الآثار النفسية والاجتماعية السلبية المترتبة عن انتشار ظاهرة استعمال الهواتف الخلوية
الآثار النفسية والاجتماعية السلبية المترتبة عن انتشار ظاهرة استعمال الهواتف الخلوية
محمد شركي
من المعلوم أن الكائن البشري لا يمكنه الاستغناء عن التواصل مع بني جلدته منذ وجد على ظهر هذا الكوكب نظرا لطبيعته الاجتماعية . ولقد مر الإنسان عبر تاريخه الطويل بمراحل تواصل متعددة الوسائل . فبعدما كان التواصل عبر المسافات البعيدة يعتمد وسائل بسيطة أو نادرة مثل استعمال الحمام الزاجل أو استغلال التيارات المائية الحاملة للرسائل المعبأة في حاويات أو قوارير أو استعمال النار فوق المرتفعات صار التواصل عبر البرق والهاتف. واستطاع التواصل عبر البرق والهاتف أن يذلل الصعوبات التي كان يطرحها بعد المسافات في التواصل . واستطاع الهاتف السلكي تغطية مناطق شاسعة من العالم ، وعن طريق الأقمار الصناعية قطع البحار والمحيطات . ومع ظهور أول جيل للهواتف الخلوية اللاسلكية ازداد اتساع رقعة المعمور التي يغطيها التواصل ، ولا تستثنى من ذلك إلا المناطق الواقعة خارج شبكة تغطية الأقمار الصناعية. ومع ظهور الهواتف الخلوية أقبل البشر فوق سطح هذا الكوكب على التواصل بشكل غير مسبوق في التاريخ البشري . وهذا يدل على أن البشر كان يعاني من الحرمان من التواصل عبر المسافات البعيدة ، وأن تكنولوجيا الهواتف الخلوية لبت حاجياته من هذا التواصل. ومع ازدياد إقبال الناس على استعمال الهواتف الخلوية صرنا أمام ظاهرة بشرية واسعة الانتشار. ولا يمكن أن تكون هذه الظاهرة غير المسبوقة دون نتائج غير مسبوقة أيضا .
وكان لا بد أن يتفرغ علماء النفس وعلماء الاجتماع وغيرهم من الأخصائيين لدراسة نتائج هذه الظاهرة . ولا شك أن نتائج هذه الظاهرة ستتراوح بين ما هو إيجابي وبين ما هو سلبي ككل الظواهر البشرية . وسأركز في مقالي هذا على النتائج السلبية ، لأن النتائج الإيجابية لا يخشى جانبها ، وأنها تتعلق بإشباع الإنسانية حاجتها من التواصل الذي يناسب خاصيتها الاجتماعية . والنتائج السلبية لظاهرة استعمال الهواتف الخلوية كثيرة ومتعددة حسب اختلاف البيئات البشرية والثقافات الإنسانية . وتركيزي سيكون على البيئات العربية الإسلامية. فمن الناحية النفسية صار الفرد العربي المسلم بغض الطرف عن جنسه وسنه متعلقا بالهاتف الخلوي حتى بلغ الأمر حد الإدمان بالنسبة لشرائح طويلة وعريضة من الناس . فلا يكاد الإنسان يقوم أو يقعد إلا وهو يتحسس مكان هاتفه الخلوي تماما كما لوأن هذا الهاتف صار عضوا من أعضاء جسده ، وهو يعاني من قلق تفقده كل يوم عشرات المرات ، وهذا وحده كاف لجعل الإنسان يعاني نفسيا تماما كما يعاني أصحاب الإدمان على ما يدمنون عليه . ومع تطور تكنولوجيا الهواتف الخلوية ازداد إدمان المدمنين عليها من خلال التنافس على اقتناء آخر جيل منها تماما كما يبحث دائما المدمنون في مجالات أخرى على أنواع جديدة ومتطورة من الإدمان بغرض الاشباع الذي لا حدود له . ومع استعمال الهواتف الخلوية بشكل كاسح في العالم لم يعد بإمكان أي إنسان أن يحافظ على ما كان يعتبره حماه غير القابل للاقتحام ، ذلك أن ظاهرة المكلمات العشوائية صارت يومية حيث يرن جرس الهاتف الخلوي بسبب أخطاء في الأرقام ، وهذا يسبب أحيانا قلقا بين الذين يتلقون مثل هذه المكالمات
