الهجرة النبوية : حدث ودلالات
بسم الله الرحمن الرحيم
الهجرة النبوية : حدث ودلالات
كمال الدين رحموني
سيرة رسول الله ليست تاريخا فحسب، أو احتفالا واحتفاء، سرعان ما يمضي ، وإنما سيرتهرسمت المعالم لواقع حي في حياة الناس .سيرةُ رسول الله كتاب السيرة المفتوح منذ أكثرمن 15 قرنا لن تُغلق صفحاته حتى يرث الله الأرض وما عليها. ومن أعظم محطات السيرة النبوية حدث الهجرة .
إن حدث الهجرة ليس احتفاء بوقائع مرت وانتهت، وإنما هو التزام متجدد بتجدّد زمن الأمة حاضرا ومستقبلا. حقيقة ُ الاحتفاء يكمن في تفهّم المعاني وتأمل الدلالات وتنزيل الأهداف. هذا المعاني التي قامت على أساسها دولة الإسلام ومكّن الله بها للأمة في الأرض لقرون من الزمن . إن الهجرة بدلالاتها الكبرى قيمة مستمرة في حياة المسلمين ، ومطلب إسلامي حين تدعو الضرورة إليه ، للتضحية من أجل الدين والمبدأ والفكرة والمعنى، لا يُعفي منه التعلّلُ بمبررات الدنيا الواهية ، ولذلك كان التهديد الرباني للمتذرعين بالحجج الواهية لتعطيل ما يسهم في التمكين للرسالة الخاتمة ، قال تعالى : » إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلافأولئك عسى الله أن يعفوعنهم وكان الله عفوا غفورا » النساء96-98.
الهجرة لم تكن من بلد إلى بلد أفضل ، أو طلب لحياة عيش أرغد، وإنما هي ترك للديار وبذل للأموال والأعمال من أجل مبدأ وفكرة .
الهجرة رحلة شاقة لم يمنع منها التعلق بالبلد الحرام أحب الله إلى قلب الحبيب ، ولذلك نظر النبي إلى مكة مخاطبا إياها بقوله: » إنك أحب البلاد إلى الله ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت » . الهجرة لم تكن هروبا من مواجهة واقع آسن ، ولا فرارا من مقاومة بيئة شركية موبوءة ، ولا نكوصا عن مقارعة مجتمع كفري عنيد، وإنما كانت الهجرة تمهّد لاستعدادا لمرحلة جريئة وأيام عظيمة ستحسم مصير الدعوة والدولة ، بل و تحسم مصير الإنسانية كلها.
إن أول كلمات خطّها رسول الله في مشروع الهجرة المباركة قبل أن يحين وقتها بزمن- حين جاءته قريش تساومه – هي كلمات معدودات اختصرت عظمة النبي عقيدة وفكرا وبيانا : » والله يا عم لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ».
فلو قبل محمد المال والجاه والمنصب لما كان في حاجة إلى أن يهاجر أصلا، لكنه كان يريد ما هو أعظم من الشمس والقمر ، ما هو أعظم من المال والجاه ، كان يريد عقيدة تنتشر وفكرة تسود ومجتمعا يتكوّن، وإسلاما يقوم على وجه الأرض .. فأي دلالات هاديات ، من درر الهجرة الغاليات ؟
1 – مقصد النية : إن ظاهرة الهجرة من البلد الأم في العصر الراهن شكلت عنوانا من عناوين مآسي الإنسان في البنية الاجتماعية المعاصرة ، فهل تستوي الهجرة بالدين وللدين ، والهجرة بالدنيا ولها ؟؟ » يقينا لا يستويان مثلا « ، ولذلك كان الهجرة النبوية فعلا محفوفا بمقصد النية الذي يقاس به العمل قبولا ورفضا فـــ » إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » كما أخبر رسول الله البخاري . وشتان بين هجرتين : هجرة إلى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها ، وهجرة لبناء أمة ، لا يستوي من ترك عزيز ما يملك ،ابتغاء مرضاة الله ومن عاش لحياته ودنياه .
2- التجرد : لقد حملت مقدمات الهجرة صورا عظيمة للتجرد للدين ولأهداف الإسلام الكبرى ، في صنيع أبي بكر بماله كله وترك بيته خاليا إلا من فتيات رباهن الإسلام ، ومنهن أسماء المجاهدة w ذات النطاقين ،يدخل عليها جدها وكان أعمى وكان كافرا ،فيقول : فَجَعَكُنَّ أبوكن أخذ المال كله، تقول أسماء: فأخذت أحجارا ووضعتها في كيس من جلد وأخذت بيد جدي الأعمى فوضع يده فظن أنه مال ،ثم تقول : » فوالله ما ترك لنا أبي شيئا ولكن أردت أن أسكت هذا الشيخ « – هذا نموذج للتجرد من أجل تحقيق الأهداف ، فهل نتجرد من الدنيا كما تجرد منها هؤلاء العظام ،وهل نبذل أعشار ما بذلوا .إن الانتماء للدين وحده لا يكفي ، فزعْمُ التدين بعاطفة خادعة تعطيل لأهداف الدين الكبرى.
