أزمة التعليم العالي بالمغرب :السياق والمضمون والتطبيق
د. بلقاسم الجطاري
جامعة محمد الأول – وجدة
المقدمة
يكتسي التعليم بصفة عامة أهمية خاصة، إذ لا يمكن إنجاز التحول الديمقراطي الحقيقي والرقي بالذوق العام للمجتمع، ونشر ثقافة حقوق الإنسان أو بناء نظام اقتصادي تنافسي منتج للثروة، وضمان إشعاع البلد في محيطه الإقليمي والدولي… دون تمتيع المواطن بتعليم جيد فعال مدعم من طرف الدولة. لكن ما يلاحظ أن التعليم العالي والبحث العلمي بالمغرب يعيش أزمة حقيقية مردها تعثر مسلسل الإصلاح وغياب الوسائل الكفيلة بتنفيذه، فالتعليم العالي لا يحتاج إلى مخططات استعجالية فارغة من المحتوى، ولا فرص أمامها للنجاح، بقدر ما يحتاج إلى تعبئة وطنية شاملة لكل مكونات الوطن، كون التعليم العالي والبحث العلمي أحد المؤشرات الأساسية التي تقيس مدى تقدم المجتمعات ونجاعة السياسات المتبعة التي تؤثر على نواحي الحياة المختلفة.
ولقد شهدت الجامعة المغربية منذ تأسيسها إلى اليوم ارتفاعا متزيدا في عدد الطلبة المسجلين بمختلف كلياتها ومدارسها، كما ازداد عدد الأطر العاملة بها سواء التربوية أو الإدارية، وتوسع حجم بنياتها ومؤسساتها، وارتفع حجم الميزانيات المرصودة لها، وبرز الأمل في أن تشكل قطبا اقتصاديا واجتماعيا مهما بالجهة التي تنتمي إليها. لكن السؤال المطروح اليوم هو كيف تبدو الجامعة المغربية اليوم؟ هل فعلا تؤدي مهمتها على أحسن وجه؟ ألا تعيش أزمة حقيقية؟ وما تجليات هذه الأزمة وأسبابها؟ وما مصير الإصلاح الجامعي الذي عرفته الجامعة؟ هل نجح أم فشل؟ وما المؤشرات على ذلك؟ وهل بالإمكان تجاوز الوضعية الراهنة وكيف ذلك؟ وكيف تستطيع الجامعة تحقيق الأهداف المرجوة من وجودها والمساهمة الفعلية في تحقيق التنمية؟
وبعيدا عن المنظورات الاختزالية التي يروجها البعض، يمكن القول بأن أزمة التعليم العالي بالمغرب ، أزمة بنيوية شاملة متعددة الأبعاد والدلالات ولها امتداد مجالي وزمني، أزمة لا يمكن فهمها إلا بربطها بأزمة النظام التربوي – التكويني بصفة عامة، ومن جهة أخرى ربطها بالنظام المجتمعي العام الذي تخترقه عناصر الأزمة على مختلف الصعد والمستويات.
1. الإصلاح الجامعي بالجامعة المغربية
خضعت الجامعة كغيرها من مؤسسات التعليم العالي بالمغرب لمقتضيات الإصلاح الجامعي الذي تجلى في القانون المنظم للتعليم العالي 01.00 الصادر سنة 2000، وقبل تحليل سياقات هذا الإصلاح ومضامينه وكيفية تنزيله والآثار الناجمة عنه خاصة بجامعة محمد الأول، ينبغي إعطاء لمحة موجزة عن أهم محطات المسار الإصلاحي الذي خضعت له الجامعة المغربية وأثره على تشكيل سيرورة التعليم العالي وما أفرزته من أزمات ومشاكل.
