المقامات الدفية : الرجل الذي تعرفه الخيل والسنان والربح والجن والرهان
المقامات الدفية : الدف الثامن والعشرون – الرجل الذي تعرفه الخيل والسنان والربح والجن والرهان
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا محسوبا على ذوي الذكاء والنياهة ، كان من عادته أن يعاشر ويجالس أهل الثلاثي والرباعي والوجاهة ، وكان مدمنا على خيل الرهان متظاهرأ بوجه الصراحة والنزاهة… كان كلما حضر رهانا أو سباقا في حلبة أو مقهى أو تابع حدثاً ، إلا واستنكر ما يتردد على لسان الناس معتبراً ذلك فسوقا ورفثاً ، وأدرك أنه يقتُل وقته ذنوبا ويفني عمره في ذلك عبثاً ، قرَّرَ أن ينتدب لنفسه مكانا قصيا ليرتاح من كلام الناس الشائع ، ويبتعد عن القيل والقال منتظرا ما يأتي به كشْفُ الطَّالِع ، متمنيا في قرارة نفسه أن تسود الغفلة بين المشتري والبائع…استحم على عجل يرغب في التمتع بقسط من الانتعاش ، وأحس برغبة جامحة تُلقي به في ثنايا الفراش ، بعد أن قضى يومه جائلا متنقلا بين الوحدات والأوراش…واتُّفِقَ يوماً أنه خرج صحبة ذويه للفسحة والتمتع بدفء البحر ، حيث لا وجود لسباق الخيل ولا لما يخنق عروق الصدر ، معتبرا ذلك حياة جديدة تُخرجُه من قيد السجن وسكون القبر…
يروي بعض الفضوليين المتخصصين في التخييم والتنزه والسياحة ، أن صاحبنا هيأ كل ما يلزمه من أدوات ومعدات الصيد والسباحة ، ونصب خيمة فوق رمل الشاطئ خصصها للأكل والنوم والاستراحة…قضى يومه الأول باحثا عن مكان بعيد يصلُح للاستحمام بلا حرج ، وكلما استقر اختياره على موقع تسربت من فمه كلمة همج ، واستمر في بحثه مؤمنا بان الصبر لا بد يعقبه خيط من فَرج…استيقظ في الغد باكرا لِيَتَرَيَّضَ مشياً ويغتنم نسيم الصباح ، بعد أن سمع صوت المؤذن بنادي النائمين للصلاة والفلاح ، فحدد لنفسه مسافة يقطعها بين الغدو والرواح…لاحظ آثار أقدام على الرمل الندي يمحوها تمدد الموج، واستمر على إيقاع خطواته المهرولة وبنفس النهج ، شاهد بطونا متدلية وأحصنة متخلصة من اللجام والسرج….تذكر أيام الرهان وكيف كان يتمخض أثناء كل سباق ، فغض بصره حتى لا يقع في المحظور متلافيا كل حنين أو اشتياق ، وشرد إلى أن دهست قدمه قنينة فارغة مُحْكَمَةَ الإغلاق…سَلَّها من بين الرمال عسى أن يكون فيها ما يفتح له باب السَّعْد ، فكم سمع عن قصة الصياد وما فاز به من خيرات جراء الصيد ، فسمى الله وفتح القنينة بطرف أسنانه مستعينا بما ملك من الجهد …ولما فك رصاصها خرج منها دخان تحول إلى عفريت مارد ، حَوَّلَهُ إلى صنم عاجز عن الكلام بين مندهش وشارد ، ثم سمع صوتا مجلجلا دوَّى في أذن كل آمن ومَنْ بالشر كائد…يروي أحد فضوليي الخوارق والأساطير والنكت والنوادر ، أنه لما فتح القنينة خرج منها ما يشبه دخان السجائر ، ونط منها عفريت مشكلا سلسلة متصلة من الدوائر…ارتجف وارتعد مما رأى ثم ثبت برباطة الجأش وهناء البال ، وسمع العفريت يقول: » شبيك لبيك أطلب ما استعصى عليك من السؤال ، وكل شيء تتمناه سيكون بين يديك في الحين والحال »…استغرق في التفكير ورجع بذاكرته إلى الوراء ألف ليلة وليلة ، ثم بَدَتْ له في الأفق سبائك من حديد وأطنان من الآجور بالجملة ، وقرر أن يطلب المستحيل ويغتنم الفرصة التي جاءته في زمن الغفلة…استحضر شجاعته وطلب من العفريت أن يمكنه فقط من منزل وكسب الرهان ، تعجب العفريت من طلب صاحبنا واصطبغ وجهه بتشكيلة من الألوان ، فرد عليه بما ملك لسانه من قوة البلاغة والفصاحة والبيان..: »أما كسب الرهان فأمر من اختصاص أهل العقد هم يتفننون في تدبيره ، وأما المنزل فإن كنت أقدر وأستطيع العمل على ضمانه وتوفيره ، لكنت أنا الأولى والأحق – عوض سجن هذه القنينة – في تعميره »…يعلق بعض الفضوليين المتخصصين في مجال الأدب والخيال والفن ، أن صاحبنا كان دائما يتمنى ويرجو اللقاء بالعفاريت والجن ، ليفتحوا له باب الرهان رغم تقدمه في الشيب والسن…ولما أحس وأدرك يقينا أنه ضيع على نفسه فرصة العمر ، احتاط من أن يلقى مصير صياد شهرزاد الذي وقع في الغدر ، وتمسك بذيل العفريت شاعرا بحرارة وكأنه قابض على الجمر..
.تملص العفريت منه واندثر مخلفا وراءه قهقهات وضحكات شامتة ، جعلت صاحبنا يعتبرها معزيا نفسه كغيرها من المقالب فائتة ، وظلت قسمات وجهه للتعبير عن الخيبة وانكسار الأمل كابتة… تفحص القنينة وجحظ عينيه في لون رصاصها الفاقع ، ورمى به في جوف البحر حتى يتبين له الوهم من الواقع ، ثم ملأ القنينة بزبد الموج داعيا لنفسه بالشفاء النافع…قفل راجعا إلى الخيمة مصمما على المغادرة والرحيل ، نادما على عدم اغتنام فرصة ذلك الحدث الجليل ، وزبد الموج يجف في القنينة حتى كاد يفقد حجة الدليل…ولما فرغت تماما لطم بها صخرة عازما على تكسيرها ، حتى لا يسكنها أي جن قد يرغب في تعميرها ، تطايرت منها قطع دقيقة يصعب على المُقَدِّر تحديد تقديرها…خرجت من شظاياها فرس بصهوتين بارزتين لامعتين ، وهي تطلب منه إرجاع العفريت إليها متوسلة بعينين دامعتين ، ارتعش جسمه دهشة وهو ناكر لما كانت أذناه له سامعتين…ولما اقترب منها ليعرف إن كانت هي التي راهن عليها دائما ، استيقظ مفزوعا مذعوراً بعد أن ظل الليل والنهار نائماً ، ثم مات متحسراً وعلى تضييع فرصة العفريت نادما…وفي رواية أخرى أنه لما ألم به الذعر في منامه ، انتفض كالديك المذبوح والدم يتدفق من مقامه ، ومات ثلاثا غير مكترث بما يجري من خلفه أو من أمامه …. يتبع مع فضول آخر . محمد حامدي
1 Comment
أحسنت إنها مقامات اجتماعية تعري القضايا الاجتماعية التي يعاني منها مجتمعنا أتمنى أن تتناول كذلك القضايا السياسية