المقامات الدفية : الدف الأربعون – الرجل الذي أدرك عدم الربح لخلو كلامَه من الملح
المقامات الدفية : الدف الأربعون – الرجل الذي أدرك عدم الربح لخلو كلامَه من الملح
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا عُرفَ بالحكمة وضرب الأمثال، وانتشرت سيرته بين الرواة وتناقلتها مختلف الأجيال، واشتهر بملازمة الفعل للقول بعيداً عن الدراهم والأموال…كان بعض الناس لا يستسيغون له حديثا ولا كلاماً، والبعض كان يرى فيه مثالا ونموذجا وللحديث إماماً، حتى اشتد الخلاف بينهم وتمادوْا في ذلك صراعاً وخصاماً…وحدث يوما أن أعلنت القرية عن تجديد هياكلها بعد المشاورات الطويلة، وذلك لاختيار ممثلين عنها يسهرون على شؤون القبيلة، لا يتقدم فيها إلا من يرى في نفسه تقديم الخدمات الجليلة…أُعْلِنَ عن موعد الاقتراع في كل الصحف والمقاهي والمساجد، واحتدمت المنافسة ولعلع صداها وكل يريد الفوز بأحد المقاعد، واختلفت في ذلك الوسائل والحيل والنوايا وتنوع الأخذ بالمقاصد…يروي أحد الفضوليين العارفين بالسياسة والمسرح والتمثيل، أن صاحبنا وجد نفسه وسط جمع صَمَّ سَمْعَ أذنيه بالتطبيل، طالبين منه المشاركة ما دام هو الذي يستحق كل الاحترام والتبجيل…استشار أقاربه ومعارفه وكل من يخُصُّهُ بالاحترام، فما كان منهم إلا أن شجعوه وقالوا له هيا إلى الأمام، مؤكدين له أنها فرصة لا ينالها إلا من هو سليل الكرام…تقبل الأمر بنوع من الخوف والتوجس والاستغراب، وتمنى أن يرى قريته في يوم ما تنعم في الخير والاستتباب، فنام باكرا ليحضر في الغد وفي الموعد بداية حملة الاستقطاب…وحدث أن هيأ له الأهل والأتباع والمعارف وخيرة الجيران، منصة عالية مجهزة بالمكبرات حتى يكون في مستوى المهرجان، فألقى خطاباً يسلب لُبَّ العقل ويدغدغ دواخل الوجدان…هتف الحضور بحياته ضامنين له الفوز بأصواتهم، حتى ولو اقتضى الأمر منهم الاستعانة بأمواتهم، فقد خبروا كيف استُغِلُّوا سابقا وكيف هُدِّدُوا في أقواتهم…أعلن رفضه المطلق لكل أنواع التدليس علانية وجهاراً، ونادى بالنزاهة وفَضَّل أن يكون الصندوق فاصلا ومعياراً، بغض النظر إن كان المنافس مُفلساً أو فقيراً أو كان مِسْياراً…طاف مع أتباعه الشوارع والأزقة وثنايا الدروب، محاولا شرح برنامجه مذكرا ما في غيره من العيوب، مناقشا ومتحججا بالأدلة والبراهين لاستمالة القلوب…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في فن الحملات والحمولة، أن أتباع صاحبنا تناقصوا وبَدَّلُوا ما أعلنوه من الفحولة، بعد هجوم الزيت والدقيق ورنين الدرهم والسيولة…أعلن تحديه رغم ضيق اليد متمسكا بما يَنْفَعُ وما يصلُحُ، وظل لخطابه يُقيمُ ويردد ولبرنامجه يُفسِّرُ ويَشْرَحُ، معارضا لما يدور حوله متهما مستمرا في ذلك يَفْضَحُ…ومرَّت الأيام حُبلى بالشعارات والوعود حتى حلَّ يَوم الاقتراع، بعد أن احتدمت الخطب وطفا منسوب السيولة مشهيا بالانتفاع، وتبدلت التقديرات فهبط من هبط واستمر آخرون في الارتفاع…يروي أحد فضوليي تكهنات الصناديق وتحليل الأعداد والنسب، أن صاحبنا حصَّل بعد الفرز والحساب على أولى الرتب، فَعَضَّ المنافسون أصابعهم معتبرين ذلك ضربا من العَجَب…أتاه المهنئون وفيهم من ظل ثابتا ومنهم من بدَّل وباع، بعد أن سرى الخبر في آذان أقصى القرية وشاع، وهو للحب والوفاء لهم ما نسي ولا أضاع…وكان من بين المهنئين شاعر اشتهر بالبيان والبديع، ألقى قصيدة بالمناسبة شدت إليها انتباه الجميع، وكان قد نظمها على بحر السريع:
فاضـت قريحتي وجادت بما يجري على اللسان من خاطر
تلَّقَفَـتْ أسمـاعُنا فَـوْزَكمْ وقـد تسامى في فـم فـاغر
قد عِشْتَ دوْماً للْغِنى رافِضاً تبغي فصيـح الحق من غادِر
أنت الذي نِلْتَ العلا ساهرا فاهنَـأْ بفَضْل مِـن دمٍ ثـائر
أقسم على المصلحة العامة وأشهد بذلك حالفا مُحلَّفاً، واستعظم الأمر وأدرك أنه أصبح بالمسؤولية مُكُلَّفاً، بعد أن كان بهناء الضمير وراحة البال مُشَرَّّفاً…خصوه وزودوه ببدلات ومكتب وكاتبة وسائق وسيارة، واكْتَرَوْا له شقة مفروشة في أقرب وأحسن عمارة، فأصبح يتنقل من مكتب إلى مكتب ومن وزارة إلى وزارة…وعاش على نفس النهج مُستفيدا من ضخامة الأجر، وواجه احتجاجات أتباعه بكل ما امتلك من الصبر، مهدئا إياهم أن المستقبل ينوء ويفيض بالخير…قرر أن يغادر القرية ليرعى ما بناه من مشروع، بعد أن ضمن أنه أزال من طريقه كل شيء ممنوع، وأصبح كلامه عند أهل الحل والعقد جد مسموع…خرج يوما ليتفقد سير بناء منزله الجديد، وبينما هو كذلك سقطت على قدمه قطعة من الحديد، استيقظ بعدها فوجد نفسه لازال يكرر نفس الخطبة والنشيد…ثم مزق أوراقه ومات مهددا ومذكرا بالوعد والوعيد…وفي رواية أخرى أنه لما أدرك أنه لم يكن له مال لنيلِ الربح، أيقن أن كل ما ظل يردده من كلام ينقصه شيء من الملح، فمات وفي نفسه شيء من حتى مُؤجِّلَةِ الليل إلى الصبح….
يتبع مع دف آخر . محمد حامدي
1 Comment
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن صاحب المقامات الدفية حين أوفى دفه الأربعين، وبطلب من صحبه الأقربين هم إلى جمع مقاماته بين دفتين فهمّ يتنقل بين الناشرين .. إلخ إلخ .. مع مودتي والتحياتب