المقامات الدفية : الدف الثاني والثلاثون – الرجل الذي فَضَّلَ دخان الحطب على انطفاء اللهب…
المقامات الدفية : الدف الثاني والثلاثون – الرجل الذي فَضَّلَ دخان الحطب على انطفاء اللهب…
حدثناأبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا قضى نصف شبابهفي الهدر، وكان يحلم أن يقضي ما تبقي منه في بلاد ما وراء البحر، فجربقوارب الموت حتى كادت قتله في مقتبل العمر…وحدث يوما أن اجتمع بثلاثة من خيرة صحبته، وطلبمنهم أن يشيروا عليه برأي يُخرجه من كربته، فحكى لهم ما أبعده عنهم وماحدث له أثناء غربته…ثم أطلعهم على ما لقيه من زوجته من المهانة والضرب، وكيف استولتعلى إرادته وشهامته بالعنف والسلب، وكيف غيرت حياته من هيبة السبع إلى عيشةالكلب…ثم استطرد في سرد حكايته مع زوجته العجوز،منذ بداية لقائهما الأول وكان في شهر يوليوز، وكانت بالنسبة له آنذاك كنزا منأغلى الكنوز…كانت مناسبة عرس أقامها ابن خاله العامل بالخارج، حضرهارجال ونساء وكثر لحم بقرها وإبلها الناعج، واختلط فيها حديث العربيةبالفرنسية والفصيح بالدارج…وكان ضمنهم علجة يزين عنقها وشاح من ريش النسر، تتحدث العربية بشكل متقطع يميل إلى العسر، فقال هيا لها فقد تكون هذهفرصة العمر…حينها كان شابا وكان لديه رغبة في الاستقرار، بعد أن ذاققبلها مرارة البطالة وطول الانتظار، فتقدم نحوها يمتص ريقه غارقا فيالاحمرار…عرَّفها بنفسه وعلم أنها تولوزية العنوان، ثم التقطا صورةبجانب العريس هما الاثنان، وسعدت به كثيرا حين قام ليلتها بدورالترجمان…انتهت أيام العرس وكان لا بد له من السفر، فودع ابن خالهوسأله عنها وعما جد في الخبر، وقال له ستطير إلى فرنسا غدا قبل بزوغالقمر…أرسل في طلبها ليودعها كما تقتضي الأصول، ونظرتها إليه بزرقةالعين عالقة بذهنه لا تزول، ثم تبادلا العناوين واتفقا أن يكون بينهما الهاتفالمحمول…يروي بعض الفضوليينالمتخصصين في شبكات التواصل، أن صاحبنا استغل الأنترنيت وأدى به الأمرإلى التطاول، وتجرأ ليطلب يدها تاركا الأمر لها للتداول…وبعد مدة وافقتشريطة أنيعيش معها في بلدها، وأن يقبل بينهما بوجود ابنتها وولدها، وأن تكونالأمور والقرارات والعصمة بيدها…أرسلت له كل ما يحتاجه لاستخراج تأشيرةالسفر، واستقبلوه بباب القنصلية دون الاصطفاف مع البشر، الذين كانوا ينتظروندورهم مكدسين كالأغنام والبقر…سلموه التأشيرة وتمنوا له سفرا ميموناسعيدا، فاندهش مما رأى وراح فكره يسبح في الماضي بعيدا، حيث تذكر صديقهالذي قتلته قوارب الموت شهيدا…انتظرته بالمطار في الموعد المحدد رفقةكلبها، فركب السيارة وانبهر بجمال المدينة ونظام شعبها، ثم صعدا سلمالعمارة يتبعها محملقا في بدانة كعبها…يروي أحد الفضوليين المتخصصين