المقامات الدفية : الدف الثامن والثلاثون – الرجل الذي عاش في الهناء وورطه حماره في البلاء.
المقامات الدفية : الدف الثامن والثلاثون – الرجل الذي عاش في الهناء وورطه حماره في البلاء.
حدثنا أبو الغرائب عن أبيالعجائب أن رجلا من عامة الخلق، كان له ثور أبيض ظل يرعاه بالحنان والرفق،ويقتسم معه كل ما يحصل عليه من الرزق…وكان له حمار به قروح في الظهر،من كثرة ما عاناه من الضرب والقهر، حتى نفد ما به الرزانة والصبر…وذاتصباح استفاق الرجل على صوت الحمار، فقام من فراشه ليعرف ما جد منالأخبار، حيث وجد الحمار والثور منهمكين في تبادل الحوار…سأل الثور الحمارعن سر ما علا ظهره من الدمل، فحرك الحمار رأسه مشيرا إلى كثرة الكلل، ثمبكى حتى غرقت وجنتاه في البلل…رق قلب الثور وأطلق خواره للعنان، فقرر الحمارأن يطلعه على سر ذكاء الحيوان، شريطة أن يتولاه بالحفظ والكتمان…علمالثور أن القروح كانت حيلة من الحمار، حتى يتنصل من العمل برغم التهديدوالإجبار، فواعده بالكتم وأقسم له بحق العشرة والجوار…ظل الرجل يتابعالحوار بكامل الدهشة والذهول، وفكر في تتبع خطوات الثور في الخروج والدخول،حتى لا يحرضه الحمار على الكسل والخمول…يروي أحد الفضوليين المتخصصين فيأعمال البر، أن صاحبنا التمس من الحمار أن يبتعد عن الثور، وألا يفسدعقله بحيل الغش والغدر، وإن لم يفعل فليستعد للعقاب المر…وأشيع يوما أنالثور قد أصيب بمرض إفلونزا الطيور، وترك على جلده بقعا سوداء والكثير من البثور، واستقبل الحمار الخبر بكامل الفرحة والحبور…ذهل الرجل مما رأى واتصل بالبيطري على الفور، ليفحص أسباب البقع ويشرح ما حدث للثور، وشك في أن تصل حيل الحمار إلى هذا القدر…وصل البيطري وفحص ما علق بالجلد من بقع، وصرح للرجل أن الثور أصيب بإفلونزا الضبُع، ولا بد أن ينال القدر الكافي من الراحة والشبع…نهق الحمار نهيقا لم تعرف القرية له من قبل مثيلا، وقرر أن يكون مناصرا لصديقه الثور ووكيلا، وحَمَّلَ الرجل ما جرى مدعيا أنه يملك ألف دليل ودليلا…حار الرجل بين حال الثور وادعاء الحمار المتطفل، وعرض الأمر على معارفه ليغيثوه بالرأي والتدخل، فطلبوا من الحمار التفكير في عواقب القرار المتعجل…استمعوا إليه ولاحظوا ما يجمعه مع الرجل من التطابق، ثم خلصوا في النهاية إلى المصالحة بينهما بالرضا والتوافق، على أن يحق للحمار أن يصطحب الثور في كل الأمكنة والمرافق…تراكمت أشغال الرجل ولم يعد قادرا على البذل، ففكر في أن يشتري بغلا يساعده على الحمل، لكن الحمار رفض واعترض على شراء البغل…ولما سأله الثور عن أسباب المعارضة، أفهمه أنها وسيلة لدفع الأذى والمناهضة، فلا مجال بينهما وبين البغل للمقايضة…ووضح له أن البغال مفطومة على الانصياع، ولا تفرق في عملها بين التريث والاندفاع، ثم أنشد وجلس الثور للاستماع:
أمعـاشر الحيوان هذا موطني عشت العصور مرابطا في مكمني
حُمِّلْـتُ ما نـاء الحليم بحمله وَوُصِفْتُ ظُلْمـا بالغبـاء لِدَيْدني
أين البغال من الحميـر شَهامَةً لا يَسْتَوي ذَهَـب الغنى بالمعـدن
يروي أحد الفضوليين المتخصصين فيالمشاحنة والعناد، أن الحمار أرغم صاحبنا على تغيير المراد، وقرر شراء عوض البغل ثوراً شديد السواد…توجه الرجل بالثور إلى الحقل ليباشر عملية الحرث، ولما رجع به لاحظ الحمار عليه علامات التعب واللهث، فتقدم إليه بكل ما يملك من إمكانيات الإشفاق والغوث…انفرد الحمار بالثور الأسود طالبا منه عدم الخوف، واقترح عليه أن يطالب بالمزيد من العلف، وأن يهتم بنفسه ويحذر من الغدر والخطف…وحاول أن يُقنعه بضرورة القضاء على الثور المصاب، وعلل أن بذلك سيخلصانه من شدة الآلام والعذاب، ويتجنبا الإصابة بالعدوى لأي سبب من الأسباب…اختلى الثور الأسود بنفسه وفكر كثيرا في الأمر، وتذكر