يشكل ظهير 25 فبراير 1975 المتعلق بتنظيم الجامعات أول تنظيم شامل للتعليم العالي حصل في المغرب بعد الاستقلال، فهذا الظهير وضع أول إطار قانوني للتعليم العالي، واتسم بنوع من الشمولية والتجديد، وأكد على مبدأ استقلالية الجامعات. لكن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في تلك المرحلة جعلته يتسم بنوع من الشكلية، وستظهر تعثرات كبيرة عند محاولات تطبيقه اتخذت معها عدة إجراءات لمحاولة تصحيح الوضع، لكن الوضع سيتفاقم أكثر بعد نهج سياسة التقويم الهيكلي سنة 1983. فإذا كان الظهير قد حدد اختيار المغرب في الأخذ بالنموذج الفرنسي الذي جعل من الجامعة وحدة أساسية، فإننا على مستوى المضامين لا نلمس إلا استقلالية شكلية للجامعات على المستوى الإداري أو المالي أو العلمي أو البيداغوجي، وذلك بالنظر إلى تركيبة مجالس الجامعات ومجالس الكليات والاختصاصات المخولة لهما. كما تأخر إصدار النصوص التنظيمية لظهير 1975، ولم توضع الأنظمة الداخلية للجامعات، وفي المقابل تقوت السلطة الحكومية المكلفة بالتعليم العالي بفصل قطاع التعليم العالي والبحث العلمي عن وزارة التربية الوطنية وتنظيمه بمرسوم ملكي في 19 يناير 1976، قبل أن يعاد تنظيمها في 1986 و1993. ولم يول ظهير 1975 اهتماما كبيرا لمصادر تمويل الجامعة حيث لم ينص على تنويعها، ومع التزايد الهام في عدد الطلاب زادت نفقات التعليم العالي، والتي ستعمل الدولة على تقليصها انسجاما مع إجراءات سياسة التقويم الهيكلي، مما سيكون له أسوأ الأثر على نسبة التأطير والأجهزة الأساسية والبنيات التحتية للجامعات، ولمواجهة الزيادة الطلابية اتجه المخطط الثلاثي (1978 – 1980) إلى الحد من ولوج التعليم العالي ما نتج عنه عدة اضطرابات طلابية.
وخلال تسعينات القرن الماضي بلغت أزمة التعليم العالي حدتها، وتبلور وعي عام بضرورة إصلاح شامل للتعليم العالي؛ يثمن مكتسبات ظهير 25 فبراير 1975 ويطورها ويتجاوز تلك الاختلالات البيداغوجية والمالية والإدارية الناجمة عن تعثر تطبيقه، ويستجيب للتحديات المطروحة أمامه، لكن مشاريع الإصلاح التي ظهرت افتقدت للرؤية الشمولية والمنهجية، وبددت الجهود والأموال ولم تطبق إلا بصورة جزئية، ويمكن رصد ثلاث أنواع من المشاريع من خلال الجهات التي أصدرتها:
– مشاريع الوزارة الوصية على التعليم العالي: ونذكر منها مشروع السيد الطيب الشكيلي (1992) ومشروع السيد محمد الكنيدري (1994) ومشروع السيد إدريس خليل (1996).
– مشروع النقابة الوطنية للتعليم العالي (1993).
– مشروع « وثيقة المبادئ الأساسية » بتاريخ 25 يونيو 1995 الصادر عن لجنة وطنية واسعة، والذي حدد مبادئ التعليم الأساسية في ثلاث: الدمقرطة والتوحيد، التعريب والتعميم، الإلزامية والمجانية، لكنها لم تلقى القبول من قبل الجهات الرسمية خاصة مبدأي التعريب والمجانية.
كل هذه المشاريع لم تطبق إلا بشكل جزئي، وكان التعليم العالي ينتظر بإلحاح مشروع إصلاحي شامل خاصة مع ظهور تقرير البنك الدولي سنة 1995، وفي هذا الإطار تبلورت مقدمات الإصلاح الجديد بظهور الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والقانون 01.00 المتعلق بتنظيم التعليم العالي.
1) السياق العام للإصلاح الجامعي الجديد:
تبلور الإصلاح الجامعي الجديد في سياقين؛ سياق خارجي وسياق داخلي:
أ – السياق الخارجي للإصلاح الجامعي الجديد:
جاء الإصلاح كاستجابة لتقرير البنك الدولي لسنة 1995 الذي اعتمد مقاربة مالية تقترح الاستثمار في مجال الرأسمال البشري، ورغم أن التقرير تضمن إشارات إيجابية، كإبرازه أن النظام التعليمي المغربي لا يحسن استخدام الموارد المخصصة له بفعالية، إلا أنه تبنى مقاربة اقتصادية ضيقة حاول فرضها على دولة حرة ومستقلة، وكانت توصياته تصب في إطار الحد من ولوج التعليم العالي تقليصا للنفقات وخدمة للمديونية الخارجية وتوفيرا ليد عاملة رخيصة تستجيب لحاجات السوق المعولم. كما أن الإصلاح كان واعيا بالتحديات الثقافية والمعرفية التي تطرحها العولمة، وفي هذا الصدد يمكن فهم تصريح السيد نجيب الزروالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي في جلسة المصادقة على القانون 01.00 بمجلس المستشارين بتاريخ 24 مارس 2000 حيث قال: « إن حتميات العولمة، وحتميات اقتصاد السوق، والتحولات السريعة والمتلاحقة التي يشهدها العالم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي من الصعب جدا مسايرتها إلا إذا أعدنا النظر في منظومتنا التعليمية ». فهذه التحديات تفرض تربية الاستعداد المهني العام والاستعداد للتغير المهني، والسمة التكاملية بين العلوم الإنسانية والتطبيقية، وتطوير البنيات التحتية لتتكيف مع التطور المذهل للمعرفة، وتطوير المناهج والبرامج بجعلها أكثر تحفيزا على روح الإبداع والمبادرة والتفكير والانتقال من استهلاك المعرفة إلى إنتاجها.
