دلالات اللقاء الملكي بشيوخ الطرق الصوفية بالسنغال
دلالات اللقاء الملكي بشيوخ الطرق الصوفية بالسنغال
استقبال الملك محمد السادس لشيوخ الطرق الصوفية السنغالية بمناسبة الزيارة التي يقوم بها إلى السنغال وعدد من دول افريقيا الغربية له دلالة خاصة بحكم الروابط الروحية التي تجمع الطرق الصوفية السنغالية ومؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب منذ العهود الأولى لانتشار الإسلام في افريقيا جنوب الصحراء لا يمكن تجاهلها في تاريخ العلاقات الدولية ، بحكم الدور الكبير الذي لعبه سلاطين و ملوك المغرب في توطيد دعائم الدين الإسلامي والاستقرار في بلاد السودان منذ أبي بكر اللمتوني ويوسف ابن تاشفين والسعديين إلى ملوك الدولة العلويون الذين مارسوا دورا مهما في إشاعة العلم والمعرفة وتوطيد العلاقات الثقافية والاجتماعية بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء، التي كان عدد من أمرائها يدينون بالبيعة للسلاطين العلويين كما تدل على ذلك مجموعة من الرسائل التاريخية المتبادلة بين أمراء الغرب الإفريقي والساحل وسلاطين الدولة العلوية كرسائل الشيخ احمد البكاي بن محمد بن المختار الكنتي شيخ الطريقة البكائية المتوفى بالنيجر إلى المولى عبد الرحمن التي يقول فيها ( نحمد الله الذي أكرمنا بنبيه ذي الكرم وفضلنا به على جميع الأمم ثم وفقنا لإتباع سنته وخصنا بتباعة عترته فنحن ببيعتهم في بيعته )
وكذا رسالة الأمير الشيخ احمد الكبير بن عمر بن سعيد بن عثمان التجاني إلى المولى الحسن الأول التي يقول فيها ( فأنا منك واليك لا من غيرك و لا ننتسب إلى أحد سواك، وكوننا من تلامذة الشيخ التجاني رضي الله عنه في بيعة جدكم المكرم والشريف المعظم أمير المؤمنين مولانا سليمان اظهر من نار على علم …)، ثم استمرار ذلك عن طريق الدعاة والعلماء المغاربة الذين فزعوا لإفريقيا ما وراء الصحراء للدعوة إلى الله والتعليم ثم بعد ذلك نتيجة للتأثير الصوفي باعتبار المغرب مهد التصوف السني و منبت الأولياء والصالحين ومصدر الإشعاع الروحي والحضاري في بلاد الغرب الإسلامي قاطبة ، حيث يقول الدكتور إبراهيم حركات ( في الميدان الفكري والعقائدي عمل الدعاة والفقهاء المغاربة على نشر الإسلام والمذهب المالكي وراجت المؤلفات المغربية والإسلامية عن طريقهم وانتشر الخط المغربي الذي عم كل افريقيا الغربية والشمالية وقصد المغرب عدد كبير من طلبة السودان كما أن ثمرة هذا العمل المغربي أدت إلى ظهور علماء كبار في بلاد السودان …) الذي يعتبر تأسيس رابطة علماء المغرب والسنغال احد أهم نتائجه المعاصرة.
لذلك فمن الطبيعي أن تكون الزيارة الملكية لجمهورية السنغال التي تحتل مكانة إستراتيجية في غرب افريقيا والتقائه بشيوخ الطرق الصوفية ذات أبعاد ودلالات عميقة في توطيد العلاقة بين المغرب والسنغال وباقي بلدان افريقيا الغربية في ظرف تعيش فيه منطقة الصحراء و الساحل الإفريقي على وقع تحولات جيواستراتيجية كبرى وتأزم الوضع السياسي والأمني لعدد من بلدانها خاصة مالي التي تشهد حربا مستعرة في شمالها تقودها فرنسا وعدد من بلدان المنطقة ضد الجماعات المتشددة والجهادية التي تهدد الاستقرار والأمن بكامل الساحل الإفريقي كما تهدد التعايش السلمي و التراث الإنساني والروحي بها وثقافة الوسطية والاعتدال التي حافظت عليها الطرق الصوفية طيلة قرون.
