المقامات الدفية : الدف الثالث والأربعون – الرجل الذي التقى بالمتنبي وتعلَّمَ كيف يُطيعُ ويُلَبِّي
المقامات الدفية : الدف الثالث والأربعون – الرجل الذي التقى بالمتنبي وتعلَّمَ كيف يُطيعُ ويُلَبِّي
حدثنا أبو الغرائبعن أبي العجائب أن رجلا من أهل البلاغة والشعر، كان مغرما بفحول شعراءالمدح والهجاء والفخر، وكان يحافظ على تراثهم بالحفظ والتدوينوالنشر…عُرِفَ بمحولاته في النظم وسباكة اللفظ البديع، وبالتغني بجمالاللطبيعة خاصة أيام الربيع، وظل مفتونا بجرس موسيقى المقام السريع…كانكلما دُعِيَ إلى حضور تدشين إدارة أو مؤسسة، أو حضر افتتاحيات وفعالياتأنشطة معهد أو مدرسة، إلاَّ وتوقَّفَ أمامَ أسمائها المختارة بطرقملتبسة…مَرَّ ذات يوم قرب بناء شَبَّهَهُ ب »البَرَّاكَة »، وقد وُزِّعأطْفالٌ في حجراتها ببالغ الركاكة، وكان قد سمع أنَّها بُنيتْ في إطارالشَّراكة….رجع إلى منزله بعد مُغادرة المنظر الحزين، وأحسَّ بألم شديديعصر رأسه جهة الجبين، ثم نام على إثره يتوجع تحت وطأة الأنين…وحدث يوماًأن خرج يتجول في الأطراف البعيدة، عسى أن تُلْهِمَهُ الطبيعة بما يبني بهجمال القصيدة، بناءً محكما يُعيد به للشعر رونق أيامه المجيدة…تذكّر شكلَ « البراكة » وشكلَ جدرانها المعطوبة، واستنكر تسميتها بشاعر العرب والعروبة،واقترح أن ينال من سمَّاها أقصى أنواع العقوبة…يروي أحد الفضوليينالمحسوبين على المتتبعين والقراء، أن صاحبنا راجع جميع دواوين فحولالشعراء، وتذوَّقَ ما ورد فيها من شعر المدح والهجاء…تفَنَّن في هجاء تلكالمؤسسة المزعومة، وخصَّصَ بيْتين كاملين في طلب الهداية للحكومة، وتَركَالتفسير بتأويلات الجهات المعلومة…تعلَّقَ قلبُهُ بهجاء الحطيئة وقد زادهذلك غراماً، وانبهر بمدح المتنبي وخصَّ شعرَه تمعناً واهتماماً، وودَّ لويلتقي بهما ليقف لهما تَبْجيلاً وتقديراً واحتراماً…رأى في الأفق فرساًمُجنَّحاً وسط غيمة من النقع، فانتابته رغبة التَّحليق في الحلم حيث نقاوةالربع، فاسترسل في فيض الخواطر بصور محكمة السجع…اقترب منه الفرس وأقرأهالأمان والسلامة، ثم بدا له رجل مسلح في كامل الشهامة، فزالت من عينيهمظاهر الغبش والقتامة…رحب بقدومه مقدِّراً جلاله حق القدر، فشكره الرجلُعلى ترحيبه جزيل الشكر، ثمَّ عرَّف بنفسه في أبيات منَ الشعر
مصائبُ قوْم عِنْدَ قوم فــوائدُ وجُرْحي يُسيلُهُ غبــاءٌ مُعانِـدُ
أنا منْ عُرِفْتُ بالمديح المُجاهِرِ وسالَتْ بِإِلْهامي وشعري القصائدُ
فكيْفَ تُسَمّى واجـهاتٌ بِكُنْيَتي وداخلـها جهْلٌ غزيرٌ وسـائـدُ