ب- السياق الداخلي للإصلاح الجامعي الجديد:
ارتبط السياق الداخلي للإصلاح الجامعي الجديد بتجربة التناوب التوافقي التي أفضت إلى مشاركة المعارضة لأول مرة في الحكومة سنة 1998، كما أن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية قد عرفت استمرارا لمظاهر الأزمة (ضعف النمو، البطالة …) رغم بعض الإصلاحات الجزئية التي أدت إلى تحقق بعض الإيجابيات (تقلص المديونية الخارجية، تحسن الاستثمار الأجنبي …)، وتميزت المرحلة بتبني سياسة الخوصصة، وفي ظل هذا الوضع كان من خيارات التصميم الخماسي (1999 – 2003):
– وضع طريقة جديدة لتدبير النمو من خلال إنشاء إطار مؤسسي مناسب يعتمد على إصلاح الإدارة والقضاء.
– إيجاد حركة نمو اقتصادية توفر مناصب للشغل، سندها عملية تأهيل اقتصادية.
– إعداد التراب الوطني والتقليص من الفوارق بين الجهات.
– تثمين الموارد البشرية وإصلاح نظام التربية والتكوين.
2) مضمون الإصلاح الجامعي الجديد:
جاء الإصلاح الجامعي الجديد بعدة مستجدات على مستوى المضامين منها؛
– ما تعلق بالهندسة البيداغوجية: حيث تنظم جميع أصناف التعليم العالي في مسالك ووحدات ومجزوءات، وتتكون السنة الدراسية الجامعية من فصلين يتضمن كل فصل ما بين 14 و 16 أسبوعا للتعليم والتكوين والتقييم والامتحان.
فالمسلك (La filière) هو مسار تدريجي للتكوين، يوضع له عنوان وتحدد له أهداف، ويتكون كل مسلك من فصول محددة العدد: ستة فصول للإجازة، وأربعة للماستر، وستة للدكتوراه قابلة للتمديد. ويقضي الطالب بعد تسجيله فصلا تمهيديا وفصلا لتحديد التوجه، ثم فصلين للتعمق أو الامتهان يتوج بالحصول على دبلوم الدراسات الجامعية العامة أو المهنية (DEUG – DEUP)، وللحصول على الإجازة يجب إضافة فصلين آخرين.
ويتكون كل فصل (Le semestre) من ثلاث وحدات على الأقل وأربع على الأكثر، ويستغرق الفصل نصف سنة جامعية أي ما لا يقل عن 360 ساعة. وتعتبر الوحدة (Le module) العنصر الأساس لنظام التكوين والبحث الجامعي، وتتكون من عنصر إلى ثلاث عناصر تسمى مادة أو مجزوءة (La matière) تلقى في شكل دروس نظرية أو أعمال توجيهية أو تطبيقية أو نشاط عبارة عن عمل ميداني أو تدريب أو مشروع شخصي، وتستغرق الوحدة ما لا يقل عن 75 ساعة تخصص للتدريس والتقييم. ونص الميثاق في مادته 79 على إحداث جذوع مشتركة وجسور بين المسالك، بما يجعل من المسالك أنساقا مفتوحة تتيح للطالب إمكانية الانتقال من مسلك إلى آخر دون أن يفقد المكتسبات التي تحصل عليها في المسلك الأول.
– ما يتعلق بطريقة التقييم: تتم عملية التقييم عن طريق المراقبة المستمرة التي تكون في شكل امتحانات أو فروض أو عروض أو تقارير أو تداريب أو إنجاز مشاريع شخصية. ويعطى الطالب نقطة عن كل هذه الأنشطة، يتم احتساب المعدل في كل وحدة انطلاقا من معدلات المجزوءات. ويعد ناجحا في الوحدة كل طالب حصل على 20 / 10 فما فوق، وله الحق في امتحان استدراكي إذا لم تقل نقطته على 05.