– العمق التاريخي :
العلاقة التاريخية بين المملكة المغربية وجمهورية السنغال ليست فقط علاقة بين دولتين يجمعهما الانتماء الجغرافي الإفريقي و المصالح الاقتصادية والدبلوماسية المشتركة بل هي علاقة عميقة جدا يشكل البعد الروحي والثقافي اكبر ميزاتها واهم خصائصها التي تجذرت عبر التاريخ، ففي الكلمة الافتتاحية للمؤتمر الأول لرابطة علماء المغرب والسنغال سنة 1988 قال الرئيس السنغالي السابق عبدو ضيوف ( لقد استطاع التاريخ أن يقيم بين المملكة المغربية و السنغال علاقات ووشائج ثقافية متينة عزز جانبها ووطد دعائمها امتزاج بين شعبيهما يعود تاريخه إلى ألف سنة وزيادة ) يكفي للتدليل على ذلك اسم سنغال مشتق من ( صنهاجة ) القبيلة الامازيغية المغربية الممتدة الأطراف في الصحراء الإفريقية الكبرى، كما ازدادت هذه العلاقات توثقا وعمقا بفضل المكون الصوفي الذي جعل من المغرب والسنغال وحدة جيواستراتيجية عميقة عبر عنها الاستعماري الفرنسي كورناي تروملي في كتابه (أولياء الإسلام ) المطبوع سنة 1881 بان وجود الطرق الصوفية في غرب إفريقيا هي امتداد لحركة الهجرة من شمال المغرب والمقاومة الموريسكية ، خاصة الطريقة القادرية التي حملها الشيخ أبا محمد صالح الدكالي دفين أسفي إلى المغرب وإفريقيا الغربية بعدما زار مولاي عبد القادر الجيلاني ببغداد سنة 656 هجرية وعنها تتفرع الطريقة البكائية التي تنتسب إلى الشيح احمد البكاي من آل كونتا ، ثم بعدها الطريقة التجانية للشيخ سيدي احمد التجاني دفين فاس التي كان لها الفضل الكبير في في نشر الإسلام وتوطيد دعائمه في افريقيا الغربية يقول الكاتب الأمريكي لوتروب ستودارد في كتابه حاضر العالم الإسلامي ( انه تبع الطريقة التجانية عدد كبير من أهل ماسينة في السودان الغربي وأهالي فونتا تولرو وفوتا جالون وصاروا من اشد أنصار الإسلام وانضموا تحت راية الحاج عمر فكانوا طيلة أربعين سنة هم سادة السودان الغربي من تمبكتو إلى المحيط الاطلنتي …)
الارتباط الوثيق بين الطرق الصوفية في السنغال وغرب افريقيا و مؤسسة إمارة المؤمنين الذي تجسد في اللقاء الذي جمع الملك محمد السادس وشيوخ الصوفية وعبروا عنه بوضوح في تصريحاتهم الإعلامية حين قال أبو باكار محمد منصور سي التجاني ( شرف كبير لنا أن نحظى باستقبال من طرف جلالة الملك محمد السادس٬ أمير المؤمنين. إنه أمر مهم بالنسبة لنا٬ لأننا نحن التجيانيون نعتبر المملكة كوطننا الروحي٬ بالنظر لارتباطنا القوي بفاس التي تحتضن مؤسس طريقتنا الشيخ سيدي أحمد التيجاني ) كما قال الشيخ سعيد نورو طال من الأسرة التيجانية العمرية (إن العلاقات بين بلدينا تجد متانتها في الصلات الروحية من خلال النهج الصوفي للطريقة التيجانية، بل أكثر من ذلك، فالمذهب المالكي، المتبع بالمملكة، يربط مختلف الطرق السنغالية بالمغرب وليس فقط الطريقة التيجانية)
– العمق الاستراتيجي :
الصلات التي تجمع الطرق الصوفية بالمملكة المغربية تشكل عمقا استراتيجيا لا غنى عنه اليوم في السياسة الخارجية المغربية بل يمكننا اعتبارها إحدى ركائز الدبلوماسية المغربية في علاقتها بإفريقيا الغربية من اجل تعاون إقليمي بناء وقادر على ضمان الاستقرار والأمن و إشاعة قيم التعايش السلمي بين الاثنيات المختلفة والمحافظة على الوسطية و الاعتدال الديني في مواجهة دعوات التشدد والتطرف و الانحراف الفكري والعقدي وفي مواجهة مخططات التنصير .
لذلك فان اللقاء الملكي بالطرق الصوفية السنغالية بالإضافة إلى انه يؤكد العمق التاريخي للعلاقات الروحية و الحضارية بين المغرب والسنغال يفتح مجالا جديدا للتعاون الشامل و الوحدة على طول الساحل الأطلسي لإفريقيا الغربية حيث تتشكل الجغرافيا الروحية المغربية الإفريقية و إتاحة الإمكانية لتجسدها في وحدة إقليمية قوية بين دول المنطقة على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية كما كانت عبر التاريخ باعتبار المكون الإفريقي جزءا من الهوية المغربية الأصيلة وباعتبار أهمية الموقع الإفريقي للمغرب في تحقيق التنمية الاقتصادية و الاستقرار الإقليمي، و يدفع نحو مساهمة اكبر للجمهورية السنغالية في الجهود الدبلوماسية التي يقوم بها المغرب من اجل خدمة الاستقرار في شمال افريقيا وفي دعم الخطوات الجادة لطي ملف الصحراء المغربية في إطار مقترح الحكم الذاتي لإنهاء النزاع بما يخدم شعوب المنطقة وتعايشها السلمي ، كما أن التواصل الروحي بين الطرق الصوفية بإفريقيا والمملكة المغربية يعزز من أهمية المساهمة المغربية في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية بعدد من دول الغرب الإفريقي من خلال تشجيع الاستثمار المغربي بها و رفع سقف التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي و الثقافي في جميع المجالات انطلاقا من المضامين التي تهدف إلى تحقيق التنمية الإفريقية التي جاءت في خطاب الملك محمد السادس بدكار .
Aucun commentaire