فلسفة الوقت الضائع !
» لا يمكن استباق المستقبل إلاّ في صيغة الخطر المطلق. » جاك دريدا.
كنت أتساءل دوماً هل يمكن أن نبني مجتمع الحضارة إذا فهمنا أن الوقت لا ينتظر أحداً وإذا قمنا بإعداد برامج يومية للقراءة والكتابة وتكوين أنفسنا كما نهتمّ بإعداد برامج الأكل والترفيه؟
أليسَت قراءة مقال واحد في اليوم أو بعض الصفحات من كتاب كفيلة بجعلنا نستفيد أكثر مما نستفيده من وجبة عشاء فوق الحاجة أو استهلاك الوقت في أفعال لا معنى لها؟
في الواقع، إن الوقت هو الذي يستهلكنا في حين أننا نتوهم أننا من يستهلكه. كلّ ثانية تمضي بدون جدوى هي وقت ضائع من أعمارنا المَحدودة، ولسوء الحظ لا وجود للوقت « بدل الضائع » في قانون لعبة الحياة، كلّ ما هناك هو « النّدم » في آخر المطاف، طالَ الطريق أو قَصُر.
لست بصدد ممارسة فعل النّقد فيما يخص هذا الواقع المرير الذي نعيشه، والذي يولّد في النّفس الرغبة في الموت ميتة الجاحظ، كلّ الأمر أن واجب الإنتماء لهذا العالم يفرض تحليل وقائعه والمساهمة –على الأقل بالكتابة- في إنتاج الأفكار البنّاءة.
قدّمت نظرية التنظيم العلمي للعمل (OST) التي يعتبر فريدريك تايلور أحد أهمّ مؤسسيها، ومباشرة بعد الثورة الصّناعية الثانية، عدّة أفكار وتطبيقات كانت تهدف إلى تحسين الإنتاج بأقل كلفة ممكنة.
ماذا لو حاولنا إعادة إحياء بعض مبادئ التّايلورية لكن هذه المرّة بعيداً عن العلوم الإقتصادية؟
رغم أن التايلورية كانت تعاني من خلل حادّ على مستوى المبادئ الأوّلية والتي تعتبر الإنسان مجرد آلة يجب استعمالها بكل الوسائل المتاحة قصد الوصول إلى « طريقة الإنتاج المُثلى » وبالتالي فهو آلة يجب إلغاؤها حين تصبح غير قادرة على الإنتاج، وهذا ما يدخل في إطار « العقلنة المُطلقة » للشغل، غير أن هناك مبادئ أخرى أكثر أهمّية وما يهمّني في هذا المَقام والمقال هو مبدأ إلغاء الأفعال اللاعقلانية واللامبررة أي أن كلّ فعل لا ينتج عنه منفعة هو فعل زائد يجب إلغاؤه وتعويضه بفعل أكثر إنتاجية.
لقد كان تايلور يحرص على حساب حركات العمّال ودراستها أثناء قيامهم بعملية الإنتاج داخل المعامل، كما أدّى به الأمر إلى تحليلها بطريقة علمية دقيقة ومطلقة، إذ أن كلّ حركة زائدة يقوم بها العامل بحيث لا تساهم في رفع الإنتاج هي حركة بدون أي معنى ما دام المنطق العلمي يقول بأن تعويضها بحركة أكثر فائدة سيؤدي إلى رفع الإنتاج أو على الأقل الحفاظ على مستواه المعهود دون أي تغيير.
ربما كانت فكرة إلغاء الأفعال والأقوال اللامبررة عملية تفرض نفسها بقوّة الواقع في حد ذاته، غير أن هذا يدعو إلى العودة والبحث بفاعلية في كتب تاريخ « التدبير والتّسيير » لفهم الميكانيزمات التي أدّت إلى تفاقم الوضع الذي نعيشه، حيث لم يعد احترام الوقت يعتبر قيمة أخلاقية لا تقلّ أهمية عن « الأمانة » و « الصّدق »..