3) طريقة تنزيل الإصلاح الجامعي الجديد وتعثراته:
رغم المرونة وإمكانية الاستيعاب التي تميز بها الإصلاح الجامعي الجديد إلا أن طريقة تنزيله وتطبيقه صاحبتها عدة تعثرات وإشكالات، أدت إلى بروز عدة اختلالات أفرغت الإصلاح من مضمونه وحدت من تحقيق النتائج المرجوة من وراء صياغته، ومن تلك التعثرات:
– الغموض والالتباس الذي طبع بعض صياغات الإصلاح: ما اضطر إلى إدخال بعض التعديلات بين الفينة والأخرى، فلقد تمخضت أجرأة ما يهم التعليم العالي من الميثاق عن نظام L-M-M-D (إجازة – ميتريز – ماستر – دكتوراه) في عهد نجيب الزروالي، وفي عهد خالد عليوة أقر نظام L-M-D (إجازة – ماستر – دكتوراه).
– عدم رضى الأساتذة التام عن الإصلاح رغم انخراطهم في تنزيل مقتضياته؛ ويعود ذلك إلى تذمرهم من الإيقاعات الدراسية الجديدة وما يفرضه إعداد المسالك والوحدات وتحضير المجزوءات وتصحيح التقاويم من جهد متعب ومرهق في ظل نقص الأطر، واستغلال البعض لإجراءات الإصلاح من أجل تحقيق مصالح شخصية مادية أو مهنية.
– إشكالية التقويم التربوي: فطبيعة الهندسة البيداغوجية الجديدة تفرض نوعا معينا من التقويم، لكن الظروف السائدة والبنية التحتية وإكراهات الاكتظاظ والإيقاعات الزمنية، اضطرت إلى الإبقاء على التقويم بصيغته القديمة (الامتحان الدوري)، لكن محاولة ملائمة هذا النمط من التقويم مع التنظيم البيداغوجي الجديد يؤدي إلى إهدار الكثير من الوقت والجهد والمال، ويكون على حساب زمن التكوين ما ينتج عنه ضعف العملية التكوينية وعدم تناسقها، كما أن التقويم الحالي يفتقد إلى المصداقية حيث يرى الطلبة أنه لا يخضع لمعايير الشفافية والنزاهة والديمقراطية.
– قلة العدة البيداغوجية المتوفرة سواء فيما يخص الافتقار إلى البنية التحتية المناسبة أو الوسائل الديداكتيكية الملائمة، رغم المجهودات المبذولة في هذا المجال، فإنها لا تناسب النمو المضطرد لعدد الطلبة وتعدد مسالك التكوين (والتي بلغ عددها 139 مسلك بمختلف الكليات والمدارس في موسم 2011 – 2012).
– عدم تأهل الإدارة لمواكبة الإصلاح الجامعي؛ سواء لأسباب ذاتية تتعلق بسيادة العقلية الأمنية لدى بعض المسيرين أو سيادة الإجراءات البيروقراطية داخل الإدارة الجامعية، أو لأسباب موضوعية تتعلق بنقص الأطر والكفاءات الإدارية وضعف تكوينها، ما يؤدي إلى عدة اختلالات على مستوى تدبير الموارد البشرية والمادية والتنظيمية، وعلى مستوى الجدولة الزمنية للإيقاعات الزمنية الدراسية الجامعية، وسوء استخدام الأنظمة المعلوماتية والتكنولوجية الحديثة.
– اختلال العلاقة البيداغوجية والديداكتيكية بين مكونات الحقل الجامعي (إداريين، أساتذة، طلبة)؛ نتيجة تهميش بعض الأطراف خاصة الطلبة، وغياب حضورها في المجالس الجامعية والمؤسساتية، وعدم منحها الصلاحيات الكافية، وضعف التواصل بين هذه الأطراف، وغياب العقد البيداغوجي والديداكتيكي المنظم لعلاقاتها، وسيطرة النظرة العدائية لدى بعض الأطراف ضد بعضها الآخر (الطلبة ضد الأساتذة مثلا)، وحتى داخل بين عناصر المكون نفسه (غياب التنسيق بين أساتذة المسلك نفسه، الصراعات بين الفصائل الطلابية المسيسة).
