المقامات المزمارية : المزمار الثاني – الرجل الذي التقى بابن بطوطة وسلمه الأسرار المخطوطة
المقامات المزمارية : المزمار الثاني – الرجل الذي التقى بابن بطوطة وسلمه الأسرار المخطوطة
حدثناأبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أهل الحكمة والرزانة، عاش طيلةحياته يتفادى عيش الذل والمهانة، وكان يسخر عقله في كل ما يطلبه الناس منالإعانة…كان قلبه يتسع لكل أنواع الحوار والجدال، ولا يناقش أمراً إلاودعَّمَ رأيه بالحجة والمثال…اشترى كتباً ناذرةً من إحدى مكتبات المدينة،وعكف على قراءتها لاستبطان ما بها من الأفكار الثمينة، كما عمل على تبينواسخراج جواهرها الدفينة…قضى شهراً متواصلاً في القراءة والبحث والدراسة،يحدوه في ذلك ما كان يتصف به من صفات الكياسة، وما حظي به من صبر ومنعلامات النباهة والفراسة…وحدث يوماً أن قرر السفر إلى بلاد الأندلس، حيثبكى زمان الوصل وطلَّتْ خِلسةُ المختلِس، وحيث يُمْكِنُه البحث والتمييزبين الواضح والملتبس…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في الزيارات القصيرة،أن صاحبنا تقدم بطلب للحصول على التأشيرة، لكنه قوبل بالرفض لخلو حسابهالبنكي من الذخيرة…نصحه بعض من جرب قبله مثل هذا القمع، أن يحرك حسابهتارة بالسحب وتارة بالدفع، ويستعين في ذلك بمن يراه قادراً علىالنفع…انتظر سنة حتى امتلأ حسابه بالسيولة، وحصل بعدها على التأشيرةبكامل السهولة، ثم أبحَرَتْ به الباخرة نحو شوارع غرناطة المأهولة…سمعأصوات ترحيب مختصرة في عبارة « أُولا »، وتناهت إلى سمعه وكأنها عبارة « ياهَلا »، ورأى من اللباس ما قصر وما بخس ثمنُه وما غلى…يروي أحد الفضوليينالمتخصصين في أحاديث القيل والقال، أن صاحبنا قضى اليوم كله يردد نفسالسؤال، عن المكان المناسب للنوم وعن إمكانية العثور على الأكلالحلال…لاحظ أن معالم المدينة مختلفة عما قرأه عنها في الكتب، وأُعجببعلو عماراتها وهي تعانق أنوار الشهب، وخلفها أطلال بائسة يُحْكى أنها منإرث العرب…دنا منها حتى لامس ما تراكم فيها من الحجر، فبدا له رجل يصارعثوراً وسط قطيع من البقر، ويتغنى بصفرة الشعَر المجنون وزرقة عيونالغجر…اشتم فيه رائحة يلفظها في خياشيمه أرق التاريخ، وتقتلع جذوره كماتقتلع جذور النخل ذات الشماريخ، وترمي به بعيداً في متاهات زمن السرعةوالصواريخ…حياه الرجل بعربية محكمة الصياغة والنطق، وحكى له ما عاناهطيلة رحلاته من الكراهية والعشق، ثم أنشد يقول شعراً يفوح بالكثير منالحنين والشوق:
سافرتُ أبغي حدود النفع للبشر وسجَّلتْ رحلاتي غابر الأثر
واسْتَبْطَنَتْ بعيون الشَّاهدِ درراً إنَّ الخـرائط لا تخط بالخبر
دوَّنْتُ ما لا تراه العين في حُلُمٍ وبالدليـل تُقاسُ دقَّةُ البصر
أدركصاحبنا أنه ابن بطوطة بالدم واللحم، فسعد بلقائه معتبراً ذلك ضرباً منالحلم، وطلب منه تزويده بالمزيد من المعرفة والعلم…حدثه عن أحوال الأندلس زمنالوصل السالف، وما سجله في مدنها من العجائب والطرائف، وعن مملكاتها فيعهود أمراء الطوائف…أطلعه على ما أنجزه الأجداد وما تركوه من القصور، وما خلفوه من العلوم المتناثرة في أرجاء المعمور، من عهد الحاكم بأمر الله والمعتصم به إلى ولاية الغالب والمنصور…سأل صاحبنا عن سر تقدم الأجداد في علم الحساب والجبر، وعن علاقة أمة العرب باختراع الناعورة والسكر والصفر، فأجابه ابن بطوطة بأريحية في الحين وعلى الفور…فأما اختراعهم للناعورة فكان من باب المكائد و »التنوعير »، وأما السكر فمن باب الزيادة في حلاوة الإشاعات والتشهير، وأما الصفر فذلك مستقرهم حسب