المولد مناسبة للاحتفال بانتقال شرف رسالة السماء من الأمم الكتابية إلى الأمة الأمية
المولد مناسبة للاحتفال بانتقال شرف رسالة السماء من الأمم الكتابية إلى الأمة الأمية
محمد شركي
الله عز وجل ذو فضل عظيم يؤتيه من يشاء من عباده . ومن مشيئة الله جل جلاله أن ختم رسالاته إلى البشرية بآخر رسالة أنزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي رسالة مهيمنة على سابقاتها ، ومتميزة بكونها موجهة للناس كافة ، بينما كانت سابقاتها تخص أقواما بعينهم . وواضح أن شرف هذه الرسالة يفوق شرف سابقاتها بسبب عالميتها وهيمنتها بكمالها وتمامها . وبسبب هذه العالمية اختار الله عز وجل لهذه الرسالة الخاتمة والمهيمنة أفضل خلقه على الإطلاق ، كما اختار لها خير أمة أخرجت للناس . وقد يبدو الأمر غريبا بالنسبة لبعض الناس إذ كيف يختار الله عز وجل لآخر رسالة وأجلها وأكملها نبيا أميا من أمة أمية بعدما كانت الرسالات السماوية من قبل في أمم كتابية ؟ وهذا هو معنى أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. ومع ذلك هناك كلام لا بد منه حول انتقال شرف الرسالة من الأمم الكتابية إلى الأمة الأمية .فمن المعلوم أن الرسالات السماوية إلى البشر عبر التاريخ كان سبب نزولها هو فساد أحوال البشر ، وخروجهم عما شرع الله عز وجل لهم . ولقد كانت نتيجة نزول الرسالات السابقة لخاتمة الرسالات أحد أمرين : إما تصحيح انحراف الناس عن شرع الخالق سبحانه أو هلاكهم بسبب الإصرار على هذا الانحراف . ولما أوشكت فترة اختبار البشر في الحياة الدنيا على النهاية ختم الله عز وجل رسالاته إلى البشر بخاتمة الرسالات المهيمنة على سابقاتها ، ولم يبق من خيار أمام البشرية سوى تصحيح انحرافها عن شرع خالقها أو انتظار الساعة ، والساعة أدهى وأمر. وعند مراجعة التاريخ نجد أن الرسالة السماوية الخاتمة جاءت في ظرف خاص حيث انحرفت البشرية انحرافا خطيرا عن شرع الخالق ، وامتلأت الأرض جورا حيث كان منطق القوة أو قانون الغاب هو المهيمن بسبب وجود أمم طاغية كأمة الفرس والروم اللتين كانتا تستعبدان الأمم الأخرى . وكانت الشرائع المسيطرة هي شرائع الوثنية الفارسية أو البيزنطية وما ينبثق عنهما من انحرافات في الفطرة البشرية . ولم تستطع الأمم الكتابية التي كانت معها رسائل سماوية سابقة تصحيح انحراف العالم ، وأكثر من ذلك كانت الأمم الكتابية نفسها تساهم بشكل كبير في هذا الانحراف بسبب تحريف الرسالات السماوية التي أوكلها إليها الله عز وجل حيث حولت هذه الأمم الكتابية تلك الرسائل إلى قراطيس تبدي منها ما تشاء وتخفي ما تشاء حسب أهوائها . وكان هذا إيذان بخيانة الأمم الكتابية لأمانة تبيلغ رسالات الله عز وجل للناس ، وهذا ما جعل الله تعالى ينزع شرف تبيلغ الرسالة من الأمم الكتابية ، ويجعله في أمة أمية . وهكذا جاء مولد خاتم الرسل والأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في ظرف فساد كبير ساد العالم يومئذ . وشاءت إرادة الله عز وجل أن يكون أميا ، وأن يولد في أمة أمية كانت تحتقرها يومئذ الأمم الجبارة . ولم يكن حال الأمة الأمية أفضل من حال الأمم الجبارة ، بل كانت هي الأخرى في ضلال مبين إلا أن الله عز وجل تداركها بلطفه وهدايته على يد رسولها الذي بعث فيها من أجل أن يبلغ آخر رسالة إلى الناس كافة . ولقد نقلت لنا آخر رسالة حادثة انتقال شرف تبليغ خاتمة الرسالات إلى الأمة الأمية في قوله تعالى : (( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم )) . فالله عز وجل وصف الأمة التي بعث فيها آخر رسول بالأمة الأمية ، وصفة الأمية تطلق على من لا يقرأ ولا يكتب ، وذلك نسبة إلى الأم ،لأن الذي لا يقرأ ولا يكتب يظل كما ولدته أمه. ومن معجزات الله عز وجل أن أرسل إلى الأمة الأمية رسولا أميا منها لا يقرأ ولا يكتب ، فصار بمعجزة الله عز وجل يتلو على أمته الأمية آيات الله المتضمنة في رسالته إليهم وإلى الناس كافة ، كما صار يعلمهم الكتاب والحكمة ، وهو ما جاء في الرسالة الخاتمة ، وكان ذلك تزكية لهم بعد ضلال مبين . ولقد جاء ت إشارات لهذا الضلال في مواطن متعددة من آخر رسالة سماوية . وتختصر هذا الضلال شهادة تاريخية من عم الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب وهو شاهد عيان أدلى بها بين يدي ملك الحبشة النجاشي حيث قال له وهو في سفارة لديه : » أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ، ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام » . فهذه الشهادة التاريخية من شاهد عيان تعكس مدى الضلال الذي كانت عليه الأمة الأمية ، ومدى التزكية التي زكاها الله عز وجل بفضل بعثة آخر رسول منه إلى البشرية انطلاقا من الأمة الأمية التي تحولت من أميتها إلى أمة تعلمت الكتاب والحكمة وتزكت بهما . ولقد كانت الأمة الأمية هي المؤهلة لحمل وتبيلغ آخر رسالة لأن أميتها كانت تحول دون اختلاط بقايا الرسائل السماوية المحرفة مع آخر رسالة سماوية مكتملة ومهيمنة على سابقاتها . فلو أن الأمة الأمية كانت تتداول شيئا من الرسائل السماوية السابقة التي كانت عند الأمم الكتابية لقيل لها إنك قد اقتبست من غيرك ، وقد قيل ذلك بالفعل حتى مع ثبوت أمية الأمة التي نزلت فيها آخر رسالة ، ومع ثبوت أمية رسولها الأكرم صلى الله عليه وسلم . وهذا ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب من الفاروق عمر رضي الله عنه عندما وجده ينظر في صحف للتوراة، فسأله عنها فقال له إنها صحف موسى عليه السلام ، فغضب منه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا : » والله لو وجد أخي موسى حيا بيننا ما وسعه إلا اتباعي » الشيء الذي يعني هيمنة آخر رسالة سماوية على سابقاتها ، كما يعني أن رسول الإسلام لم ينظر قط في هذه الرسالات السابقة ، ولا مبرر لاتهامه بالاقتباس منها ، وأن ما وافق منها ما سبق يؤكد صدقها كما يؤكد هيمنتها ، وفي نفس الوقت يقيم الحجة على ما تم تحريفه وتزويره فيما سبقها .
وأخيرا نقول للذين يجادلون في موضوع الاحتفال بذكرى مولد رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بأن هذا الاحتفال هو في الحقيقة احتفال بانتقال شرف تبيلغ الرسالة الخاتمة من الأمم الكتابية إلى الأمة الأمية ، وهو شر ف عظيم يستحق الاحتفال . وهل يوجد شرف أعظم من وضع الخالق سبحانه وتعالى الثقة في الأمة الأمية بعدما خانت أمانة تبيلغ رسالاته الأمم الكتابية ؟ والسؤال المطروح اليوم على الأمة الأمية ، وقد لحق بها آخرون يقرؤون ويكتبون هل هي في مستوى هذا التشريف ، وفي مستوى حمل وتبيلغ الرسالة أم أنها ستكرر خيانة الأمم الكتابية لأمانة تبيلغ رسالات الله عز وجل ؟ فإذا كانت الأمم الكتابية قد مارست خيانة أمانة تبليغ رسالات الله عز وجل عن طريق جعلها قراطيس بعضها يكشف النقاب عنه ، والبعض الآخر يختفي ، فإن الأمة الأمية لا يمكنها أن تمارس هذا الإخفاء لحفظ الله عز وجل للرسالة الخاتمة حتى تصل كل البشر إلى قيام الساعة ،إلا أن مشكلة الأمة الأمية تكمن في تعطيل تعاليم الرسالة الخاتمة ، وليس في تحريفها نظرا لاستحالة التحريف إلا أن التعطيل ممكن ووارد ، وهو ما نلمسه عند الذين يستبدلون شرع الله عز وجل المتضمن في آخر رسالة منه سبحانه وتعالى إلى البشرية بشرائع أهوائهم . والصراع الدائر اليوم في العالم هو صراع حاد بين شرع الله عز وجل ، وشرائع الأهواء المنتقلة من فاسد عقائد الناس . ووضع العالم اليوم لا يختلف عن الوضع الذي شهد بعثة آخر رسول حيث استقوت دول جبارة بالماديات ، وفرضت هيمنتها على الشعوب الضعيفة ، وهي تفرض شرائع أهوائها بالقوة ، وبكل وسائل الضغط الممكنة . ودور الآخرين الذين لما يلحقوا بالأميين الأوائل هو حمل أمانة تبيلغ الرسالة الخاتمة إلى الناس كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين كانوا معهم ، وقد نجحوا في إيصال هذه الرسالة إلى أقصى ما استطاعوا من بقاع الأرض قبل أن يرحلوا عن هذه الدنيا . وعلى الآخرين الذين لما يلحقوا بهم أن يبذلوا قصارى جهودهم من أجل إبلاغ هذه الرسالة إلى أقصى نقط ممكنة في الأرض يستطيعون الوصول إليها ، أو يعيدوا إبلاغها من جديد في نقط طال عهدها بها وانحرفت عن شرع الله عز وجل . ومن معاني الاحتفال بذكرى مولد الرسول الأعظم صاحب آخر رسالة سماوية للبشرية النهوض بأمانة تبليغ هذه الرسالة عن طريق تزكية النفوس أولا من أجل إخراجها من الضلال المبين إلى أجواء الكتاب والحكمة ثم تبيلغ تلك التزكية إلى كل ذي ضلال مبين . وإذا كان لعصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلاله المبين كما جاء في شهادة عمه جعفر بن عبد المطلب شاهد العيان بين يدي النجاشي ملك الحبشة ، فعصرنا هذا له ضلاله المبين أيضا لا يمكن التخلص منه إلا بتفعيل الرسالة الخاتمة على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطريقة صحابته رضوان الله عليهم أجمعين .
Aucun commentaire