رحم الله أبا الطيب المتنبي علمنا كيف نرى في ذم الناقص شهادة كمال
رحم الله أبا الطيب المتنبي علمنا كيف نرى في ذم الناقص شهادة كمال
محمد شركي
ستظل لامية المتنبي في مدح القاضي أبي الفضل أحمد بن عبد الله بن الحسين الأنطاكي قصيدته الدرة الفريدة ، ودرره لا تضاهيها درر غيره في جاهلية أو بعد إسلام وصدق في قصيدة هذه إذ قال :
ما نال أهل الجاهلية كلهم ///شعري ولا سمعت بسحري بابل
والسر في عظمة هذه القصيدة ما جاء فيها من حكم ، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا . ومن حكمها بل واسطة عقد الحكمة فيها قوله الشهير :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص /// فهي الشهادة لي بأني كامل
هذا القول يكشف عن خبرة الشاعر بالنفس البشرية ، وهو الذي طوع الشعر تطويعا لسبر أغوار هذه النفس . فالنفس البشرية سواها الباري جل شأنه ، وكانت تسويتها عبارة عن فرصتين متساويتين ومتكافئتين بين كفتين إحداهما كفة تقوى ، والأخرى كفة فجور مصداقا لقوله تعالى : (( ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )) ، ومصداقا لقوله تعالى أيضا : (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين )) . فبموجب علم الله عز وجل وهو العلم الحق يتأرجح الإنسان وفق جبلته بين كفتي نقصان وكمال . وهو ما تناولته حكمة المتنبي . والإنسان عندما يستشعر النقصان أو عندما ترجح به كفة النقصان يستشرف الكمال ، ويروم ترجيح كفته ، فإن لم يستطع ذلك ركب نقصانه وتعصب له من أجل أن ينال من كمال غيره ، ومن ثم يكون استنتاج حكمة أبي الطيب مصيبا بحيث ينقلب السحر على الساحر كما يقال فيصير ذم الإنسان الناقص غيره الكامل بمثابة شهادة كمال يقدمها له رغم أنفه مع أن قصده كان متوجها صوب التشكيك في كمال هذا الغير. ولما كان أهل الحجى أو أولي النهى أو الأكياس العقلاء كما يقول المثل المغربي في راحة لرجحان عقولهم كما كان المتنبي ، فإن هذا الأخير لم يحفل بمذمة الناقص كما يفعل سفهاء الناس، بل استغلها لصالحه كما يجب أن يكون الاستغلال بحيث حول الذم الكاذب إلى مدح حقيقي مع وجود قرينة دامغة على ذلك تتمثل في نقصان صاحب المذمة . وعملا بالقاعدة القرآنية ، و القرآن أصح علم لعسره على الباطل من حقنا أن نرى الآيات في الآفاق ، وفي أنفسنا كما أراها لنا خالقنا جل وعلا . فالكافر ناقص يذم المؤمن الكامل وذمه شهادة كمال يثبتها نقصانه . وعلى هذا المثال يقاس كل ناقص ، كما يقاس كل كامل يكون مستهدفا من طرف ناقص . والأكياس العقلاء يستبشرون بشهادات الكمال التي تأتيهم من ذم أهل النقصان مجانية . فلو حاول الإنسان اقتناء شواهد الكمال عند الناس لتطلب منه ذلك بذل أموال طائلة ، ومن هذه الشواهد ما لا يقدر بثمن ، ولكنه يجدها سهلة يسيرة عندما ينطق الناقصون بذمه . وبقدر درجة نقصان الناقصين تكون درجة كمال الكاملين أو الكمل . وأبو الطيب شاعر حطم الرقم القياسي في الشعر الجيد ، وقضى الله عز وجل أن يظل بحوزته إلى قيام الساعة . ولما لم يجد حساده من الناقصين ما يصفونه به سلموا له شهادة كمال ظاهرها القدح وباطنها المدح حين وصفوه بالمتنبي . وليس من قبيل الصدف أن يقدح في كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناقصون حين وصفوه بالشاعر ، وما هو بشاعر وما ينبغي له ، وأن يقدح الناقصون في كمال الشاعر المتنبي حين وصفوه بالنبي ، و ما هو بنبي وما ينبغي له وما يستطيع . وانطلاقا من هذا يختار أحيانا الناقصون صفات قدحية للنيل من أهل الكمال ، فإذا بهذه الصفات تعرف انزياحا بلغة أهل النقد المعاصرين ، حيث تنزاح عن مراد الناقصين الذين يذمون الكمل . فصفة الشاعر التي قدح بها النبي صلى الله عليه وسلم تحولت إلى شهادة كمال رغم أنف القادحين ، وزادت المؤمنين إيمانا بنبوته غير المشوبة كما أراد لها الناقصون . وصفة النبي التي قدح بها الشاعر المتنبي رحمه الله تعالى وأحسبه شهيدا وقد قتل تحولت أيضا إلى شهادة كمال رغم أنف القادحين ، وزادت أهل الإنصاف إيمانا بشاعريته غير المشوبة كما أراد لها الناقصون . وأفضل نصح يقدم لأهل الكمال هو حكمة الشاعر أبي الطيب ويتعلق الأمر بالاستبشار بذم الناقصين لهم . ومن كثر من يذمه من الناقصين كان رصيده من شواهد الكمال أكثر . ولو علم أهل الكمال ما في ذمهم من طرف الناقصين من خير لتمنوا لو طلعت شمس كل يوم بذم جديد من الناقصين فيه شهادة كمال جديدة تضاف إلى سجل كمالهم .وآخر ما أختم به مقالي هذا ما قاله أبو الطيب لممدوحه وهو يقصد نفسه قبل أن يقصد الممدوح :
يا افخر فإن الناس فيك ثلاثة //// مستعظم أو حاسد أو جاهل
رحم الله الشاعر الحكيم ، ونفع به أهل الكمال من الأكياس العقلاء .
Aucun commentaire