حديث عن العمل في عيد العمال
خلت الشوارع من سيول البشر التي تدفقت بها في الصباح، إلا من قليل من الناس الذين تخرجهم الحاجة وقضاء أغراضهم،وخفت ضجيج الشعارات والمطالبات ولم يبق إلا بعض أصوات السيارات التي ألفها الناس في حياتهم ولم تعد تزعجهم أو تشغلهم لأنها انضمت إلى عوائد أيامهم وإلف زمانهم،وطويت اللافتات والأعلام إلا ما كان من بعض لوائح الإشهار الملازمة للمحلات التجارية،وخلا كل خليل بخليله يحدثه عن عيد العمال ، ونضالات العمال ،ووسائل النضال ،والمطالب المحققة ،والأخرى المعلقة، وعن خطط النضال المستقبلية ، وعن تأطير العمال ……إلى غير ذلك مما يتصل بالعمل والعمال…
خلوت إلى نفسي في المساء ببيتي وصدى الشعارات مما ردده العمال في الصباح، ومنظر المسيرات مما رأيت في الشوارع والقنوات ،لم ينمح أثره من أذني ولا من بصري، وقلت لم لا تلازم هذه الحيوية والاندفاع والقوة التي أبداها العامل في عيد العمال العامل الشغيل نفسه في مواطن عمله في سائر أوقات العمل؟. ثم تذكرت أن لعيد العمال بالنسبة للعامل شحنات عاطفية لا توجد في غيره من الأيام ،مثله مثل أيام شهر رمضان وأيام الأعياد الدينية بالنسبة للمؤمن ، فعدت باللوم على نفسي وقلت: قد لا يتلازم ما في العيد من حيوية ونشاط وتضحية مع ما في الأيام الأخرى من رتابة وتوال لأمور متشابهة لا تختلف إلا قليلا.
ثم تساءلت و قلت : يا ترى هل يتفق العمال في كل بقاع العالم على معنى واحد للعمل أم أنهم يختلفون في ذلك باختلاف الثقافات والديانات ؟ رجعت إلى نفسي مرة أخرى واسترجعت بعض الشعارات التي سمعتها في بعض المظاهرات بمناطق عدة من العالم، كما استرجعت بعض ما قرأت عن مفهوم العمل في مختلف الثقافات ، فوجدت أن مفهوم العمل يختلف من ثقافة إلى أخرى ومن ديانة إلى ديانة ، وظهر لي التمايز الشديد بين مفهوم العمل في الثقافة الإسلامية وبين مفهومه في الثقافة الغربية.
ففي الثقافة الغربية يتخذ العمل منحى واحدا يتعلق بالجانب المادي للإنسان ، فالعمل الذي يرومونه ويناضلون من أجله هو العمل الذي يحقق الزيادة السنوية في إجمالي الناتج الوطني، ويزيد من دخل الفرد، ويرفع من قيمة الاستهلاك ، إلى غير ذلك من المعايير المادية التي يحدون به العمل ،وهذا الذي عبر عنه أحد كبار مفكريهم الاقتصاديين آدم سميث حينما قال في كتابه: »ثروة الأمم » أن رفاهية الأمم تقاس بما تنتجه وتستهلكه من سلع ومنتوجات.
وعرف عن الإغريق في القديم أنهم كانوا يحقرون الأعمال اليدوية ويزدرون أصحابها ويرون أن الاضمحلال البدني الناشئ عن هذه الأعمال يستتبع انحطاط الروح، وكانوا يرون أن المواطن الصالح لا يكن أبدا من العمال.وإنما الصلاح والمواطنة الحقة في من يأتي الأعمال الذهنية المرتبطة بالعقل والتفكير.
واعتبرت اليهودية والمسيحية العمل عقوبة رمى الله بها البشر جزاء بما عصاه أبوهم آدم في الجنة ، وكان من نتائج هذه المعصية أن طرده الله وقال له : »ملعونة الأرض بسببك ، بالتعب تأكل منها أيام حياتك »
واختلف فهم الإسلام للعمل عن هذا الفهم الضيق الذي حصره فيه المجتمع الغربي الذي نزل عقله إلى عينه وبطنه وأصبح لا يؤمن إلا بما يراه ويشبع غرائزه، إذ العمل في الإسلام أوسع وأشمل مما في غيره من الديانات والثقافات لأنه يستجيب للحاجيات المادية في الإنسان كما يستجيب لأشواق روحه المعنوية كذلك ، ولم يحقر أي عمل مهما كانت طبيعته إن كان في دائرة الحلال والصلاح.
ولو رجعنا إلى القرآن الكريم، والسنة الشريفة ،لوجدنا مدى الاعتناء والاحتفاء بالعمل والترغيب فيه فالله تعالى ينسب العمل إلى ذاته الشريفة فيقول: »أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون. » وأمر سبحانه خير خلقه الذين هم الرسل فقال لهم: » يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا » فكان منهم الفلاح والتاجر والحداد والنجار وكثير منهم رعى الغنم ، وكان الله سبحانه قادرا على أن يغنيهم عن كل ذلك ، ولكنه شرف العمل وحكمة الله في خلقه،وتأمل معي قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق نبي من أنبياء الله: » ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده » ويحسن بي هنا أن أنقل لك بعض ما علق به أحد العلماء على هذا الحديث ، قال ابن حجر: »…وفي الحديث فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره. والحكمة في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة ، لأنه كان خليفة في الأرض كما قال تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل، ولهذا أورد النبي صلى الله عليه وسلم قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد. ».
وقالت الرسل لأقوامهم كما حكى عنهم القرآن ذلك : »قل يا قومي اعملوا على مكانتكم أني عامل فسوف تعلمون » وقال الله تعالى أيضا: »وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون. »،ووعد الله عباده بأنه لن يضيع عمل عامل منهم فقال: »إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى » وأن كل من اجترح شيئا بيده سيراه سواء كان ذلك صغيرا أم كبيرا قال عز وجل: »فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره »
ذلك بعض ما في القرآن الكريم عن العمل ،أما في السنة فيكفي أن أشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم قبل يدا ورمت من العمل وقال : »هذه يد يحبها الله ورسوله »
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: »إني لأرى الرجل فيعجبني ، فأقول : أله حرفة ؟فإن قالوا :لا، سقط في عيني ، وظل رضي الله عنه يحث على العمل ويرغب فيه حتى حفظة القرآن الذين هم أهل رأيه ومشورته ، ومحل ثقته وتقديره يقول لهم: » يا معشر القراء التمسوا الرزق ، ولا تكونوا عالة على الناس.ط ولقي ذات يوم أبا هريرة فقال له: » ألا تعمل ؟ قال : لا أريد العمل ، قال : قد طلب العمل من هو خير منك ، يوسف عليه السلام ، قال : »اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم « .
ومما ينسب إليه أيضا قوله:إن الله خلق الأيدي لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملا ، التمست في المعصية أعمالا ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية. »
يتبع
Aucun commentaire