الثورة الثقافية
إذا كان هناك شيء يتأبى على مفهوم الثورة ويستعصى عليها فهو مفهوم الثقافة. ويؤكد الواقع التاريخي أسطورة الثورة الثقافية التي نظر لها ومارسها ماو تسي توتغ حين أكد أن الفأس هو أيضا سلاح إلى جانب القلم في حالة حاجتنا إلى تسوية أطلال ثقافة الإقطاع والاستعمار التي هي مصدر جميع صنوف الضعف السياسي والاجتماعي وإلا سيكون من المستحيل بناء ثقافة جديدة.
فمع حقيقة الاستقلالية النسبية للثقافة عن التحولات الاقتصادية والسياسية والتحولات الفوقية وطابعها المعقد من المشروع أن نتساءل:هل وجدت هناك ثورة ثقافية في التاريخ ؟ وهل وجدت ثورة سياسية كاملة لا تواجه مقاومة ثقافية ؟ وهل يستحق مفهوم الثورة تبعا لذلك أن يكون من بين مصطلحات اللغة ؟ وأن لا يكون الثائر الحقيقى هو الثقافة على سلطة السياسة وليس السلطة السياسية على سلطة الثقافة كما سعى إلى ذلك ما تسي توتغ في ثورته الثقافية؟
الثورة بمفهومها السياسي المعروف إذن، أي تحقيق قطيعة نهائية مع وضع سياسي سابق ومع شبكة المصالح السابقة يكاد يكون شبه مستحيل تماما، والتاريخ السياسي لا يعترف بمفهوم القطيعة النهائية، بل يعترف فقط بمبدأ التراكم المحكوم بمبدأ التقدم تارة ومبدأ التقهقر والتراجع أحيانا أخرى. ومعنى ذلك أنه ليست هناك سوى » ثورة » نسبية، وأن كل » ثورة » تتبعها ثورة مضادة.
ولئن كانت الثورة المضادة تفسر في بعض جوانبها بانتفاضة أصحاب المصالح والامتيازات القديمة من أجل إرجاع الأوضاع إلى ما كانت عليه، فإن من أهم ما يفسر » الثورة » المضادة هو المقاومة الثقافية للتغيير، ولذلك أكدنا أنه إذا جاز أن نتحدث عن ثائر فهو الثقافة : الثائر الحقيقي على كل الانقلابات الفوقية والتغييرات السلطوية. وهذا يعني أن أي إصلاح سياسي لا يمكن أن يكتب له النجاح ما لم يتأسس ويصاحب بإصلاح ثقافي تحتي عميق ومتواصل. قد يحدث أن يقع تغيير سياسي في طبيعة الدولة وفي القيم السياسية التي تقوم عليها فوقيا، فتسعى مثلا إلى إقرار نظم وقوانين جديدة وأساليب جديدة قائمة على العدل والشورى والديمقراطية والتعاقد والتداول، وتسعى إلى العمل على إقامة مشروع مجتمعي قائم على إطلاق المبادرة وتحرير المرأة…. وغير ذلك من مقومات المشروع المجتمعي التحريري للإنسان، لكنها قد تصطدم بنوعين من المقاومة، الأول: مقاومة أصحاب النفوذ والمصالح الذين جاء المشروع السياسي الجديد لتجريدهم من امتيازاتهم ومصالحهم، وهو ما يطلق عليه في الأدبيات السياسية بمراكز مقاومة التغيير. الثاني: المقاومة الثقافية التي يكون منطلقها المجتمع ذاته والناشئة عن سبب رئيسي وهو كون القيم الثقافية لا تساير في الغالب وبنفس السرعة والوتيرة التغيرات والتحولات السياسية الفوقية، أو التحولات الفكرية التي تطرأ على مستوى القيادات الفكرية والزعامات السياسية. وهذا هو الذي يفسر المفارقات التي وجدناها في عدة تجارب تاريخية بين التغيرات التي يعرفها نظام المعرفة وبين نظام الثقافة من جهة، والانتكاسات التي تعرفها كثير من المجتمعات بين عصر الرسالة الإصلاحية وجيلها الأول والعصور التي تليها.لكن ذلك لا بعني استحالة التغيير الثقافي بقدر ما يعني أن لا نعول على فرضه بالسلطة السياسية أو القانونية الفوقية.