يمكن القول إذن إن النظام التايلوري هو أقرب نظام للمثالية من حيث « اقتصاد الوقت » بحيث أن الوقت الضائع في المعمل يتمّ تقليصه إلى أقل مدّة زمنية ممكنة. غير أنه -في الواقع- يبدو تطبيقه في المعمل مبالغةً تنفي عن الإنسان إنسانيته، لأنه قبل كلّ شيء، كان مفروضاً على كل عامل أن يقلّص حجم الوقت الضائع في المعمل دون جدوى، أي أن شروط تطبيق المبدأ كانت تشكل نقطة بداية الخلل وليس المبدأ في حد ذاته !
إذن، ماذا لو قمنا بتطبيق هذا المبدأ على الحياة اليومية وبطريقة إرادية أي عن قناعة لا تحت الضغط؟
قد يكون بإمكان ورقة وقلم أن تفي بالغرض وقد يحتاج البعض لطاقة دفع أقوى لأجل الإنطلاق في عملية تقليص الحركات اللامجدية طيلة اليوم.
إنّ التساؤل عن أفعال اليوم ومختلف أنشطته ووضع قائمة ترتبها حسب الأهمية ستؤدي بنا إلى استنتاج مفزع -في الغالب- وهو : أكثر من نصف أفعال اليوم لا تنفع في أي شيء ولا تقدّم أية قيمة مضافة إلى الإنسان. ماذا يعني هذا؟
إنه إعلان حالة الطوارئ !
تحضُرُني مقولة لمؤسس شركة آبل الرّاحل مؤخرا « ستيف جوبز » يقول فيها : »وقتك في هذا العالم محدود جدّاً.. لا تضيعه في محاولة عيش حياة ليست حياتك. كن شجاعاً بما يكفي لتتبع قلبك وحدسَك لأنهما يعرفان بطريقة او بأخرى ما الذي تريده بالفعل.. أي شيء آخر يبقى ثانوياً. »
يبدو واضحاً من خلال المقولة أن الأهم في هذه الحياة كلّها هو إيجاد المفتاح : ما الذي تريده بالفعل من وجودك؟
هل تريد ان تكون مجرد رقم يضاف على عدد سكان البلد أم أنك تريد الخروج وقد ساهمت في بناء شيء مفيد للأجيال القادمة؟
إن الحاضر أسوء مما نتصور، ليس بما هو واقع آني فقط، ولكن بما هو حجر الأساس للمستقبل القريب.. فإذا كان الحاضر رديئاً ببنياته الإجتماعية والفكرية والسياسية والإقتصادية، ما الذي سنراه في المستقبل؟ وهل هناك حالة أسوء لتوقعها؟
هنا تعود مقولة دريدا الإفتتاحية، فإذا لم نقم بالتفكير الجدّي في المستقبل ووضع علامات استفهام تحت الواقع فإننا سنصطدم بحقيقة « النّدم » حين يكون الخطر قد وصل حدّاً لا يمكن معالجته، هذا تحت افتراض أنه لا يزال هناك أمل آخر، رغم أن كل نظرة واقعية للأمور تؤدي إلى استنتاج واحد: لا تغيير للجماعة ما لم يتغير الأفراد، وحتى يتغير الأفراد يجب أن يتحرك شيء في أعماقهم.. وهذا الشيء يحتاج دفعاً قوياً كي يتحرك.. ما يستزم عودة اضطرارية إلى المُجتمع. رغم أن الأمر يبدو أشبه –إلى حد ما- بالدوران داخل حلقة مفرغة، من الفرد إلى المجتمع إلى الفرد.. غير أنهما عنصران مترابطان لا يمكن الفصل بينهما ومحاولة تغيير عنصر في معزل عن الآخر هي محاولة فاشلة.
كيف يمكن أن تقنع إنساناً لا يعير الوقت اهتماماً بأن يتحرّك حالاُ ويبدأ في تكوين نفسه؟
هذا الإشكال عميق للغاية، ولطالما سبّب لي التفكير فيه الغثيان .. لا، ليسَ « غثيان » جان بول سارتر، إن « غثياني » أعمق بكثير من مجرد أزمة كَينونة وَ صرخة وجودية.
إن غَثياني يجعلني أزاحم « أنطوان روكنتان » بطل تلك الرّواية الوجودية على دور البطولة.
ولكن، لماذا تبدو الأزمة بهذه الحدّة؟
إنها في الواقع لا تبدو فقط.. بل هي فعلاُ كذلك.
