من سخافة الرأي وقصور النظر وفجاجته الاستخفاف بالربيع العربي وبوعي الشعوب العربية
من سخافة الرأي وقصور النظر وفجاجته الاستخفاف بالربيع العربي وبوعي الشعوب العربية
محمد شركي
يصر البعض وبدافع خلفية حزبية ضيقة وقاصرة على الاستخفاف بالربيع العربي وبوعي الشعوب العربية لمجرد أن هذه الشعوب ولت ظهرها لأحزاب يسارية ظلت تبيع لها الأحلام السرابية لعقود من السنين . والذين يسخرون من الربيع العربي ، ومن وعي الشعوب العربية يتجاهلون الواقع ، ويحاولون تفسيره من خلال ثقب إبرة ألزموا أنفسهم بالنظر من خلالها . فالربيع العربي نتيجة لتفاعلات ما بعد النكسات المتتالية التي خلقت مناخا من الإحباط واليأس لدى الشعوب العربية . ومعلوم أن دوام الحال من المحال ، لهذا لا يمكن أن يظل قدر الشعوب العربية هو اجترار حالة الإحباط واليأس التي قتلها أدباؤهم وشعراؤهم وصفا وتفصيلا حتى لم تعد هذه الشعوب العربية تقرأ أو تسمع أو تشاهد سوى مشاهد الإحباط واليأس في كل الآفاق . ومن الطبيعي أن بلوغ حالة الإحباط واليأس ذروتها يفضي بالضرورة إلى التغيير والانتقال من حال إلى آخر. فالذين يستخفون بالربيع العربي لا زالوا أسرى حالة الإحباط واليأس ، وكأنها قدر محتوم لا مفر منه . ولا زال هؤلاء لم يستسيغوا كون الربيع العربي هو نتيجة منطقية وحتمية لحالة الإحباط واليأس التي تولدت بسبب النكسات المتتالية. وفي اعتقادي أن الذين يستخفون بالربيع العربي ما زالوا لم يفيقوا من صدمتهم بسببه لأنهم بحكم الانبطاح لحالة الإحباط واليأس لم يصدقوا وجود نهاية لها بشيء حل محلها اسمه الربيع العربي . ولقد سمعت يوما أحد المحسوبين على البحث الأكاديمي يستعرض في إحدى محاضراته خصائص وشروط ومميزات وظروف الثورات انطلاقا من المرجعية الغربية المحددة لمفهوم الثورات ، ويخلص في النهاية إلى أن الربيع العربي لا يندرج ضمن هذا المفهوم ، ثم يجزم بأن ما حدث في الوطن العربي لا يمكن أن يسمى ثورات بالمفهوم الذي انطلق منه بحكم توجهه » الأكاديمي » . وفي أحسن الحالات سمى الربيع العربي مجرد حراك عفوي. ولعمري ما عهدنا القدر يغلي بدون نار ، ولا ماء يتبخر بدون حرارة ، ولا دخان بلا نار. فكيف يعقل أن تستثنى الثورات العربية من التعريف الموضوع للثورات.
ألا يمكن اعتبار سقوط أنظمة بعد سيل وديان من الدماء ، وتضحيات جسام ثورات؟ علما بأن مجرد خروج الشعوب في تظاهرات يسمى ثورات برتقالية . كيف يمكن الاعتراف بثورات برتقالية وبيضاء ووردية ، ولا يمكن الاعتراف بثورات حمراء حمرة النعمان؟ وما أظن البخس الذي بخسته الثورات العربية ، وبخسه الربيع العربي سبقه بخس مثله في التاريخ خصوصا من طرف الذين طبعوا مع حالة الإحباط واليأس ورضوا بها قدرا وحتما لا راد له . ومن بخس البعض للربيع العربي اعتباره مجرد تطبيق أجندة أجنبية سموها العالم العربي الجديد قياسا على مقولة الشرق الأوسط الجديد ، مع العلم أن الجهة الأجنبية التي ينسب لها هذا الأمر فوجئت هي الأخرى بانتقال الشعوب العربية من حالة الإحباط واليأس إلى حالة معانقة الانعتاق والتحرر من الاستبداد المكرس لحالة الإحباط واليأس لعقود طويلة . فعبارة : » الشعب يريد إسقاط …. » وما كان يليها من مطالب تدل دلالة قاطعة على أن الشعوب العربية ملت من وضعية الإحباط واليأس وأرادت بديلا عنها. والسخيف في استخفاف البعض بالربيع العربي هو أنهم بحكم ثقافتهم البالية والمتجاوزة ، و التي أكل عليها الدهر وشرب كانوا دائما يعتقدون اعتقاد