قصة الثيران الثلاثة الذين وقعوا في الغدر، واعتبر ذلك من الحمار طعنة في الظهر…رفض الثور الأسود ما جاء على لسان الحمار، وهدده بالويل إن هو طبق ما دار بينهما في الحوار، ونصحه أن يبتعد نهائيا عن مثل هذا القرار…عصبها الحمار برأسه وأبدى للثور نوعا من التراجع، وحز ذلك في قلبه مبرزا نفاق القواطع، وكتم ما سيلقاه الثور جراء ذلك من العواقب والتوابع…تفقد الرجل الثور المريض عله يفاجأ بالبشارة، بعد أن هيأ له ما اقترحه البيطري من العصارة، إلا أنه وجده وقد ذبلت عيناه من شدة الحرارة…طلب الحمار من الرجل الذهاب إلى الحقل، وطمأنه أن الثور بات تحت رعايته طيلة الليل، فلا خوف عليه ما دامت الحرارة لم تصل إلى الذيل…حمل الرجل محراثه وخرج دون الخوض في التعليق، واصطحب معه الثور الأسود الذي كشف عن مظهره الأنيق، ثم توجه نحو عمله يدعو لنفسه بالتوفيق…استغل الحمار غيابهما لينفذ ما جد في المشروع، واقترب من الثور المريض تسبقه كثرة الدموع، موصيا إياه بالاستمرار في خطته وعدم الخضوع…ناقشا ما لحق بهما في حضور الثور الأسود من الحيف، وقررا أن يقضيا عليه إن هو لم يدخل في الحلف، وعزما على المبادرة حتى لا يضيعا اللبن في الصيف…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في العناد والعصيان، أن الحمار والثور فرا بعد أن حققا ما كان يريدان، وفقد الرجل ما كان يملك من الاعتدال والاتزان…وحدث يوما أن مات الثور الأبيض وبقي الحمار وحيدا، ففكر في العودة إلى صاحبه ليبدأ مشوارا جديدا، بعد أن ضاقت به الدنيا وتمنى أن يُلْهَمَ موقفا سديدا…وصل فوجد الرجل ممددا في الفراش وقد هدَّتْه آلام المرض، وادعى أن كل ما جرى كان من خُبث الثور الأبيض، وواعده بالانصياع وأن يكون للثورين خير العوض…صدقه الرجل وسامحه على كل ما قام به من الأفعال، فشكره الحمار واستعد للعمل في اللحظة والحال، وفضل التعب مقابل التبن على خشونة لعب الأطفال…نشط الحمار في عمله وأبدى لصاحبه حسن التقدير، وارتقت المكافأة من الحشيش والتبن إلى ما لذ من الشعير، وجاء موسم الحصاد بالخير العميم والمحصول الكثير…اقترح عليه بيع ما فاض عن الاكتفاء، وشراء نعاج تكسر سكون وحدتهما بالثغاء، وبالمرة تدر حليبا أو لحما عند الاقتضاء…رحب الرجل بالفكرة واعتبرها مفتاح حظه وسعده، وقرر أن يخفف من مراقبته ويفك اسر قيده، بعد أن تيقن أن الحمار قد عاد بالفعل إلى رُشْده…توالدت النعاج وخلفت الكثير من الخراف، فنما مال الرجل وتعددت مواسم القطاف،
وأصبح واحدا من أعيان القوم في الإنفاق والإسراف… يروي أحد الفضوليين المتخصصين في البوادر والانفراج، أن صاحبنا اغتنى وعرفت تجارته الكثير من الرواج، وقرر بعد مشاورة الحمار أن يتقدم للزواج…أصر الحمار على أن يتولى بنفسه زف العروس، فزين بردعته بالورود وبما يُلَين ضيقَ النفوس، وتمنى أن تكون العروس مرتاحة في الجلوس…علت الزغاريد والحمار في مشيته يتبختر، والعريس خلفه في طول جلبابه يتعثر، والناس فرحون لا يدركون ما كان في الخفاء يُتَدَبَّرُ…ولما شارف الموكب على الاقتراب من الدار، خطرت فكرة الانتقام على ذهن الحمار، فركل العريس وألقى بالعروس على نبات الصبار…شق الصفوف للفرار والبردعة عالقة بالقوائم، فلحقه الموكب يكيل له أقبح السباب والشتائم، ثم أنقذوا العروس مستعينين بالأحزمة والعمائم…ولما تفحص العريس حنكه ليحدد عمق جرحه الغائر، وجد نفسه لازال يتابع حوار الثور والحمار الجائر، فمات معتبرا أن امتلاك حمار في هذا الزمان واحدة من الكبائر…وفي رواية أخرى أنه لما أدرك السر وعلم يقين العلم، حمَّل الحمار مسؤولية ما أصابه من النكد والهم، ثم مات ثلاثا بعد أن تولت الفئران جسده بالقضم…
يتبع مع فضول آخر . محمد حامدي
1 Comment
لي ما عندو هم تجيبولو حمارتو