. وقد يصل الأمر إلى حد الشتائم والسباب إذا لم يجد الاعتذار بينهم . وقد تسبب هذه المكالمات العشوائية مشاكل عويصة خصوصا بين الأزواج حيث تخلق نوعا من الريبة بينهم ، وقد تنسج السيناريوهات الوهمية والخيالية بسببها خصوصا حينما لا تسجل لوحة الهاتف الخلوي رقما معلوما ، ويدعي صاحبه أو صاحبته أنه قد أخطأ الهدف المقصود . فإخفاء الأرقام الشخصية ، وإدارة نوع من الحوار من قبيل هل هذا فلان أو هذه فلان ؟ أو يبادر صاحب المكالمة بقوله من معي على الهاتف؟ مع أنه هو الذي يجب أن يسأل عن هويته . فهذه الأمور قد تنفخ في نار الغيرة وتثير الشكوك بين الأزواج ،خصوصا إذا كانت أرصدة الثقة فيما بينهم جد متواضعة أو شبه منعدمة ، وهو ما يجعل هذه المكالمات العشوائية ذات آثار نفسية خطيرة على الحياة الزوجية ، وحتى على غير الحياة الزوجية ،لأن كثيرا من الآباء والأولياء يرتابون في أبنائهم بسبب تلقيهم هذه المكالمات العشوائية. وهذه الآثار النفسية الخطيرة تنتج عنها آثار اجتماعية أخطر حيث تتسبب في فقدان الثقة داخل الأسر ، وتدمر لحمة القرابة ، وتفكك الأسر التي هي نواة المجتمع . ومعلوم أن الذين يرتابون في المكالمات العشوائية عبر الهواتف الخلوية لا ينطلقون من فراغ، بل يسمعون حكايات الخيانة والانحراف الخلقي الناتج عن استعمال هذه الهواتف ، فيستقر في قناعاتهم أن نفس الحكايات قد تمسهم ، لهذا ينتابهم القلق الناتج عن الشكوك . وبالفعل كم حالة خيانة زوجية أو انحراف خلقي بين الأبناء والآباء استعملت فيه الهواتف الخلوية كوسائل إجرام أو انحراف ، تماما كما يحصل ذلك عن طريق التواصل عبر الشبكة العنكبوتية ، وهي ظاهرة أخرى لا تقل خطورة عن ظاهرة استعمال الهواتف الخلوية خصوصا وأن بعض هذه المواقع على الشبكة العنكبوتية تسوق لما يسمى الحوارات الحميمة فضلا عن ركن البحث عن شركاء الحياة ، وركن ربط علاقات الصداقة. وهذه المواقع تنشر أرقام للهواتف الخلوية الشيء الذي يعني أنها تتخذها مطية لتسويق العلاقات التي تعتبر بموجب الثقافة العربية الإسلامية ممنوعة . وفضلا عن وقوع الناس العاديين ضحايا آفات ظاهرة استعمال الهواتف الخلوية الاستعمال الذي يحيد عن أهدافه ، تستخدم هذه الهواتف في كل أنواع الجرائم بدءا بجرائم الفساد الخلقي وانتهاء بجرائم القتل والسرقة وغير ذلك . فالمجرمون والمجرمات يعتمدون اعتمادا كبيرا على هذه الهواتف التي تصير أدوات إجرامية. وإلى جانب ذلك صارت الهواتف الخلوية وسائل تجسس على الناس خصوصا بعد إقرار الدول العظمى ما سمته قانون محاربة الإرهاب ،حيث صارت المكالمات والرسائل عبر الهواتف الخلوية تحت الرصد والمراقبة الشيء الذي يولد في نفوس مستعمليها قلقا من نوع خاص ،لأنهم يشعرون بأن سريتهم تنتهك عندما تخترق مكالماتهم ، ويكشف عنها النقاب لدى الجهات المتجسسة ، وهو أمر ضجت الكثير من الأصوات في العالم لشجبه باعتباره اعتداء على حريات الأشخاص .