راسخا بأن الثورات لا يمكن أن تولد إلا وفق الطقوس التي سنها فلاسفتهم ومفكريهم . والثورات في اعتقاد أصحاب الفكر المادي الذي صار متجاوزا ، وأثبت تهافته بعدما طواه الزمان لا تحدث إلا عن طريق ما يسمونه صراع الطبقات ، هذا مبلغهم من العلم أو بتعبير آخر هذا دليل جهلهم المركب ،وهم أهل غرور لا يعرفون ما معنى إدانة النفس و اتهام العقل ، أو مراجعته بل يتعاملون مع مجرد نظريات بشرية تحتمل نفس نسبة الخطأ مقابل ما يعطونها من نسبة الصواب تعامل أهل الوحي مع الوحي المنزل ، بل بوثوقية أكبر . ولما جاء الربيع العربي بطابع إسلامي حيث راهنت الشعوب العربية المنتفضة بعد إسقاط أنظمتها المستبدة على الإسلام كعامل تغيير يفعل فعله في التاريخ البشري بشهادة هذا التاريخ نفسه عبر عصور طويلة لم يستسغ ذلك أصحاب الفكر المادي شأنهم شأن بني إسرائيل عندما بعث رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فلم يستسيغوا بعثته لأنهم كانوا ينتظرون أن يكون آخر نبي منهم لا من غيرهم ، فكذلك الماديون أو العلمانيون ، أو اليساريون و ، كانوا ينتظرون أن تراهن الشعوب العربية عليهم بعد انتفاضتها ، فلما راهنت على الإسلام لم يستسيغوا ذلك ، و كفروا بثوراتها وبخسوها بخسا لم يشهد التاريخ مثله .ولم يكلف الماديون والعلمانيون واليساريون أنفسهم دقيقة تدبر واحدة لمراجعة الذات ، وليكتشفوا بأنهم كانوا مجرد طابور خامس ساهم في إطالة أعمار الأنظمة العربية الفاسدة ، وأنهم كانوا يمارسون مسرحيات المعارضة الهزلية الفجة من خلال التواطؤ مع تلك الأنظمة والقبول بدور سخيف في تلك المسرحيات الهزلية .
ويعكس هذا الدور السخيف الأعمال الأدبية السردية والشعرية التي كانت بالنسبة لهؤلاء منتهى النضال، وغاية التعبير عن المعارضة الصورية، في حين لم تكن في الحقيقة سوى مجرد ديكور يبرر استبداد الأنظمة الشمولية المستبدة. وجاء الربيع العربي ليكشف تهافت مسرحيات المعارضة اليسارية والمادية والعلمانية الهزلية ، و أدبها الخرافي والوهمي . وسالت الدماء في الربيع العربي وديانا ، وأثبتت البطولات الواقعية عوض البطولات الخيالية والوهمية في أدب حالة الإحباط واليأس لدى اليسار الذي يعتبر الإطار المرجعي الإيديولوجي للماديين والعلمانيين واليساريين. وجعل الربيع العربي الأنظمة الفاسدة تتهاوي في الواقع المعيش بينما كانت تتهاوى على مستوى الخيال والوهم في أدب حالة الإحباط واليأس لدى اليسار. وأمام صدمة الواقع بدمائه وتضحياته ،وانهيار الأنظمة الفاسدة، واختيار الإسلام بديلا عنها صدم الماديون واليساريون والعلمانيون صدمة الله أعلم كم ستدوم قبل أن يقتنعوا بأن الواقع العربي قد تجاوزهم ، وتجاوز نظرتهم من ثقب الإبرة وما أضيقها من نظرة . وعندما يقرأ المرء عبارة أحد المصدومين المحسوبين على المادة واليسار والعلمانية من الدرجة المنحطة أمام الربيع العربي وهي عبارة : » انحصار ـ وهو يقصد انحسار ـ الأحزاب اليسارية في المجتمعات العربية بسبب اليأس الذي أصابها من انتشار الأمية والجهل » لا يسعه إلا القهقهة ملء شدقيه من ضيق أفق صاحب هذه العبارة الذي لا زال يظن أن أحزابه اليسارية هي حاملة مشاعل نور العلم والفكر والثقافة في المجتمعات العربية ، فهو يظن نفسه ومن على شاكلته المتعلم والقارىء، والكاتب الوحيد بينما غيره مجرد أميين وجهلة ، وهذا من مخلفات الغرور الذي تولد في نفوس المحسوبين على المادة واليسار والعلمانية لأنهم لم يفكروا يوما في مراجعة مرجعياتهم