– الموقف السلبي للطالب من الإصلاح؛ بسبب عدم فهم الإصلاح البيداغوجي الجديد واتخاذ مواقف مسبقة منه تحكمه توجهات إيديولوجية وسياسية، وانعدام الثقة والتواصل بين الطالب وباقي مكونات الحقل الجامعي (ما دفع الطلبة في الموسم الجامعي 2003 – 2004 إلى مقاطعة تنزيل مقتضيات الإصلاح الجامعي الجديد، مما هدد بسنة جامعية بيضاء وأحدث توترات أمنية حادة)، وغياب بعض المحفزات التي تجعل الطالب مقبلا على الإصلاح من حيث تقديم بعض التسهيلات في متابعة الإيقاعات الزمنية الدراسية أو طريقة التقييم وإحداث مسالك خاصة بالموظفين، ومعالجة المشاكل المطروحة على مستوى الخدمات المقدمة للطلبة كالنقل والإطعام والسكن والمنح والنظافة والخزانات والموارد الديداكتيكية … وإعادة النظر في المقررات والبرامج الدراسية لتكون محفزة للطلبة.
– ازدواجة لغة التدريس بين التعليمين الثانوي والعالي خاصة في الشعب العلمية والاقتصادية والتقنية.
– الخلل في وضع الإيقاعات الدراسية وتدبير زمن التعلم: ما ينتج عنه إرهاق الطالب والأستاذ نتيجة وضع استعمالات الزمن بطريقة لا تراعي قدرات الفئة المستهدفة على التكيف والملائمة، وإهدار الزمن الدراسي أثناء فترة التسجيل (بسبب تأخر تقديم الخدمات الاجتماعية للطلبة)، وبين الدورتين الأولى والثانية بسبب طول فترة الامتحانات مع ما يصاحبها أحيانا من مقاطعات وغيرها.
2. مظاهر الأزمة التعليمية بالجامعة المغربية
تتعدد وتتداخل مظاهر الأزمة التعليمية بالتعليم العالي عموما ، مما كان له عواقب وخيمة على مخرجات الجامعة وعلى المنظومة المجتمعية بكافة حقولها، ويمكن رصد مظاهر هذه الأزمة على ثلاث مستويات:
1) المستوى البنيوي – التنظيمي: حيث عرف تطبيق ظهير 25 فبراير 1975 والإصلاح الجامعي لسنة 2000 عدة اختلالات بنيوية وتنظيمية، ومن ذلك:
ü تقادم البنيات والهياكل التنظيمية التي أصبحت تعيش حالة من التشتت والفوضى، وأصبحت أشكال ممارستها خالية من كل تخطيط وتنسيق، وعوامل ذلك متعددة:
– خلو شعار استقلالية الجامعة من مضامينه الحقيقية؛ حيث يتم تعيين رؤساء الجامعات والمؤسسات وأغلبية أعضاء مجالس الجامعات والمؤسسات بدل الانتخاب، كما أن صلاحيات هذه المجالس استشارية محضة حتى فيما يخص الوظيفة العلمية والبيداغوجية.
– تكريس أسلوب المركزية في التعامل مع الشأن الجامعي.
– غياب التعامل الرشيد مع الموارد المختلفة بشرية كانت أم مادية.
ü التمايز بين تعليم نخبوي وتعليم جماهيري؛ فالأول حظي باهتمام علمي ومالي لتخريج ثلة من المحظوظين، تكون فرصها في شغل مناسب أحسن وأفضل، فنسبة الطلبة الحاصلين على دبلومات المدارس العليا وكلية الطب لا تتجاوز 7,7 % من الطلبة الجامعيين بجامعة محمد الأول، ونسبة الحاصلين على الإجازة المهنية لا تتعدى 2,5 %. والثاني يعاني عجزا واضحا في التجهيز وبنيات الاستعمال والتأطير البيداغوجي والإداري، ويرمي سنويا بآلاف الطلبة إلى رصيف البطالة القاتلة، حيث نسبة الطلبة الحاصلين على الإجازة في الدراسات الأساسية بلغت 78,6 %، وهذا ما جعل النقابة الوطنية للتعليم العالي تدعو إلى توحيد التعليم العالي.
ü تنامي غير مراقب وغير منظم للتعليم العالي الخاص؛ والذي يستم بطغيان الهاجس التجاري، النخوية، التمركز الشديد بمركز الجهة، عدم الاعتراف الإداري والأكاديمي بشهاداته من قبل الدولة، 80 % من تخصصاته تهتم بإدارة الأعمال والتدبير.
