المقامات الدفية : الدف الخامس والثلاثون – الرجل الذي التقى بشهرزاد ونسي وقت الميعاد
المقامات الدفية : الدف الخامس والثلاثون – الرجل الذي التقى بشهرزاد ونسي وقت الميعاد
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أهل القصص والحديث، كان يقوم في جمع الحكايات بالبذل الكثير والسعي الحثيث، تعلق بشهرزاد ليرث حكاياتها حتى لُقِّب بالوريث…وكل ما كان يرجوه ويطمح إليه هو أن ينال من ذلك شُهرَةً، وأن يصدح اسمه في سمع الأقوام رنة وإيقاعا ونَبْرَةً، مقتنعا بنموذجها ومعتبراً ما حدث لها مثالا له وعِبْرَةً…جمع كل ما استطاع جمعه من حكايات وغرائب العجم والعرب، ما كان يحصل منها واقعا وما مُزِجَتْ أحداثها بالخيال والعجب، بعد أن لانت له الشروط ومُهِّدَتْ له السبل والتحكم في السبب…وكان لديه حمار يركبه ويستعين به في جلب الكتب والأسفار، وكان يشفق عليه ويدعو له بالسلامة ولطف الأقدار، حتى تَقَوَّتِ الصلة بينهما وزاد في تمتينها كتم الأسرار…وحدث أن خرج الحمار يوما طالبا حاجته لوحده، بعد أن أدرك غيابَ صاحبه والتَّخَلُّصَ بصعوبة من قيده، متمنيا أن تُقَذَّرَ مُبادرتُهُ ويُشكر ويجازى على جهده…استَحَمَّ في بركة قريبة من الإسطبل ليزيل آثار التبن وغبار البردعة، فقد سمع من سيده يوما أن الماء يعود على الجسم بالنشاط بالمنفعة، ثم أكل شعيرا وأردف ماء حتى أحس في بطنه بجعجعة…يروي أحد الفضوليين المهتمين بقضايا الحيوان، أن الحمار التقى بكلب أعور واتفقا على يكونا أخوان، يتَّحِدان من أجل العيش الكريم ويتعاونان على لسعات الزمان…وإذ هما كذلك يتعارفان ويتعاهدان مر بهما ثور أجرب، يرتدي جلد عنزة وهو إلى شكل القرد أقرب، فاعترضا طريقه وهو لا يعرف إلى أي مصير سيذهب…سأل الكلبُ الثورَ عن أصله ومراده والحمار بقرنه يقبض، فجعله اختلاط النهيق بالنباح يعترف ولأسراره يعرض، فقال أنا الذي سمعتما عنه أنه أُكِل يوم أُكِل الثور الأبيض…اختليا ليتناقشا ويقررا ماذا هما فاعلان بجَرَبِ ثور، اقترح الكلب أن يُشْنَقَ وتُسْلَخ جلدته ويُْلقى بها في غَوْر، حتى إذا جَفَّ لحمه صار قََدٍيداً يحلو طُعمه طوراً بعد طور…ورذَّ الحمار أن ما حكم به الكلب ليس له فيه أي نصيب، واقترح أن يخدمهما حولين ويكون لهما احرس نقيب، ويدلهما على كل ما يعرفه من مرعى أو مكان وتل خصيب…وبينما هما على نفس الحال بين الرفض والاقتراح، حدد الثور طريقه ثم أطلق قوائمه للرياح، تاركا المكان خلفه يعج بزوبعة من النهيق والنباح…فندم الحمار كثيرا وقفل إلى صاحبه راجعاً، لكنه نسي معالم الطريق وأدرك أنه قد أصبح ضائعا، وانتشر خبر حكايته بين أهل الغابة وبات شائعاً…ولما دخل وريث شهرزاد الإسطبل ليطمئن على حماره، وجده قد تحول إلى ديك يعبثُ بالتبن برجليه ومنقاره، فذهل مما رأى واعتبر ذلك سرّاَ قد يكون أغرب أسراره…اقترب من الديك راغبا في التحقيق والتحري والكشف، إلا أن الديك فزع وطار حتى صار في أعلى السقف، وسقطت من منقاره لُؤْلُؤة تَشُلُّ الأبصار بالخطف…يقول أحد الفضوليين المتخصصين والعارفين بخبايا الحيوان والطيور، أن صاحبنا خفض جناحيه للديك توددا واصفا إياه بسيد النسور، متوسلا إليه معاهدا إياه قسماً ألا يُصيبه شيء من الشرور…أخذ اللؤلؤة وتفحصها بانبهار ثم وضعها في جيبه، واقترح على الديك الجلوس بأمان إلى جنبه، مغريا إياه بحبات قمح كان قد جهد في جلبه…
