أعطاب المنظومة التربوية ، أو عندما تحضر السياسة …
من البديهي أن تحظى قضايا أساسية مجتمعية التي تشغل جميع أمم العالم ومن ضمنها المغرب كالتربية والتعليم باهتمام وقلق زائد ، إلا أننا نلحظ أن تناولها أصبح يدخل في سياق المحظور انطلاقا من رؤية سياسية اختزالية لا تأخذ الانتقادات بايجابية بقدر ما تضعها في الخانة السياسية حيث يصرف مسؤولون حكوميون خطاب التشويش و » العفاريت « . فلا يحق للفاعل السياسي أو الإعلامي أو أي مواطن عادي انتقاد تدبير الحكومة أو الوزيروإلا سيصنف في خانة « المشوشين « وكأننا أمام ملائكة لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم .
ولعل احد عناصر أزمة المنظومة التربوية ارتهانها إلى التأثير السياسوي والارتجالية ، وقد أكد خطاب صاحب الجلالة على ضرورة إبعاد المنظومة التربوية عن التفاعلات السياسية التي أضرت بالمنظومة التربوية وأدخلتها في المتاهات والإخفاقات. فوزارة التربية نظرا للكم البشري الذي تحتضنه ونظرا للدور والتأثير الذي تستطيع أن تلعبه على المستوى السياسي أريد لها أن تكون حلبة سياسية … فكم هي القرارات » السياسية » التي وظفت داخل هذا الحقل ؟ وكم من المسؤولين السياسيين الذين حولوا الوزارة إلى ملحقة سياسية فانبتوا داخلها جيوشا من الأتباع أفقيا وعموديا ؟؟؟ ، فبدل أن تصبح التربية والتعليم مقدما على السياسة صارت السياسة هي الفاعل الأول ، ولا تزال هذه الثقافة تخترق مجالا حيويا داخل المجتمع !!!.
من المسلم به ان الحكومة تتحمل مسؤوليتها اتجاه المنظومة التربوية وتتحمل تبعات الوزارة التي أشرفت على التربية والتكوين ويبدو أن مأساة المنظومة التربوية تعمقت ، فكل المجهودات وخريطة الطريق التي وضعت من خلال المخطط الاستعجالي لتجاوزات إخفاقات المنظومة التربوية وفق توجهات ملكية ، جعلت من قضية التعليم القضية الثانية بعد القضية الوطنية ، ورغم الملاحظات والانتقادات التي صدرت من القوى الفاعلة في المجتمع والمرتبطة بالمنظومة التربوية دفاعا عن المدرسة العمومية ودفاعا عن الشغيلة التعليمية قُرئت من منظور سياسوي تصادمي وليس من منظور تشاركي حواري ، إن الإجهاز على المخطط الاستعجالي واغلب الإصلاحات من طرف الوزير الحالي تؤكد الخروج عن تلك التوجهات والسقوط في المنظور السياسوي الذي يعطل استراتيجية الإصلاح الطويلة الأمد ، ولا يمكن للمنظومة التربوية أن ترهن إلى قرارات عشوائية شخصانية ، كل وزير أو مسؤول يحاول تشكيل المنظومة التربوية وفق رؤيته الشخصية ما ينعكس على المجهودات السابقة ويفقد البعد الاستراتيجي قيمته ، خصوصا إذا كان الذين يسهرون على تدبير المنظومة التربوية لا يملكون الحس التربوي والتعليمي ، ويتيهون في إصلاحات هامشية ليست ذات قيمة بمقارنة مع يمكن أن يكون له تأثير ايجابي على المتعلم بالدرجة الأولى . فهل يمكن لأية منظومة تربوية أن تدار من غير بيداغوجيا تعليمية واضحة المعالم فإعدام بيداغوجيا تعليمية من غير تقديم بديل يعتبر نوعا من العبث التدبيري وقصور في الفهم لأي إصلاح ، كما أن إصلاح تدبير زمن التعلم الذي أتى به الوزير الحالي من غير مراعاة الإمكانيات البدنية