3- الهجرة سبيل بعد استنفاذ أبواب العمل : بعد ثلاث سنوات من موت أبي طالب وخديجة t ، ضاقت الأرض بالدعوة ، فكانت الحاجة إلى مكان يُنصر فيه الحق ،وتُحضن فيه الدعوة ، كان من الممكن أن يكون مكان الهجرة مختلفا عن المدينة ،ولكن الله أراد أن تكون طيبة دار الهجرة ، فليس المكان هو المهم ،ولكن الأهم أن الهجرة لم تكن عملا سلبيا ،أو كسلا عن الدعوة في مكة ، أو هروبا من تكاليف الدعوة أو استسلاما لضعف النفس مما لاقت من عناء ،ولكن ما ترك المسلمون بلدهم إلا بعد أن أُغلقت تماما أبواب الدعوة . والعبرة ، أنه إذا بقيت أبواب العمل مفتوحة فالأولى أن يبقى المسلم مرابطا على ثغر من ثغور الإسلام حتى وإن قلت متطلبات العيش الرغيد حتى يستنفذ المسلم طاقاته كلها ويتخذ الأسباب جميعها في العمل للإسلام حتى إذا ضاق المكان ،وسُدّت منافذ الخير كان البحث عن مجالات أخرى وإبداع وسائل جديدة ،فلكل مرحلة وسائلها وظروفها ومنهج عملها ، ولذلك من الخطأ أن يُصرّ المسلم على الوسائل نفسها ، أو يتعصب لمنهج بعينه ،بل لا بد من تكييف مناهج العمل ووسائله على ضوء الأهداف : الدعوة ثابت والمناهج والوسائل متغيرات ،هذا درس رباني مهم ،ومنهج قرآني متكامل في تسديد العاملين ،والدليل أن الهجرة النبوية لم تكن خيارا نبويا محضا ،ولا قرارا محمديا خالصا ،وإنما كانت أمرا إلهيا حين استنفذ النبي كل أسباب الدعوة في مكة . فكان عليه أن يجد المكان ويتيح للدعوة مجالات أرحب وفضاءات أنسب فكانت الهجرة إلى المدينة .
4 – الهجرة مطلب إنساني : لقد سبقت الهجرة َالنبوية هجرة الصحابة y إلى الحبشة ، في حين كانت الهجرةُ -الحدثُ والمعنى- إلى المدينة المنورة وفرق كبير بين الهجرتين : الهجرة الأولى كانت هدفا صغيرا ، في ظرف عصيب تطلّب الهجرة بالدين إلى مكان آمن حفظاً للنفس وفرارا بالدين ، فكان المهاجرون إلى الحبشة بمثابة لاجئين – بمصطلح العصر- إلى ملك عادل لا يُظلم عنده أحد. أما هجرته إلى المدينة فكانت إقامة لدولة وتمكينا لأمة ، فكانت المدينة مركزا رئيسا لها وحرما آمنا لأهلها .والعبرة ، أن الهجرة إلى الحبشة هجرة بالإسلام إلى رجل قد يستطيع حماية المستضعفين وقد لا يدوم على ذلك لأن مآله الزوال ،لكن الهجرة إلى المدينة هجرة إلى شعب أحب الإسلام ،والمعنى أن من شروط نجاح المشروع الإسلامي أن يكون محتضَنا من لدن القواعد الشعبية التي تبذل أقصى ما تستطيع لإنجاح المشروع ، ولو كلف ذلك التضحية بالدنيا وزينتها ، والحياة وزخرفها ،بل والنفس ورغابتها ،وموقف الأنصار في احتضان النبي وأصحابه خير شاهد .
4-الهجرة تخطيط وإعداد: فلم تكن الهجرة النبوية أمرا ارتجاليا ولا عملا عشوائيا – بالرغم من العصمة الإلهية للنبي الكريم – بل كانت بإعداد محكم وصبر جميل وحكمة بالغة وفقه بصير ، فما كانت العشوائية أبدا من أساليب التغيير في الإسلام .
5 الهجرة نهاية لمرحلة التضييق والمعاناة: لقد ظلت المرحلة المكية فترة للمعاناة ، وغربة للدين ،واستمرت طيلة ثلاث عشرة سنة ،ومع شدة الوطأة والإمعان في الأذى ، لم تنشغل بالأهداف الجزئية بل ظل منشغلا ببناء العقيدة في نفوس حوارييه من الصحابة الكرام ، فتشربوا أسس الإيمان ، وتعلموا أسس الأخلاق ،فتهذبت نفوسهم وسمت أرواحهم وعرفوا في هذه المرحلة أن الطريق إلى الجنة محفوف بالصعاب والمشقة والصبر على البلاء ،ولو لا مرحلة مكة ما نجح المسلمون في ابتلاءات بدر والأحزاب وغيرها من المواقف .
6- الهجرة باب مفتوح للعمل المتواصل : ولذلك قال النبي : » لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استُنفِرتم فانفروا » البخاري ومسلم . فالجهاد بأشكاله المختلفة من جهاد للنفس وجهاد بالمال وجهاد بالكلمة الطيبة والدعوة بالتي هي أحسن والبذل والحركة المتوازنة والعمل الصالح ،وهذا ما لن يتوقف في الدنيا ،والسعيد من انشغل بعمله عن قوله وبنفسه عن غيره وبآخرته عن دنياه.
7- الهجرة وقفة مع الذات لتصحيح الطريق : من معاني الهجرة : القطيعة ونشدان الشيء .ومعنى ذلك أن الهجرة قطيعة مع مسلك منحرف ومنهج متذبذب وسلوك خاطئ وبداية لطريق جديد على أسس مسلمات العقيدة السليمة والفكر النيّر والخلق القويم ،وهو المعنى في حديث رسول الله : » المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه » الهجرة عودة إلى الذات ،وتقليب لصفحات الحياة، ومحاسبة للنفس على ما فات ،وعزم على التوبة من الزلات ، والاستقامة على الطاعات والصالحات .
فيلكن إطلال العام الهجري الجديد عاما لاستحضار معاني الهجرة المباركة وترجمة دلالاتها في مناحي الحياة .
والحمد لله رب العالمين
Aucun commentaire