فيشؤون الغربة والهجرة، أنها كانت توزع حنانها بالتناوب مرة له ومرة للكلب والهرة، وكل نهاية أسبوع تدعوه لاغتنام أجواء السهرة…انتهت أيام الباكور سريعا قبلحلول مواسمها، وأدرك صاحبنا أن الجنة معها لم تُفْصِحْ بَعْدُ عن معالمها ، وبدأت أيامالعذاب والشقاوة تهب عليه بنسائمها…ظل أعواما على نفس الحال يعيش كالعبدالجبان، والعجوز تسومه العذاب وتذيقه صنوف المهانة والهوان، مقتنعا بأن منعقدها باليدين وجب عليه فكها بالأسنان…حكى لهم بالتفصيل ما مورس عليه من العذاب، وما تعرض له طيلة غربته من الهم والاكتآب، ثم أنشد يقول شعراً بكل حُرْقَة والتهاب:
كَلَّفْتُ صبري ما يريد الظالم وانتابني ما لا يـراه النائم
استحسنتني عِلْجةٌ ثم انتهت أيـامُ باكورٍ تـلاها الشاتم
استصغرتْ شَأْني بشَتْم وابِل ما كُنْتُ أنْوي أنَّهُ لي دائم
استمعوا إليه بما يكفي ويزيد بالكمال والتمام ، وبكوا متأثرين بماقال داعين له بالسلامة والسلام ، وطلبوا منه الاهتمام بنفسه ثم تعاقبوا علىالكلام…قال الأول: أما أنا فممن يَنْشَقُّ الحجر لحاله ، ومشكلتي مع زوجتي لا تخطر لأحد على باله ، بعد أن ضيَّعْتُ عليها مالي وما تركه أبيمن ماله…تسمعني شتما كل صباح ليس له في قاموس السب مثيل ، وإذا لعنتالشيطان وطبخت يوما فلا يصلني منه إلا القليل ، والباقي تفعل فيه ما فعلتفي الفيل قبلها الأبابيل…ثم أجهش بالبكاء واستمر يطلب منهم حلا ناجعا ،يُخْرجه مما هو فيه بعد أن كره أن يظل لها خاضعا ، وإما طلاق لن يكون عليهمهما تطلب الأمر متراجعا…قال له صاحبنا ويحك احمد الله على ما أعطاك منسعد ، فقد حباك بزوجة لا تضربك ولا تقيدك بقيد ، فعد إليها واخفض لها جناحيكولا تقابلها بحيلة أو كيد…وقال الثاني : وأنين البكاء يعبث بفصاحة لهجته، أنا من ذاق المر في كل العصور من عذاب زوجته ، ومن قطع الويل من رأسهومن قلبه دوام بهجته…تواصل شتمها لي كل يوم مضيفة ما لم تقله بالأمس ،وإذا نامت لفت اللحاف حولها وتكورت كالكيس ، وإن تململت في الفراش نطحتنيبرأسها نطحة التيس…ثم تأفف طالبا منهم أن يجدوا له حلا ذا فائدة ،يُخلِّصُهُ من ويلات المشاكل المتراكمة المتزايدة ، وإما طلاق بالعشرة ولوخالف فيه سير القاعدة…أجابه صاحبنا احمد الله فقد وهبك وافر الحظ ، عُدْإلى زوجتك واخْتَرْ لها ما رَقَّ من التعبير واللفظ ، وقَبِّلْ يديهاوارْعَهَا ما استطعْتَ بِمَوْفور الصون والحفظ…وقال الثالث ودموعه هطّالةمن العين تسيل على الخَدِّ ، مشاكلي تفاقمت مع زوجتي لا يحصرها حسابالعَدِّ ، حتى أصبحتُ محاصرا ببصْقها في وجهي بين الجزر والمدِّ…إذازارني قريبٌ أو أحد من الأهل ، لا سهلا ولا مهلا موعدة إياي بالويل ،وتُلْزمني الفراش في النهار وتُعَيِّرُني