الإيديولوجية الهشة والفجة ، وتعاملوا معها تعامل الواثقين من صدقيتها ، وكأنها وحي يوحى. فالربيع العربي قائم والثورات مشتعلة في طول الوطن العربي وعرضه ،وهي أشد اشتعالا في وكر اليسار المنهار بالقطر السوري ، والمثقف اليساري الشقي بفكره لا زال يتحدث عن انحسار الأحزاب اليسارية بسبب يأسها من انتشار الأمية والجهل في المجتمعات العربية . فالأمية والجهل في اعتبار هذا اليساري هي رهان المجتمعات العربية على الإسلام ، ولا علم ولا تعلم ولا قراءة ولا كتابة في نظره الضيق إلا عندما تراهن هذه المجتمعات العربية على اليسار والمادة والعلمانية، أما العكس فيعني في نظره انحسار الأحزاب اليسارية التي قضت عقودا من عمرها تحلم أحلاما دونكيشوتية ، وتحارب الطواحين الهوائية ، وتسجل ملاحمها الوهمية في أدب يساري انغلق على نفسه في دائرة اجترار الإحباط واليأس المغلقة. ولا يستغرب من محسوب على اليسار مع تدني درجة انتمائه بطبيعة الحال انحسرت أحزابه أن يتهم الأحزاب الإسلامية بالخلافات والصراعات الداخلية مع وجود تغذية أياد خارجية لها ، ذلك أن حالة اليأس من انحسار أحزابه اليسارية جعلته يهذي هذيان الذهان أوالعصاب ، وكان الله في عونه وعون أمثاله وعزاؤهم واحد إن شاء الله تعالى في مصيبة الانحسار وربما كانت فلتة لسانه » الانحصار » أنسب لما هي عليه الأحزاب اليسارية التي فاتها قطار الشعوب العربية ، وتخلفت في محطات تاريخية خربة , ولا زالت تبكي فيهاعلى الأطلال وتقف عندها وتستوقف وتستبكي . فرحم الله زمنا كانت تمطر في موسكو ويحمل اليسار المخدوع مظلته في الدار البيضاء ،والجو مشمس ، لأن الأوراد التي كانت ترد من مشيخة موسكوالمادية على المريدين الماديين كانت تفرض ذلك . ولا زال بقايا هؤلاء ينتظرون أن تتحقق كرامات هذه المشيخة المادية الهالكة حتى مع واقع مقنع بأنها مجرد أساطير. وطوفان الثورات العربية أهوج وأمواجه كالجبال والشعوب العربية تنادي أحزاب اليسار: يا أحزاب اليسار اركبي معنا ، وأحزاب اليسار تجيب بصلف : سنتمسك بإيديولوجيتنا التي تعصمنا من الطوفان ، فتجيبها الشعوب العربية : لا عاصم اليوم من طوفان الإسلام ، فعلى اليساريين أن يشرعوا في محو أميتهم في الإسلام ،لأنهم سيحتاجون ذلك مرغمين أمام إرادة الشعوب العربية التي ليس من السهل الاستخفاف بوعيها ، بل من السخافة الفجة الاستخفاف بها .
1 Comment
ان الفضل كل الفضل يعود الى التكنولوجيا الحديثة وخاصة وسائل الاعلام والاتصال الرقمية من محطات تلفزية فضائية وانترنيت وهواتف نقالة وجي بي اس وعجائب أخرى وما خفي كان أعظم، التي زودت بها الدول الغربية المتحضرة الدول العربية المحتضرة، حيث صار الشباب العربي المتعطش الى التغيير والتحرر والديمقراطية يعي أكثر من أي وقت مضى درجة الاستبداد والاستعباد والفساد الذي كان يعيش فيه منذ أن خرج الاستعمار وترك بلدانهم تتخبط في الفقر والعبودية والتخلف بسبب ديكتاتورية الجنيرالات التي استولت على الحكم، فتنظم الشباب ووحد صفوفه وخرج الى الشارع وأسقط الانظمة الديكتاتورية المستحوذة المتسلطة. اذا، لولا فيس بوك و ويكيليكس لعاشت الشعوب العربية أبد الدهر بين عالم الاموات وعالم الاحياء. واذا كان الربيع العربي وثوراته المجيدة وليد فكر وفلسفة غربيين معاصرين، لسنا في حاجة لا لتحليل صاحب المقال ولا لتحليل ذلك المحسوب على المعهد الاكاديمي؛ كلاهما على خطأ. بينما الصواب هو ما تأتي به التكنولوجيا التي تصنع المجتمعات الحديثة.