2) مستوى المردودية والفعالية: يتوقف سير مؤسسات التعليم العالي وحيويتها الداخلية على مجموعة من العناصر؛ منها وضعية الفاعلين في حقل التعليم العالي، ومنها نوع المضامين الدراسية التي تدرس بهذه المؤسسات، ومنها أيضا لغة التعليم السائدة.
ü قصور في التفعيل والتحفيز: فالوضعية المادية والاجتماعية للفاعلين الجامعيين من أساتذة وإداريين وطلبة والتهميش الذي يطالهم كان أحد أسباب ضعف المردودية الجامعية، والتي تتجلى من خلال:
– كثرة نسب التكرار وارتفاع معدل سنوات الدراسة للحصول على شهادة الإجازة.
– ارتفاع معدل الهدر الجامعي.
– ضعف المردودية الداخلية والخارجية وعدم تلاؤمها مع متطلبات سوق الشغل.
– ضعف استجابة الطلبة لشروط البحث العلمي (فعدد فرق البحث بجامعة محمد الأول يبلغ 146 فريق تؤطر 617 طالب، وعدد مختبرات البحث بلغ 44 تؤطر 560 طالب، وعدد مراكز الدراسات والأبحاث بلغ 6 تضم 174 طالب).
ü قصور في المناهج والمضامين: فرغم جهود الأساتذة لتطوير الطرق الدراسية وتحسين المضامين، فإن التعليم العالي لا زال يعاني من عدة نقائص:
– سحب القرار المرتبط بمناهج التعليم العالي من يد الأطراف المعنية؛ إذ أن وضع الفلسفة العامة لهذه المضامين التربوية وتحديد التخصصات وأنظمة الامتحانات لا تتم إلا بمراسيم وزارية.
– اعتماد الحفظ والاستظهار والتلقين وشحن الدروس، بدل التركيز على مناهج التفكير والتحليل وأدوات التعامل مع المعرفة والتحفيز على الإبداع والابتكار والمبادرة والنقد.
– أغلب المناهج والبرامج مستنسخة عن دول أخرى خاصة فرنسا، لذا ليس فيها أي إبداع أو خصوصية.
– مناهج التعليم العالي ما زالت تعاني من الجمود والرتابة، ولا تتميز بالمرونة اللازمة، ويغلب عليها في كثير من الأحيان الطابع النظري التجريدي على حساب الشق التطبيقي العملي.
– مناهج التعليم العالي تتسم بالتخلف عن اللحاق بركب الاكتشافات العلمية والتطورات التكنولوجية، فنسبة 60 % من الأبحاث والنظريات المدرسة أصبحت متجاوزة علميا.
ü خلل على مستوى لغة التدريس: تمثل في ازدواجية لغة التدريس المعتمدة بين الشعب الأدبية والقانونية مقارنة مع الشعب العلمية والاقتصادية والتقنية، والتردد الواضح حول مسألة التعريب رغم ما كلف من جهود وأموال خاصة على مستوى الشعب العلمية. وأيضا ازدواجية لغة التدريس بين التعليمين الثانوي والعالي، مما كان له الأثر الواضح في ضعف استيعاب الدروس من طرف طلبة الشعب العلمية، والجهد الكبير الذي يبذله الأساتذة لشرح الدروس وتصحيح الامتحانات، ويتضح أيضا في ضعف الانفتاح على اللغة الانجليزية واعتمادها في كثير من المواد المدرسة باعتبارها اللغة العالمية الأولى ولغة العلم اليوم، فأصبح كثير من خريجي طلبة التعليم العالي لا يتقنون أي لغة سليمة للتواصل، سوى لغة هجينة.
3) مستوى العلاقة مع المحيط الخارجي: يتوقف نجاح مؤسسات التعليم العالي على مدى نجاحها في ربط شبكة من العلاقات مع محيطها الخارجي، بحيث تستفيد من شروط عامة يوفرها لها المحيط، وتستجيب لمطالب محددة يطلبها منها المحيط سواء في المجال العلمي أو الاقتصادي أو الثقافي.
ü ضعف الاندماج في المحيط الاقتصادي والاجتماعي؛ ويتجلى ذلك في عدة تجليات:
– بطالة الخريجين: ويدور سجال عقيم بين من يحدد سبب ذلك في هشاشة التكوين الذي تقدمه مؤسسات التعليم العالي، وبين من يحدده في محدودية الطاقة الاستيعابية للمحيط الاقتصادي.
– قلة الأبحاث والدراسات التي تقدمها الجامعة لفائدة الفاعلين الاقتصاديين.