و نظرا للتطور الذي طال الهواتف الخلوية بحيث صارت آلات تصوير، فإنها تستغل من أجل النيل من أعراض الناس ، ومن أجل التجسس عليهم ، ونشر أحوالهم الشخصية الخاصة عبر مواقع الشبكة العنكبوتية مباشرة نقلا عن الهواتف الخلوية ، وهو ما يسبب قلقا من نوع خاص أيضا لضحايا عدسات الهواتف الخلوية المستخدمة في الجاسوسية التي صارت مشاعة بين الناس ، بعدما كانت من اختصاص الجواسيس . وكم من المتاعب خلقت عدسات الهواتف الخلوية لكثير من الناس حتى أن بعضها قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه في غياهب السجون أو يفضي إلى الفصل من الوظائف إلى غير ذلك مما يسبب قلقا لدى كثير من الناس الذين يتوجسون من الهواتف الخلوية . ومن الاستعمالات السلبية للهواتف الخلوية أيضا تسجيل اللقطات الخليعة وتداولها بين شرائح من مستعمليها خصوصا الشباب ، وهو ما يؤثر على سلوكهم ، وقد يكون ذلك سببا مباشرا في انحرافاتهم الأخلاقية. ولم تنج حتى أماكن العبادة من الآثار السلبية للهواتف الخلوية حيث لا تمر صلاة من الصلوات الخمس دون أن تقطع أجراس الهواتف الخلوية على المصلين خشوعهم ،خصوصا عندما تتجاوز هذه الأجراس الرنين إلى المقاطع الموسيقية بما فيها الصاخبة والممجوجة ، وحتى المخلة بالأخلاق ، وهو ما يولد قلقا من نوع خاص لدى المصلين الذين لا يخفون امتعاضهم من الهواتف الخلوية إلى درجة ظهور ملصقات تذكر وتحث رواد المساجد على إغلاق هذه الهواتف الخلوية بما فيها العبارات المؤثرة من قبيل : » اقطع صلتك بالمخلوق واتصل بخالقك » . وأخيرا يمكن اعتبار ظاهرة استعمال الهواتف الخلوية حدثا هاما في تاريخ البشرية لا يقل عن حدث اكتشاف النار ، واكتشاف البخار ، واكتشاف الكهرباء ، واكتشاف الذرة ، وهي اكتشافات نقلت البشرية من فترات تاريخية إلى أخرى ، وأثرت التأثير الكبير في مسار حياتهم نفسيا واجتماعيا . فالأسر العربية والإسلامية طرأت عليها تغييرات كبرى بسبب ظاهرة استعمال الهواتف الخلوية ، وهو أمر لا يمكن أن ينكر ، أو يستخف به ، حيث تغيرت منظومة الأخلاق والقيم لديها بسبب ذلك ، الشيء الذي أنتج نوعا خاصا من البشر خرج من طور ثقافي إلى آخر تحت ضغط ظاهرة استعمال الهواتف الخلوية التي فاجأت العالم. ولا ننسى الجانب الاقتصادي لانتشار هذه الظاهرة ، وهو جانب له علاقة بالجانبين النفسي والاجتماعي ، حيث صار الناس يحرمون أنفسهم من الضروريات من أجل الانفاق على الهواتف الخلوية خصوصا الفئات الفقيرة والمحتاجة الشيء الذي يزيد من متاعبهم في الحياة . فهل سيتنبه علماء النفس وعلماء الاجتماع إلى موضوع الآثار السلبية لظاهرة استعمال الهواتف الخلوية أم أنهم سيخضعون هم أنفسهم لضغط هذه الظاهرة ، ويتحول مسار علمهم ليوافقها باعتبارها أمرا واقعا وقدرا لا راد له . و هل سيتنبه الناس إلى الآثار السلبية نفسيا واجتماعيا لظاهرة استعمال الهواتف الخلوية أم أنهم سيستسلمون لها ، ويضحون بقيمهم وبعلاقاتهم الاجتماعية وعلى وجه الخصوص الأسرية ؟
Aucun commentaire