باللّيل…ثم مسح عينيه بكم يديهطالبا منهم أن يُفتوه حلا أو وسيلة ، تُنقِذُه من الحمق وتُنْقِذُها قبلأن تُصبح قتيلة، وإما طلاق معلق في المحاكم تكون فيه للمخزن يَدٌطويلة…ردَّ صاحبنا احمد الله يا هذا فقد نِلْتَ لُبَّ الحُسْن ، عُدْ إلىزوجتك وأصلح بينك وبينها ذات البين ، واشترِ لها فستانا ولو اضطرَرْت إلىالقرض والدين…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في شؤون الأسر والمدونات ، أنصاحبنا قارن زوجته بهن وبما تتميز به من المكونات ، فوجد أنهن يتمتعنبكثير من المزايا والمُحَسِّنات…وبينما هم على تلك الحال سُمِعَ طَرْقٌ عنيف على الباب، دخلت إثره زوجة الأول هائجة متخفية في جلباب، ثم سحبت زوجها من القاعة وسط وابل من السباب…بعدها دخلت الثانية تمشي بكامل الغنج والدلال، ثم استفسرت عن غياب زوجها متشددة في السؤال، فسحبته من الجمع متوعدة إياه بشر الوبال…ثم دخلت بعدها زوجة الثالث صارخة في تهديد وتحذير، فأمرت زوجها بمرافقتها في الحال ودون تأخير، ثم سحبته من أذنه دون احترام له أو تقدير…ودخلت رابعة بعد أن تأكدت أن صاحبنا لوحده، فبكت كثيرا وأخبرته بموت زوجته أثناء بُعده، فانطفأت فيه بعد الحسرة نار حقده…أخبرته أن كل ممتلكات الهالكة قد أصبحت من نصيبه، فغر فاه مندهشا مما سمع وزاد عرقه من صبيبه، فتحققت بذلك خطته التي رسمها يوم لقائهما عند قريبه…توجه على الفور إلى المنزل الذي أصبح في ملْكِهِ، ثم قام بتكسير كل ما لا يصلُح وشرع في دعْكِهِ، وفكر حتى في خنق الهرة وإهدار دم الكلب وسفْكِهِ…ركب سيارتها يريد جولة خارج المدينة، لينفس عن هموم ويتسلى برغبة ظلت في صدره دفينة، محاولا أن يتناسى كل ما قامت به من أفعال مشينة… ولما زاغت السيارة عن الطريق في أحد منعرجات « الكَربوز »*، استيقظ مذعوراً فوجد نفسه لا زال ينظر إلى العلجة العجوز، ثم مات لاعنا كل ما يأتي من شبهة الكنوز…وفي رواية أخرى أنه لما أدرك انتهاء عرس ابن خاله، حذف الحلم بالجنة في الخارج من باله، ثم مات ثلاثاً غير حانث ولا نادم على حاله…
يتبع مع فضول آخر .
· ا** لكَربوز : منعرج جبلي بين مدينة وجدة وأحفير بالجهة الشرقية
2 Comments
ما أكثر أمثال صاحبنا في هذا الزمان . الحصول على أوراق تسمح بالعيش في أوروبا بأي ثمن ولو على حساب الكرامة
ﺍﻟﺭﻏﺒﺔ ﻓﻰ ﺍﻟﺜﺭﺍﺀ ﺍﻟﺴﺭﻴﻊ هو ﺍﻟﺩﺍﻓﻊ ﺍﻷﺴﺎﺴﻰ وراء ظاهرة زواج اﻟشاب اﻟعربي بصفة عامة من ﺍﻟﻤﺴﻨﺎﺕ ﺍﻷﺠﻨﺒﻴﺎﺕ ، غير أن هذا اﻟشاب سرعان ما يجد نفسه مشتتا بين خيارين ، خيار تـﻐييره لنمط حياته على حساب عاداته ﻭﺘﻘﺎﻟﻴﺩه ودينه و خيار اﻟرجوع اﻟى « اﻟميزيرية » اﻟتي كان يعيشها في موطنه وهنا تضيع أحـﻟامه وتبعثر كرامته في اﻟارض ويموت ب « اﻟفقسة » ثٍـلاثا