ليس من السّهل أن تشعر بمقدار كبير من المسؤولية تجاه مجتمع لا يعرف طعم المسؤولية، وإنه من الصعب جدّاً أن تقضي ليالٍ من عمرك وأنت تفكر كيف ستجعلهم يهتمّون أكثر بالمعرفة واستغلال الوقت في البناء في الوقت الذي يكونون فيه نياما أو غارقين في الملاهي والمقاهي بعضهم يحلّ الكلمات المتقاطعة والبعض الآخر يستمتع بمراقبة العابرين في الشوارع.. ناهيك عن الذين يجدون اللّذة في اللهو داخل قاعات الدّرس والأستاذ منهمك في شرح الدّرس معتقداً بكلّ روح إنسانية أنه يساهم في صناعة المستقبل..
إن كانوا هؤلاء هم المُستقبل فمن الأفضل دفنه قبل أن يأتي.
ربما بدأت الصّعوبة تظهر على مستوى الوصف والسؤال، وصف الأزمة وسؤال الحلّ. لأنه مع كل سؤال آخر بخصوص ما يجب فعله لإنقاذ الوضع يرتفع الضغط والقلق بخصوص الحاضر والآتي.. السّؤال هنا إذن لا ينتج إجابة كاملة بقدر ما ينتج نظريات لا تفيدنا في الواقع، لأن الوسائل منعدمة الوجود.. الشّروط المبدئية لتطبيق إحدى نظريات الإصلاح المُجتمعي وبناء مجتمع المعرفة غير موجودة، إذ من المستحيل أن تقوم فئة قليلة بقيادة مجتمع بأكمله لتحقيق الهدف إذا كان المجتمع يفتقر إلى الإيمان بهذا الهدف من جهة، والقادة يفتقرون إلى وسائل القيادة من جهة أخرى.
كان يمكن ترك الواقع جانباً وسرد تفاصيل نظريات حديثة في علم الإجتماع والإقتصاد المعرفي وقوانين المجتمعات الحضارية وكيف وصلت إلى النجاح ‘اليابان نموذجاً’، كما كان من الممكن أن يتم استيراد مناهج لإصلاح التعليم ورأينا في النهاية كيف أنها لم تصلح أكثر مما خرّبت، لكن كل هذا لن يصل بنا لأي مكان، لأن ما نحتاجه هو شيء مختلف تماما عن المعرفة التي تلقّن في الكتب، ولأن الإصلاح لا يأتي من الخارج.. لهذه الأسباب وغيرها لا يمكن أن نواصل عملية السّخرية من أنفسنا.. ولعل آخر سؤال يمكن طرحه هو :
ألم يحن الوقت بعد.. ؟
يمكن ملء الفراغ بأي شيء.. ألم يحن وقت اليقظة؟ وقت التفكير الجاد؟ وقت وقف التنظير والمرور للتطبيق؟ وقت الإستماع للجميع؟ وقت الإستفادة من الطاقات الدّفينة؟..
الجواب الوحيد الذي أملكه الآن هو : لا تنتظر أن يجيبك أحد. انهض أنت، فكّر بجدّية بنفسك، توقف عن التنظير وطبّق، استمع للجميع، استفد من طاقاتك المخزنة والضائعة بنفسك !
إنه الحل الوحيد الممكن لهذه المعادلة الصّعبة.. أو لنقل « نظمة المعادلات » كي نكون أكثر علميّة وواقعية.
ثم إن ما يجب ان نفهمه في النهاية أن ما نعيشه هو واقع، وسط مجتمع مريض سيكون من الغباء التعايش معه ومع نمطية أفكاره وسلوكاته.. سيقولون عن الخارج عن هذه النمطية « مجنون » أو « متعالٍ » وسنقول لهم هؤلاء الذين غيّروا مسارات التاريخ كانوا مجانين جياعاً للمعرفة ومصابين بالحساسية تجاه التٌّقليد.
وإذا كان الحل هو التغيير الداخلي فإن هذا معناه عدم انتظار أن يكتشف الآخرون مواهبنا وقدراتنا ويدعونا لعرضها عليهم، لأنه مستحيل أن يحدث إلاّ في حالات نادرة لا يغيرّ شيئاً يذكر، وبالخصوص لأن اكتشافنا الشخصي لقدراتنا والعمل على تطويرها وحده كفيل بجعل الآخرين يعترفون بها.
Aucun commentaire