– قلة طلبات القيام بخدمات من قبل مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية لانعدام الثقة في القدرة البحثية لمؤسسات التعليم العالي.
– ضعف الدور الثقافي للتعليم العالي؛ رغم جهود الأساتذة في هذا المجال، من حيث قلة المشاركة في المناسبات الثقافية، وغياب تام للوسائل التثقيفية التي تمكن الجامعة من القيام بدورها نتيجة هيمنة المقاربة الأمنية في التعامل مع مكونات الحقل الجامعي.
لكن استحضار البعد الإدماجي للجامعة، لا ينبغي أن يفهم منه « مهننة » الجامعة بحيث تصبح عبارة عن أوراش للتكوين المهني، بل لا بد من رؤية استراتيجية مبنية على حسابات موضوعية مدروسة تستجيب للحاجات الاجتماعية والثقافية.
ü قصور في البحث العلمي: رغم المجهودات المبذولة إلا أن الأهداف المرجوة لم تتحقق لثقل الصعوبات ومنها:
– غياب سياسة وطنية للبحث العلمي والتقني، ترسم الأهداف العامة بناء على حاجات المجتمع العلمية والاقتصادية، وتحدد الوسائل الناجعة بالنظر إلى الموارد البشرية المرصودة والإمكانيات المادية المتاحة.
– غياب أجهزة مستقلة ذات سلطة تقريرية في مجال التخطيط للبحث العلمي وتخطيطه وتنسيقه، رغم وجود المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي.
– نقص واضح في تمويل البحث العلمي.
– قلة عدد الباحثين بالنسبة لعدد السكان؛ نظرا لطغيان التصور الإداري الذي يحصر مهام التعليم العالي في تلقين المعرفة، وزيادة الأعباء على كاهل الأساتذة الباحثين (عدد ساعات التدريس، الأعمال الإجرائية من حراسة وتصحيح …)، وسوء الوضعية الاجتماعية للباحثين.
ü ضعف المساهمة في التنمية الجهوية: ولا سبيل إلى ذلك إلا بتوفر شرطين؛
– إطار قانوني يدلل العقبات أمام سياسة جهوية للنظام التعليمي بصفة عامة والتعليم العالي بصفة خاصة، فالظهير المنظم للجهات (الصادر في أبريل 1997 تحت رقم 47.96) حصر اختصاصات المجلس الجهوي في مجال التعليم العالي والبحث العلمي في « إقامة وصيانة المؤسسات الجامعية وتوزيع المنح الدراسية وفقا للتوجهات المعتمدة من لدن الدولة في هذا المجال ».
– توفير بنيات للتعليم العالي بمختلف الجهات.
3. في أسباب الأزمة التعليمية بالجامعة المغربية
يمكن تلخيص هذه الأسباب فيما يلي:
ü عدم إشراك الفاعلين الأساسيين في الإصلاح: وهؤلاء الفاعلين هم الإدارة والأساتذة والطلبة وأولياء الأمور؛ فلقد دعت اللجنة الدولية المعنية بالتربية في القرن الحادي والعشرين برئاسة جاك ديلور تحت إشراف اليونسكو في تقريرها لسنة 1994 إلى ضورة إشراك ثلاث أطراف رئيسية وفاعلة في نجاح الإصلاحات التربوية: المجتمع المحلي والسلطات العامة والمجتمع الدولي. « فمحاولة فرض إصلاحات تربوية من القمة أو من الخارج لم تلق بداهة أي نجاح، والبلدان التي توجت فيها عملية الإصلاح بقدر من النجاح هي البلدان التي استحثت لدى المجتمعات المحلية ولدى الآباء والمدرسين التزاما قويا ساده حوار مستمر وأشكال مختلفة من المساعدة الخارجية، سواء أكانت مالية أم تقنية أم مهنية: فأهمية المجتمع المحلي في أية استراتيجية لتطبيق الإصلاحات بنجاح أمر جلي ». وهذا يقتضي تفعيل الديمقراطية في الحياة الجامعية من خلال إشراك الأطراف الأساسية في رسم سياسيات التعليم العالي وإجراءاته.
ü هيمنة النموذج الفرنسي على التجارب الإصلاحية التي عرفتها الجامعة المغربية، وعدم الأخذ بالتجارب الإصلاحية الشبيهة والناجحة خاصة في الدول الآسيوية كالصين والهند وكوريا الجنوبية وتركيا.