نزل الديك والتقط الحبات بحذر وعلى عجل، وصاحبنا يخطو خلفه بهدوء وعلى مهل، حتى أمسك به بعد لأي وجهد وكثير من حِيَل…ثم طلب منه أن يخبره كيف صار ديكا بعد أن كان حماراَ، فرد الديك أن الأمر ما كان بدالاً كما يظن ولا غِياراً، وحار صاحبنا وحضرته صورة الحمار وانشطر قلبه انشطاراً…حكى الديك له كل ما حدث لحماره مع الثور والكلب، ولما انتهى أحس صاحب الحمار بانخفاض دقات القلب، وطلب منه أن يحدثه عن سر اللؤلؤة وفد أخرجها من الجيب…أخبره أنها كانت قد سقطت بعد انفراط عقد كان لشهرزاد، يوم حكموا عليها بالسجن وعرضوها جارية تباع في المزاد، بعد أن سَلَبَت بحكاياتها عقول الأمراء والوزراء وسائر العباد…يروي بعض الفضوليين المغرمين بتتبع الأخبار، أن الديك بكى حتى قُطِّع ما في الحشى من الكبد والأوتار، وكيف رمت به إلى هذا الإسطبل بعد العز مشيئة الأقدار…كشف له سر اتفاقه مع شهرزاد حول موعد الصياح، حيث كان يصيح كلما أدرك أنها ترغب في الارتياح، وكانت تجازيه صاعا من القمح عاش في لذَّته الأيام الملاح…فهم صاحبنا ما كان بين الديك وشهرزاد من صفقة ومكيدة، وعرض عليه أن يشتغل معه في حكايات جديدة، ويُكرمه عن كل صيحة بقصعة مُشَكَّلَة من حبوب متنوعة وعديدة…وافق الديك شريطة اقتسام الفوائد والربح، ويكون له النصف في الهدايا وألاَّ يُهدَّد بالذبح، مؤكدا أن يكون التوزيع مباشرة وقبل طلوع الصبح…وقَّعَ صاحبنا الاتفاق وهو يُضمر للديك حقداً، واشتاق لرؤية حماره الذي ظل في خدمته عقداً، دون شروط ودون دلال حتى صار له عبداً…انتفخ الديك فبدأ يطوف حول صاحبنا ويصول، وهو لا يدري إن كانت حياته ستقصر أو تطول، ثم أخرج من بين جناحيه مدونة وأنشد يقول:
أنا الـديك والديوك حـتْماَ قلائلُ وفي كل حمل تشتهيه الحوامل
فلولا صياحي ما نجت شهرزادكم ولا سَالَمَتْها المُرْهَفات القواتل
حَكَتْ شَـهْرَزادٌ ألْـفَ لَيْلٍ ولَيلَةٍ تَعالَتْ صياحاتي لَها والفواصِلُ
وحدث أن أرسل في طلبه كبير تجار المدينة، ليحكي له ما يُفَرِّج كُرْبَةَ وضيم ابنته الحزينة، وله إن أفلح ربع ما يوجد في الخزينة…قبل العرض في الحال وحدد لهم مكان وموعد اللقاء، واقترح أن يكون ذلك عند باب المسجد بعد الانتهاء من صلاة العشاء، وأرسل معهم تحيته إلى التاجر تنوء بالاحترام والبيعة والولاء…بات الليل كله في تدريب الديك على مواضع الصياح، ومتى يعلن عن موعد انتهاء الكلام المباح، حتى تطول الجلسات ويكبر الانتفاع وتتكاثر شروط الأرباح…وفي الموعد وصل إلى قصر التاجر وفي يده قفص من خشب، كان قد وضع فيه الديك موصول منقاره بأنبوب من قصب، حتى لا يضيق تنفسه أو يُصاب بزكام أو أي عطب…جلس التاجر إلى يمين ابنته وخلفهما حارس قابض على غمد سيفه، وأمامهما جلس صاحبنا يحكي حكايات ونكتا وهو منكب على أنفه، والديك يتابع حركات السياف حتى شعر بمرارة القمح وعلفه…استمر صاحبنا في الحكاية وابنة التاجر لا تشعر بالغبطة، ورمق السيف ينسل من غمده وأدرك أنه سقط في عمق الورطة، وتمنى أن يُدركه الديك قبل أن يُصاب دماغه بالجلطة…ولما اشتد غضب السياف واستل سيفه بالكامل، حرك صاحبنا القفص مشيرا إلى تدخل الديك العاجل، والتاجر عن كل حركاته وملامحه لم يكن بالغافل…استغاث بالديك بكل ما يملك من وسائل الإيضاح، لكن الديك قرر عدم الاستجابة وأضرب كليا عن الصياح، وكان يود قطع رأس صاحبنا حتى يشعر بالارتياح…اقترب السياف منه يريد فصل رأسه، بعد أن تأكد من تفاقم هم مولاه ويأسه، فغير الديك رأيه تحت قساوة السياف وشدة بأسه…ولما صاح بعد الانتظار الطويل وحَوَل العين، استيقظ صاحبنا فوجد شعره مكسوا بالتبن، فنظر إلى حماره ثم مات شاعرا بالغبن…وفي رواية أخرى أن صاحبنا تحسس موضع ركلة الحمار، ثم استحضر كل ما فعلته شهرزاد في قلب الشهريار، ومات ثلاثا بعد أن أعلن الديك طلوع النهار….
يتبع مع فضول آخر . محمد حامدي
Aucun commentaire