فكَّصاحبنا لُغْزَ ما جاء في القصيد، وتيقَّنَ أنَّه المتنبي صاحب القلموالحديد، ففرح بانشراح وبراءة الرضيع الوليد…لاحظ ما يعلو وجهه من علاماتالغضب، وسأله باحترام ومودة يريد معرفة السبب، فأجابه أن ذلك يعود لما رآهفي هذا العصر من العجب…شاطره بكل أسف نفس الشعور، ولام في ذلك أهلالمظاهر والقشور، ثم طلب منه تعليمه فنَّ جوهر البحور…درًَّبه على حلاوةالبلاغة وعذوبة النظم، وأوصاه مصراً على ضرورة الستر والكتم، وفي لحظة انفضمن حوله كبارقة السهم…بات صاحبنا يتدرب على السبك طيلة الليل، وفي الغدعاد وحالُ لسانه يتوعد الناس بالويل، ونادى في الناس أنه المتنبي شاعرالسيف والخيل…يروي أحد الفضوليين المهتمين بالخبايا والأسرار، أن صاحبناتعَهَّدَ بتَبْجيل الاسم وردِّ الاعتبار، رغْمَ علمهِ بمشقَّةِ وطولالمشْوار…تجول في المدينة ليُعاينَ ما سُمِّي باسمه، ويحاسب كلَّ منْثبتَتْ عليه تُهمة جُرمِه، وكلَّ مؤسسة لا تكون في مستوى المتنبيوعلمه…شاهد اسم المتنبي معلقاً على واجهات بعض المدارس والمعاهد، وحاولأن يرى إن كانت في مستوى اسمه وشعره الرائد، لكنه فوجئ لما علم أن بهاخصاصاً حتى في المقاعد…اتصل بمحام لرفع دعوى وصفها بالمستعجلة، ضد كل منرمى تاريخ الاسم في فم المقصلة، واستنكر كيف يُطاحُ بمثل هذا الصرح فيالمهزلة…طلب من المسؤول الصغير إنزال اليافطة الفارهة، وشطْبِ الاسمنهائيا وإزالته من الواجهة، واستبداله بأي اسم يراه من الأسماءالتافهة…اعتذر المسؤول وأقنعه أنَّ الأمر بيد المسؤول الكبير، فهو الساهرعلى كل ما تحتاجه المنطقة في مجال التدبير، وهو القادر وحده على كل مايتعلق بالتثبيت والتغيير…قَدَّرَ الموقفَ وتوجه إلى كبيرالمسؤولين علىالفور، فأخبروه هناك أن رئيسهم لن يستقبله إلا بعد الظهر، وطلبوا منه أنينتظر ويتحلى بالهدوء والصبر…غصت القاعة بطالبي التعاقد خلف العبدالمأمور، فتذكر ما قاله المتنبي في هجاء الكافور، ثم أخذ دوره في آخرالطابور…علم من بعضهم أنهم جاؤوا لسد الخصاص، حسب هيكلة وتوصية جهةالاختصاص، واعتبر أن ذلك شكلا من أشكال الامتصاص…عبَّأَ مطبوعاً وضمنهسبب الزيارة، ثم عينوا له مدخل المكتب بالإشارة، بعد أن جردوه من المحمولوالسجارة…سلَّم على الرئيس وحكى له الواقعة بالاختصار، راجيا منه السرعةوالاستعجال في القرار، إلا أن الرئيس أكد له أن الأمر بيد الكبار…يرويأحد العارفين بخبايا النفوس، أنه لمَّا ضاع طلبُ صاحبنا بين الرؤوس، أعلنهاعليهم حرباً كحرب الباسوس…قرر نزع اسم صاحبه ولو تورم في ذلك القدمُ،وستذكرُ صنيعه بالفخر العرب والعجم، خاصة وهو الذي يعرفه الرمح والقرطاسوالقلمُ…ولما اعتلى سلماً ليشَرَعَ في إزالة الاسم، وأحس بكهربة لاسعةتسري في كامل الجسم، استيقظ مذعوراً فَلَفَّ عمامته حول خاصرته بالعزم، ثممات وفي نفسه شيء من اللوم…وفي رواية أخرى أنه لما اتُّهِمَ بالمرَبِّي ،وأدرك الفرق الكبير بينه وبين المتنبي، ندم ثم مات ثلاثاً وهو يناديويُلَبِّي….
يتبع مع دف آخر . محمد حامدي
1 Comment
يا أستاذ أنت تعلم أن المتنبي كان صديق لسيف الدولة السوري، يمكن الحساد المغرضين أو الجيش الحر وراء التسمية لتشويهه