درجات التقويم والتقدير…شكره على حسن الإفادة وأراد المزيد من الدروس، عله يجد عنده ما يفك به طلاسم وعناد الرؤوس، وما يفتح به ما انغلق عليه في دواخل النفوس…سلمه ابن بطوطة كل ما سجله خلال رحلاته وأسفاره، واستأذن الرحيل ليواصل سيره نحو نهاية أقداره، وبقي صاحبنا لوحده يتخبط بين حقائقه وأسراره…قرر أن يسافر ناهجا مسار رحلات ابن بطوطة، ويفك بأبحاثه ودراساته الميدانية العقد المربوطة، مسترشداً بما تيسر له ومتبعا الخرائط المخطوطة…انطلق من غرناطة إلى جنوب غرب البلاد، حيث إشبيلية عاصمة مملكة بني عباد، وهناك استقبلته ولادة شاعرة السيف والجياد…حدثته عن كل ما جرى لها بالإشارات الواضحات، وكيف انتقل بدو الصحراء من الخيام إلى الناطحات، ثم شنَّفَتْ أسماعه بما تيسر لها من شعر الموشحات…اطلع على ما تركه الفلاسفة والمتكلمون، وقارن بين ما قاله المتحررون والمستعربون والمتزمتون، وعاين ما فعله المتأخرون بما تركه المتقدمون…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في مجال الجغرافيا، أن صاحبنا قرر زيارة بلدان الحقوق والقنب والمافيا، ويطلب العلم ولو كان في أدغال يوغوسلافيا…سافر إلى بلاد الصين حيث تنشط حركة النمل، فسجل أن الناس هناك يسيرون وفق رجاحة العقل، وليس كعقل العصفور الذي يعشش في جسم البغل…كتب الكثير عن عجائب وغرائب هذا البلد، وعن أخلاق الأم والأب واحترام البنت والولد، فنقل عنهم سر التحضر بالدليل والحجة والسند…قضى شهراً هناك يسجل ويلتقط ما شاء من الصور، وأعجب إلى درجة الافتتان بعيون أهل البلاد ثاقبة البصر، وعزا سر ذبولها إلى كثرة الجد لا إلى كثرة السهر…لاحظ خلو شوارعها مما يعوق سيولة السير، وتذكر حفر شوارع بلاده المترصدة للناس طيلة العمر، فبكى شوقا واشتياقا ودعا لقومه بالمزيد من الصبر…غادر بلاد النمل متوجها نحو بلاد العجب، حيث تفرخ براميل النفط وتتناسل ناطحات السحب، وحيث تختلط مركبات العجم رباعية الدفع بإبل العرب…اعتبر ذلك نوعاً جديداً من أنواع الطرائف، فرأى شهب الصواريخ وصم أذنيه صوت القذائف، فأخبروه أنه موسم لإحياء ذكرى فتنة ملوك الطوائف…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في علم الفتن، أن صاحبنا احمرت أذناه بكثرة الهتافات للعروبة والوطن، وما رأى إلا مكائد تحاك في السر والعلن…أخبره أحدهم أنه مهرجان بمناسبة موسم ربيع العرب، حيث تُطَلِّقُ البنادق هدوء الحوار والكلام والخطب، وحيث تتيه العقد في متاهات العلة والسبب…حاول أن يجد تفسيراً لمفهوم كلمة الربيع، باحثا عنها في قاموس « أصول اللفظ البديع » ، فاستغرب ما قرأه عن دلالة تركيبها الفظيع…وجد أنها نُحتَتْ من « الرَّ » و « بيع » لفظاً كاملاً، أما « الرَّ » فاسم فعل أمر بمعنى تحرك عاجلا، وأما « بيع » فمن « باع بائعٌٌ » فعلا وفاعلاَ…سجل الملاحظة في مذكراته وتابع مشواره الطويل، وترك للشراح والمتخصصين والرواة مسألة التأويل، فقرر العودة إلى بلده ويرتاح من مما تعرض له من التهويل…شرع في ترتيب حقيبته للسفر قبل بزوغ النهار، وخرج يبحث عن الشارع المؤدي إلى محطة القطار، ولما نزل سقطت منه مذكراته المليئة بالأخبار والأسرار…ولما حاول جمعها وقد أطلق القطار صوته للعنان، استيقظ مذعوراً مرتعد البدن مصطك الأسنان، ثم مات متأسفاً على تشابه حال العرب عبر الأزمان…وفي رواية أخرى أنه لما أدرك مرارة ريقه المُحتبِس، قارن بين حليب النعاج وبين لبن طوائف الأندلس، ثم مات ثلاثاً ولم يكن حلمه إلا خلسة المختلس….
يتبع مع مزمار آخر محمد حامدي
Aucun commentaire