والنفسية للمتعلم وإمكانيات المؤسسة التعليمية له من الضرر أكثر مما ينفع ، هل يكفي أن يلاحظ الوزير اختلاف التوقيت بين بعض المؤسسات ليلجأ إلى توحيد التوقيت على المستوى الوطني ، فكانت حالة استنفار قصوى في جميع مؤسسات التعليم الابتدائي من اجل الاستجابة لرغبة الوزير، فتم التعسف على البنية والسطو على مرافق بالمؤسسة حتى كادت تصبح المراحيض حجرات دراسية ، وعرفت مستويات تعليمية اكتظاظا ، وتوسعت دائرة الفائض … كل هذا من اجل الاستجابة لتوقيت الوزير؟؟؟ وماذا كان سيضر لو أن أي مؤسسة استعملت توقيتا يناسب بنيتها بما يساهم في تحقيق الأهداف التعليمية …
يمكن أن يوضع زمن التعلم بما يتوافق مع القدرات البدنية والنفسية والتحصيلية … وما يضمن الوضع السليم للتعلم ، فبعض الأسر التي هربت إلى التعليم الخصوصي إلا لأن تدبير الزمن مرهق لأبنائها ولا يتناسب مع أصبح يفرضه الواقع الجديد من التزامات الأسر العملية … فقد تحولت المدرسة العمومية إلى حقل تجارب وتحول الأستاذ إلى لعبة تتقاذفها القرارات الاعتباطية .
ورغم أن العديد من الإجراءات التي أتى بها الوزير الحالي في أغلبها إجراءات هامشية لم تلامس جوهر المنظومة التربوية بقدر ما قدمت صورة مغلوطة عن المخطط الاستعجالي بالنسبة للمنظمات الدولية ولعموم المواطنين الذين تكونت لديهم ريبة من المدرسة العمومية خصوصا وان سلوك الوزير الحالي ساهم في التشكيك في قدرات رجال التعليم وقدم صورة رديئة عن رجل التعليم ( المفتش المدير والأستاذ ) ، والحال انه إذا قام وزير بإلغاء بيداغوجيا صرفت عنها الدولة الأموال الباهضة ، فما هو ذنب الممارس في القسم إذا كان كل وزير يأخذ قرارات ارتجالية خطيرة تنعكس بالضرر على المنظومة التربوية وتشتت مجهودا تم بناؤه عدة سنوات … طلبة تلقوا تكوينا ركز على بيداغوجيا الإدماج بمراكز التكوين ولما التحقوا بالقسم اكتشفوا أن الوزير ألغى هذه البيداغوجيا ولم يسبق لهم أن اشتغلوا بأية بيداغوجيا أخرى ؟؟؟ فهل يتحمل الأستاذ المسؤولية ؟ ما ذنب الأستاذ ضمن هذا العبث وما ذنب الأستاذ إذا عمدت الوزارة إلى اعتماد بيداغوجيا تعسفا على منهاج دراسي غير معد لذات البيداغوجيا، حيث البيداغوجيا في واد والمنهاج الدراسي في واد ، ما ذنب الممارس في القسم إذا تم تشتيت المعارف من خلال مواد متضاربة ومتداخلة تمثل عبئا على التحصيل الدراسي للمتعلم ، ما ذنب الممارس في القسم إذا كان المسؤول لا يملك خلفية تربوية قادرة على فهم نفسية المتعلم وقدراته النفسية والبدنية ، ما معنى أن يأتي وزير بإصلاح هو في العمق عقوبة للمتعلم الذي له حاجيات عندما يتحول المقرر الدراسي إلى عقوبة سجنية حيث العطل الدراسية لا تراعي توزيع المنهاج الدراسي وحاجة المتعلم إلى الراحة البدنية لتجميع القدرات نحو التحصيل الدراسي وفق أزمنة دراسية محددة وذات فواصل متباينة وغير متداخلة بالنسبة للأستاذ والمتعلم . حيث يستغرب كيف أن المخطط الاستعجالي جاء بناءا على منظور علمي مقارناتي ، بينما الإجراءات اللاحقة عملت على هدم تلك الإصلاحات . وهذا لا يعني تجاوز انتقادات وجيهة من فاعلين تربويين لبعض مضامين المخطط الاستعجالي .
