المقامات الدفية : الدف الرابع والثلاثون – الرجل الذي تسحر مع الصغار وأفطر قبل طلوع النهار
المقامات الدفية : الدف الرابع والثلاثون – الرجل الذي تسحر مع الصغار وأفطر قبل طلوع النهار
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أهل الكياسة والأدب، اشتهر بالبديع وأحيطت صنائعه بالغرابة والعجب، وتعود ألاَّ يستعجل أو يبادر حتى يأخذ بجادة السبب…كان كلما سأله الناس سؤالا أو حاجة إلا وأجاب، أو بادر بفعل أو قصد غاية إلا وأصاب، وطيلة حياته ما تمنع ولا تكاسل ولا أعاب…كان مولعا بسرد الحكايات والبطولات وقرض الشعر، متصيدا للمعاني والصور متحكما في القوافي والبحر، عارفا بالصرف والنحو وما يعسُر من النصب والجر…وكان يتجنب مجالس اللهو وأينما حل وارتحل الصغار، متفاديا كل ما يطويه الليل من دناءة ويكشفه النهار، مقتنعا بأن ما قد يفسده الدهر لا يُصلحه العطار…وحدث يوما أن خرج متجولا ومر بجمع غفير من العميان، يتزعمهم أبكم خاطبا فيهم محرضا إياهم على العصيان، فما كان منه إلا أن يتابع الأحداث ليشهد بالحق والميزان…هتف الأبكم بحماس وخلفه تسير جماهير عميان غفيرة، ترفع شعارات محبوكة مسجوعة ومرددة هتافات مثيرة، مطالبة بعيش كريم يتساوى فيه البكم والصم وذوي البصيرة، استرعى انتباهه شعار تذوق ما فيه من إبداع وصنعة، قالوا: « نريد تحضرا نحن في مدينة ولسنا في ضيعة »، وأضافوا: « كلنا هنا نريد عيشا كلنا أبناء تسعة »…يروي أحد الفضوليين المهتمين بقراءة ما في الرؤوس، أن صاحبنا ظل يراقب المسيرة وقد ضاقت بمرارة النفوس، فقال مازحا: « فعلا إن كل منقوص لا يأتي إلا بالعمل النَّحوس »…
ثم ترك الجمع قافلا إلى بيته والحسرة ترافقه، وصورة الأبكم توجع رأسه تارة تغيب وتارة تلاحقه، وتحيات المارة تحاصره وهتافاتهم تجامله وتنافقه…عكف في بيته سبعة أيام على الكتابة والتدوين، فكتب حكاية عن الأبكم وكيف استفاد من التربص والتكوين، وعن العميان وكيف تفننوا في صناعة التصوير والتلوين…واتُّفِقَ أن خرج في اليوم الثامن يبغي تفقُّداً، ولأفكاره يريد تمرسا وللكتابة نشاطا وتجدداً، حتى يكون في النشر مبدعاً وفي السبق متفرِّداً…مر بجموع غفيرة من الغلمان تهتف « بالبارصة » وأمجادها، وسراويلها تزيغ عن أردافها ملتصقة بأجسادها، وقبالتها أعداد تهتف « بالريال » مستعدة لإفحام أندادها…اختار صاحبنا لنفسه مكانا رآه أحسن زاوية، تمكنه من أن يكون شاهدا وساردا وراوية، والجموع تردد هتافاتها صارخة تارة وتارة عاوية… يروي أحد الفضوليين المتخصصين في قراءة ما في الطوايا، أن صاحبنا ظل يلتقط الصور من كل المواقع والزوايا، فقال مازحا: « فعلا ما كان للراعي أن يحاسب الخماس على سوء النوايا »… ثم ترك الجمع قافلا إلى بيته والندم له معتصر، متعجبا كيف يكون لغير أهل البلد في هذه الأرض منتصر، وبات ليلته مستفسراً ومتسائلا وهو حائر منتظر…عكف في بيته شهراً قضاه يؤلف حكايات وقريضا، حتى اعتقد الصحب إصابته بمكروه ما أو قد يكون مريضاً، وزاده ذلك عند الناس سمعة وصيتا عريضاً…يروي أحد الفضوليين المهووسين بالبصبصة حتى الغثيان، أن صاحبنا خرج متجولا في إحدى ليالي رمضان، بعد أن شعر بحرارة مفرطة وسخونة تُنْبئُ بالغليان…مشى في الزقاق وتذكر يوم حرر به جاره أقبح شكاية، وكيف أدرك حينها أنها كانت تنوء بحقد دفين ونكاية، ففوجئ بأطفال يحاصرونه طالبين أن يروي لهم ما لديه من حكاية…ابتسم في وجههم وقال الحمد لله خالق السماوات والجبال، وأيقن أنه لازال خيرٌ في نواصي الصبيان والأطفال، ودعاهم لتناول السحور معتبرا فعله نافلة من الأنفال…أكلوا حتى شبعوا وحكى لهم مسرحية بالفصل والمشهد، وبقي على نفس الحال حتي تبين الخيط الأبيض من الأسود، حيث ختم كلامه بشيء من شعره المخلد:
كتم الهوى في النائبات ندامتي وأضاع عشقي للبديع شهامتي
ورجوت من صنعاته وقريضه ما يحفظ الوجه الكريم وقامتي
فَشُغِفْتُ بالقول الحكيم مجاهراً لا أبْتَغي غَيْرَ الدَّواء نـدَامتي
انصرف الأطفال شاكرين وهو يدعو لهم بالنجاح، ولما اخترق سمعََه صوت البهائم وصياح ديك الصباح، استيقظ مذعورا فوجد صوته قد امتزج بالنباح…تحسس عنقه محاولا اكتشاف ما حدث أثناء النوم، فشرب ماء ونسي أنه يوم من أيام الصوم، ثم مات مستحضرا ما لقيه من الأطفال من الشتم…وفي رواية أخرى أنه لما استيقظ مذعوراً مفزوعاً، وجد نفسه مبحوحاً وإلى الشرب والإفطار مدفوعا، فمات مستغفراً ورأسه نحو السماء مرفوعاً….
يتبع مع فضول آخر . محمد حامدي
Aucun commentaire