وللانتقال من التجريد النظري إلى تشخيص هذا التصور من خلال أمثلة ووقائع تاريخية نشير إلى الأمثلة التالية :
أولا ـ القرآن الكريم انتقد في أكثر من موقع قضية المقاومة الثقافية للتغيير من خلال التشنيع على المشركين تمسكهم بما كان عليه الآباء والأجداد، وكيف يعطل التحجر المذكور حركة العقل كما يتضح من خلال الآيات القرآنية التي تنتقد التقليد والتبعية ومنها مثلا: » وَإِذا قِيل لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ». » بلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَإ اِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ « .
ثانيا ـ السنة النبوية حذرت من ثورة القيم الثقافية السابقة التي جاء الإسلام من أجل تغييرها ودعا إلى اليقظة والحذر المتواصل من انتفاضة الثقافات والقيم السابقة على الإسلام والأمثلة في ذلك كثيرة نذكر منها فقط ما يلي:
ـ ففي الحديث عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم – والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لتركبن سنن من قبلكم.
ـ ولما اختصم مهاجري مع أنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وغضب لذلك غضبا شديدا),في إشارة إلى حقيقة إمكانية انتفاضة القيم الثقافية السابقة على المنظومة الثقافية الجديدة.
ثالثا ـ التجربة التاريخية الأولى تبين كيف آلت الكلمة الأخيرة لانتفاضة نظام الثقافة السابق على القيم التقدمية التي جاء بها الإسلام ونكتفي هنا بقضيتين: قضية المرأة حيث جاء الإسلام بقيم تقدمية كانت على مسافة كبيرة بما كان عليه الوضع الثقافي والاجتماعي كما وصف ذلك عمر رضي الله عنه حين قال: (كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله، رأينا لهن بذلك علينا حقاً). وهكذا ففي الوقت الذي جاء القرآن يسجل مثلا من فوق سبع سماوات مجادلة امرأة لرسول الله، ودعوته النساء للمشاركة وأن يقلن قولا معروفا، انتهى الأمر ببعض الفقهاء إلى جعل صوت المرأة عورة وأنه من الخير لها أن لا ترى الرجال وأن لا يراها الرجال، في حين أن أمرها بالحجاب هو في الحقيقة أمر لها بالمشاركة الفاعلة وإلا فما الغاية من الحجاب إن لم يكن إذنا بالخروج والتفاعل ؟
رابعا ـ وفي المجال السياسي، كان التحول من الرشد في تدبير السياسية القائم على الشورى والزهد في الدنيا نتيجة انتفاضة ثقافية وليس نتيجة انقلاب سياسي. فالتحول وقع في القاعدة قبل أن يقع في القمة، وثقافة الشوكة في الغلبة انطلقت من القاعدة قبل أن تصل القمة، وذلك يعني أن المجتمع لم يستطع مسايرة النموذج الراشد، وسرعان ما رجع إلى النموذج الكسروي والقيصري الذي أوجد الفقه الإسلامي له تسويغا فقهيا من خلال تسويغ التغلب أساسا للمشروعية السياسية، وباعتباره أهون من الفتنة وسفك الماء وضمان لاستقرار سياسي يمكن من مواصلة الرسالة الحضارية لإسلام رغم الثلمة التي حدثت في نظام الحكم، في حين ذهب ابن خلدون إلى إيجاد تفسير اجتماعي تاريخي من خلال أن شرعية الحكم لا تقوم فقط على الاختيار الشوري الحر بل تقوم أساسا على الاعتبار الثقافي أي حاجة كل سلطة إلى منعة اجتماعية، وأن الذي كان بإمكانه توفير تلك المنعة هو العصبية القرشية وإلى هذا المعنى وجه حديث: « الأئمة من قريش.
ويستفاد من ذلك أنه على المعنيين بتدبير التحولات المؤسساتية والقانونية والسياسية في مجتمع ما أن يعنوا كبير العناية بتدبير التحولات الثقافية ويعنون بمخاطر الانتفاضات الثقافية التي من شأنها إعاقة الإصلاحات مهما كانت تقدميا.
Aucun commentaire