وللأسف عندما يعمد رئيس الحكومة ، الذي كان يتحدث في افتتاح الملتقى الوطني التاسع لشبيبة العدالة والتنمية بمدينة الدار البيضاءفي دفاعه عن حصيلة حكومته فيما يخص التعليم ، معتبرا أن تراجع نسبة الاضرابات احد الإنجازات ، علما أن الاضرابات تدخل في سياق اجتماعي محض يتم تداوله بين الحكومة والنقابات كما أن اللجوء إلى الاقتطاع أخد طابعا زجريا وعقابيا يهدف إلى ضرب حق الطبقة العاملة في الاحتجاج … ولقد هددت نقابات وازنة بان الموسم الاجتماعي المقبل سيكون ساخنا وهذا تعبير عن الإحباط الذي نتج عن حوار اجتماعي فاشل لم تقدم فيه الحكومة أية استجابة لمطالب الشغيلة . و لا يعقل تجاوز الاستقرار الاجتماعي والنفسي ما يوفر بعض ضمانات الاستقرار للمنظومة التربوية .
فأية يد كانت للحكومة الحالية على الاستقرار عندما يتغافل رئيس الحكومة الحالي الدور الذي لعبته حكومة عباس الفاسي في الحسم في العديد من الملفات العالقة ، ما جعل الخلاف بين الشغيلة التعليمية والحكومة يتقلص وهو الأمر الذي ساهم في انخفاض التوتر وقلص من الاضرابات ، كما عملت حكومة عباس الفاسي على إبرام العديد من الاتفاقيات لم تعمل الحكومة الحالية إلا على التنكر لها وإعدامها إضافة إلى الحوار الاجتماعي الذي كان صفرا ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه مأسسة الحوار الاجتماعي تحايلت الحكومة الحالية لإفراغه من محتواه ، ويستمر الغموض يلف الحوار الاجتماعي المقبل الذي من المفترض أن يبدأ الشهر المقبل . وبالتالي سوء تدبير أية حكومة لا يمكن إلا أن ينتج ارتدادات سلبية على جل القطاعات وعلى رأسها قطاع التربية والتكوين .
أما الحديث على أن نتائج الباكالويا كانت جيدة ، فان رئيس الحكومة اعتمد على تقييم عددي وليس تقييم منهجي معرفي ، فالمغاربة يعرفون أن النتائج تتحكم فيها الخريطة المدرسية وان الوزارة تتحكم في نسبة النجاح فهي عندما تريد أن ترفع من نسبة النجاح تعمد إلى النزول تحت المعدل ويعرف رجال ونساء التعليم أن تلاميذ ينجحون بمعدلات 7 أو 8 على عشرون بناءا على ما تقتضيه الخريطة المدرسية . إن التحليل الذي اعتمده رئيس الحكومة هو تقييم سياسوي موجه إلى الأسر المغربية وليس تقييما منهجيا يلامس الأساس في المنظومة التربوية . فما معنى المراتب المتدنية التي أصبح المغرب يحتلها على المستوى العربي والأفريقي…
تدبير المنظومة التربوية ظل حبيس هيكلة سياسية انطبعت عليها بصمات مسؤولين تعاقبوا على هذه الوزارة ، إن ارتهان المنظومة التربوية سواء على مستوى التدبير أو على مستوى الرؤية إلى الهاجس السياسوي والمزاجي سيجعلها تجتر نفس الاعطاب ونفس المآسي على المتعلم وعلى جزء كبير من نساء ورجال التعليم ليس من السهل تفكيك بنية بشرية وثقافية لا تزال تتحكم وتؤثر في المنظومة التربوية …
Aucun commentaire