ü غياب الإرادة الحقيقية لدى صناع القرار في النهوض بالمنظومة التعليمية عامة وبالتعليم العالي خاصة، نتيجة سيطرة الهواجس الأمنية بشكل كبير، ما يعيق الرقي بالتعليم العالي نحو منظومة تحفظ الكرامة الإنسانية، وتؤهل الجامعة لتكون مصدرا أساسيا لإنتاج النخب وتقوية الاقتصاد وتأهيل مجالات التكوين التي تشكل حاجة للسوق وللإدارة والفكر.
ü ضعف التكوين المستمر لدى الأساتذة والإداريين.
ü عدم ملائمة البنيات المتوفرة والعدة البيداغوجية والتأطير البيداغوجي مع الزيادة المتتالية في عدد الطلبة المسجلين بالجامعة، فمثلا سجل بجامعة محمد الأول 22661 طالب موسم 12 – 2013، بينما طاقتها الاستيعابية لا تستوعب سوى 19645 طالب.
ü عدم تنويع مصادر تمويل الجامعة، والاقتصار على الميزانية العامة للدولة.
ü سوء الوضعية الاجتماعية للطلبة والعاملين بالتعليم العالي، ومساهمة البيروقراطية الإدارية في سوء الخدمات الجامعية المقدمة.
ü شكلانية الاستقلالية الممنوحة للجامعة سواء على المستوى الإداري أو العلمي أو البيداغوجي، وذلك بالنظر أساسا إلى تركيبة مجالس الجامعات والمؤسسات والاختصاصات المخولة لها.
الخاتمة
هكذا إذن يتبين أن أزمة التعليم العالي بالمغرب عامة وبجامعة محمد الأول متعددة المظاهر والجوانب، ويبدو أنها متداخلة العناصر ومترابطة الأبعاد إلى الحد الذي يعتبر فيه كل مظهر سببا ونتيجة لمظاهر أخرى. وإن كان لهذه الأزمة الشاملة جذور فإن لها عواقب وامتدادات تربوية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية منها: تدني مستوى تكوين المواطن عموما، وتدني تشبثه بقيمه وحضارته وحبه لوطنه، وتدني المكانة الاجتماعية والاقتصادية لمؤسسات التعليم العالي خاصة الجامعة في محيطها، وتفاقم بعض الظواهر الاجتماعية وأخطرها الأمية والبطالة وهجرة الكفاءات. مما يقتضي ضرورة الإصلاح من خلال تبني المداخل التالية:
– الشمولية في التصور والمنهج والتطبيق.
– إشراك كافة الفاعلين والمتدخلين في الحقل الجامعي في صياغة وبلورة المشاريع الإصلاحية، وتفعيل الديمقراطية الجامعية.
– تمتيع الجامعة بالاستقلال المالي والإداري والتربوي والعلمي، ونهج منطق الانتخاب بدل التعيين.
– رصد تمثلات الفاعلين خاصة الأساتذة والطلبة بين الفينة والأخرى من مجريات الإصلاح، لتحديد الثابت والمتحول لديها.
– التركيز على استيعاب الطالب لمقتضيات الإصلاح بشكل جيد وانخراطه الفعال في تنزيله.
– التنسيق بفعالية بين التعليمين الثانوي والعالي.
– تفعيل التقطيب الجهوي في الحقل الجامعي، وخاصة في البرامج والمناهج.
– التنسيق بين مؤسسات الجامعة وتفعيل دور الجامعة على المستوى الجهوي.
– تبادل الخبرات مع الجامعات الوطنية والأجنبية الأخرى.
– الربط بين حاجات الطالب ومتطلبات سوق الشغل وبين المناهج والبرامج الموضوعة للتدريس الجامعي.
– خلق التواصل الفعال والمستمر بين مكونات الحقل الجامعي.
– تشجيع البحوث الميدانية التي تقوم بها أطراف خارج الجامعة لصالحها.
– خلق تعاقد اجتماعي ضمني بين مكونات الجامعة ونشر ثقافة الاختلاف والحوار بدل اللجوء للصراع والمقاربة الأمنية.
– فتح الجامعة على محيطها السوسيواقتصادي والثقافي.
– تخصيص مجهود مالي إضافي لتنمية البحث العلمي.
– تحسين الوضعية الاجتماعية للفاعلين في الحقل الجامعي، وتجويد الخدمات الجامعية المقدمة، مع ترشيد النفقات والاستعمال الأمثل للموارد المتاحة بشرية أم مادية.
Aucun commentaire