يتعهدها الراعي وهو ينتقل بها  من مرعى  إلى آخر ، ولم يسمعها صوت نايه الطروب ، ولم تستنشق نسائم الحرية ، ولم  ترو ظمأها من الجداول والينابيع العذبة النمرة  .
زمن اللبرالية الجديدة أعطى دجاجا  لم يعرف سوى الحاضنة الاصطناعية ، وجوها المكيف وعلفها ، دجاج  حرمنا من متعة مطاردته من سطح إلى آخر ومن ساحة إلى أخرى لذبحه ترحيبا بضيف كما كنا نفعل مع الدجاج البلدي الأصيل الذي نشأ على الحرية واللياقة البدنية ، فدورته الدموية نشطة ، وردود فعله سريعة وذكية ، وعضلاته مفتولة  ولحمه مفيد ومذاقه لذيذ .
فالملاحظ للمصانع العصرية المزودة بالحاضنات يرى كيف يتعامل مع الكتاكيت   في بعض البلدان  ، تما ما كما يتعامل مع بضاعة غير حية .
الرجة  العنيفة التي أحدثتها التوجهات الليبرالية نتيجة التغيرات السريعة والمتلاحقة التي أقحمتها في الحياة اليومية ، وصعوبة اللحاق بها التي تختلف أبعادها وتأثيراتها  من شريحة اجتماعية إلى أخرى ، وما فرضته من توجهات نحو الاستهلاك المفرط في العديد من المجالات ، والبحث المحموم عن فرص العيش الكريم والشغل ، في ظل التيه ، و شرعنة مرونة الشغل والتسريح الجماعي للعمال، وظهور أنماط عمل جديدة ومجحفة ، وفي جو موسوم بالميل الشديد للقيم المادية وإعطائها الأولوية على القيم الإنسانية ، وما نتج عن هذا كله من قلق وتوتر دائمين  يعيشهما الإنسان الحالي خاصة الشباب ، لم يعد الإنسان يميل نحو تخصيص حيز هام من حياته ووقته كما كان يفعل في السابق من أجل نشر الفكر النقدي والمتحرر من أوهام الليبرالية الجديدة ، كما لم يعد في حياة الإنسان اليوم متسع للتثقيف  والتنوير، مما زاد الخواء الفكري انتشارا .
بهذا نجحت التوجهات الحالية للرأسمالية في تسميم فكر الإنسان (6).ونشر التجهيل والبلادة لتكثيف الاستغفال والاستغلال ، وسيادة الأنانية والمذهب الفردي الذي يجعل من  الفرد غاية وليس وسيلة .
ولم تستثن هذه الحملة  أي بلد ، حيث يرى بعض المتخصصين في علم الاجتماع ومنهم  الأستاذ عبد الرحيم العطري أن هناك هوة سحيقة وشاسعة بين الشباب اليوم في بلادنا وبين الأجيال السابقة عليه (7)، فشباب اليوم مستعينا بالتكنولوجيا الحديثة ، نسج لغة جديدة  للتواصل فهو يعبر كتابيا عن العربية بحروف لاتينية مختصرة ، ويعيش قيما جديدة كرسها العالم الافتراضي الذي ساهم في عزله عوض أن يساهم في تفتحه وانفتاحه .
يضع شباب اليوم السماعات في أذنيه ، وقد لا تفارقه حتى في المؤسسات التعليمية بل حتى أثناء الدرس ، وفي هذا تعبير عن إعراضه عن الواقع وقيوده .
ومن مظاهر استفحال  الأنانية و الفردانية  ، ورغم أن الرقص متعة جماعية ، قد ترى شابا  يقوم وحده بحركات تبدوا لك غير متناسقة وغير منتظمة  ، وتتصور أنه أحمق ، وعندما تقترب منه تعرف أنه يرقص على إيقاع موسيقى يستمتع بها وحده من خلال سماعاته .
ولم يعد السفر وسيلة للتعارف من أجل تبادل الآراء والزيارات ، فوجود شاب أمامك في الحافلة أو القطار أو سيارة الأجرة كعدمه ، له في سماعاته وأجهزته ما يغنيه عنك وعن غيرك ، يقطف منها ما يحلو له من الأغاني والمواضيع ، ويرافقه الانترنيت في الحل والترحال حتى في هاتفه النقال البسيط ، بالكاد ينزع سماعة واحدة ليجيبك إذا سألته ويعيدها على الفور.
في ظل هذه المتغيرات اتسعت الهوة  بين الشباب والأجيال السابقة عليه ،وكأنه عاش مرحلة شرنقة  عزلته عن الواقع لفترة وخرج منها بقيم جديدة ، أو كأنه عاش طفرة Mutation  منحته خصائص جديدة ،أي أنه لم يطور بشكل طبيعي القيم السابقة عليه ولم يغيرها في إطار جسور تواصل طبيعية .
ظهرت وتوسعت في ظل هذه الضغوطات فئات عريضة انتهازية ووصولية ومستلبة  ،لا تكثرت بالقيم نتيجة النمو المجنون لمجتمع الاستهلاك والتعميم الشامل لقيم الأنانية وخوصصة الإنسان (8)
هذا كله برأيي أصبح قاعدة مع  وجود استثناءات ، ولا يعني هذا أن ما يعرفه الشباب من  تغيرات هو كله سلبيات ،بل على العكس أظهر مميزات وطفرات نوعية كانتصاره على الخوف ،وكسره  لمجموعة من الطابوهات  و(المقدسات ) ،واهتمامه بأوضاع بلدانه وسياساتها ،واستعداده الجماعي للتضحية ، والجهر بالحق والحقيقة ، إلا أنه قد لا يحسن استثمارها ،وأصبح من الواجب  مشاركته فيما وصل إليه بل الانخراط فيما هو إيجابي لديه  ومواكبته .

 بونيف محمد  جرادة

المراجع :

* الشرنقة:   يرقات بعض الكائنات الحية في بعض مراحل نموها تصنع شرنقة وتقبع فيها مدة معينة وكأنها مسجونة ومعزولة عن العالم الخارجي،  لتخرج في النهاية منها بخصائص جديدة.
Dany Robert Dufour Le Monde diplomatique Avril  2005  (1)
Dufour Le Monde diplomatique Avril  2005page 14  Dany Robert )2)
3 ـ عبد الغني بوستة السرايري كتابه  » عالمنا الراهن بين هيمنة العدوان والتبعية والاستغلال وكفاح قوى السلم والتحرروالعدالة الاجتماعية الصفحة 17
4  لموند د بلوماتيك العدد السابق  الصفحة 14  من اختزال الرؤوس ألى تغيير الأجسام نص بعنوان  »  اقتصاد السوق وتغيير الإنسان  »
5 عبد الغني بوستة السرايري  » نفس المرجع السابق  الصفحة 11 : الرأسمال المنتج هو الذي يساهم في إحداث البنيات التحتية ، ومناصب الشغل ……
6ـ   Michael Canovas   L’intoxication des esprits
7  ـ  الأستاذ عبد الرحيم العطري برنامج بدون حرج  موضوع صراع الأجيال Medi 1 SAT
8   ـ عبد المجيد السخيري ،الدرس السياسي الفلسفي ، كورنوليوس كاستورياديس نموذجا :مجلة نوافذ العدد التاسع عشر ماي 2003 الصفحة 28

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *