كيف تصير الكلمات كلوما ؟
كيف تصير الكلمات كلوما ؟
محمد شركي
مما يتميز به الإنسان عن باقي المخلوقات الحية ممن خلق الله عز وجل ممارسته لفعل النطق ، وهو إحداث الصوت بالحرف الدال على المعنى. والنطق له مظهر خارجي وهو التلفظ باللسان ، ومظهر داخلي وهو الفهم والإدراك،الشيء الذي يعني أن الإنسان كائن فاهم ومدرك ، ومعبر عن فهمه وإدراكه بالنطق الذي وهبه الله تعالى الذي أنطق كل شيء يسبح بحمده ، ولا يفق تسبيحهم إلا هو جل جلاله . وما أكبرت الملائكة آدم عليه السلام إلا لهذه الخاصية ، بعدما كانت قد أنكرت من قبل فعله المتعلق بالإفساد في الأرض وسفك الدماء. فما أن تكلم آدم عليه السلام حتى سبحت الملائكة بحمد ربها متعجبة من عجيب صنعته . وما عجيب صنعته سوى نطق آدم عليه السلام بالأسماء كلها. والكلام عبارة عن نطق وحديث وقول. وتختلف عقائد البشر في دلالة الكلام .ففي عقيدة يهود الكلمات العشر هي الوصايا العشر، التي أوصى بها الله عز وجل نبيه الكريم موسى عليه السلام ، أو التي كلّمه بها . وفي عقيدة النصارى الكلمة هي الأقنوم الثاني من ثالوثهم الذي يقدسونه براءة الله تعالى ورسوله المسيح عليه السلام منه . وفي عقيدة الإسلام كلمة التقوى هي التوحيد : « لا إله إلا الله محمد رسول الله » صلى الله وسلم عليه . ويسمى الوحي كلام الله عز وجل لقوله تعالى : (( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب )) . واستثنى الله عز وجل من هذا الحكم نبيه الكريم موسى عليه السلام بقوله : (( وكلم الله موسى تكليما )) ، وهو ما يؤكده قوله سبحانه : (( إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي )) ، والاصطفاء يفيد الاختيار والتفضيل . ولقد سمى الله تعالى ما أوحى به لرسله الكرام صلواته وسلامه عليهم كلمة أو كلمات ، كقوله سبحانه : (( فتلقى آدم من ربه كلمات )) ، وقوله : (( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات )) ، وقوله : (( النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته )) ، وقوله : (( أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله )) . وكما فضل الله تعالى نبيه الكريم موسى عليه السلام بالتكليم ، فقد فضل نبيه الكريم عيسى عليه السلام بنعته بكلمته فقال سبحانه : (( إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته )) . وكان المسيح عليه السلام هو الإنسان الوحيد الذي أنطقه الله عز وجل في سن لا يستطيع أحد أن ينطق فيها ، لهذا تعجب قومه من أمه وهي تشير إليه عندما سئلت عنه كما جاء في قوله تعالى : (( قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا )) . ولهذا اعتبر كلمة الله عز وجل لقوله تعالى مخاطبا أمه مريم عليها السلام : (( إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم)) . وكلمة الله تعالى أو كلماته ، وهي الوحي ، قد تدل على الوصايا ، وهي الأوامر والنواهي ، وقد تدل على الوعد والوعيد لقوله تعالى : (( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين )) ، فهذا وعد ، وقوله تعالى : (( وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين )) ، وهذا وعيد . ولا يبدل الوعد والوعيد عند الله عز و جل لقوله تعالى : (( لا تبديل لكلمات الله )) . وكما نزل الكلام الطيب من السماء إلى الأرض ، فإنه أيضا يصعد من الأرض إلى السماء لقوله تعالى : (( إليه يصعد الكلم الطيب )) . وما كل كلام يصعد من الأرض طيبا ، بل في الأرض كلام خبيث أيضا وما أكثره ، ولا صعود له ،بل له الحضيض ، ومنه كلمة الكفر لقوله تعالى : (( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر )) . وكلمة الكفر هي الكلمة الخبيثة كما وصفها الله عز وجل : (( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار )) . وتقابلها الكلمة الطيبة التي تصعد إلى الله عز وجل ، والتي قال فيها الله تعالى : (( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها )) . والكلمة الخبيثة من الكبائر لقوله تعالى : (( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا )) ، ولا يوجد أكذب من كلمة الكفر. والناس في هذه الدنيا صنفان : صنف يفوه بالكلمة الطيبة التي ترفع ، وآخر يفوه بالكلمة الخبيثة التي تضع . وفي هذا السياق يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم » فرفعة الإنسان وضعته إنما تكون حسب المسافة الفاصلة بين كلامه وبين رضوان الله تعالى وسخطه. ويأتي بعد الكلمة الخبيثة ، وهي كلمة الكفر في الدرجة من السوء كل كلام مسبب لسخط الله تعالى . ومما يسخط الله تعالى كلام السوء المتداول بين الخلق ، لهذا قال سبحانه : (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم )) . وبموجب هذا النص يكون الأصل في القول بين الناس هو الجهر بالإحسان . فإن وقع الظلم في القول ، والظلم في القول عبارة عن وضعه في غير موضعه ، جاز رده إلى موضعه ، وقد يرد من خلال الرد على الإساءة بمثلها . وليس من قبيل الصدف أن يدل فعل » كلّم في العربية على القول والحديث ، والنطق ، وفي نفس الوقت يدل على الجرح ، وهو شق بعض البدن . والجرح قد يكون حقيقة إذا شق البدن ، وقد يكون مجازا إذا أصاب العرض، ولهذا يقال هذا كلام يكلم منه العرض . والجرح الحقيقي يكون بالجارحة ، وهي السكين ، كما أن الجرح المجازي يكون باللسان . وليس من قبيل الصدف أيضا أن تسمى أعضاء البدن التي تستخدم للجرح خصوصا اليد الباطشة جارحة. ومن الجوارح اللسان الذي يعدل أثره إذا أساء أثر اليد الباطشة . وقد تسد اليد مسد اللسان فتتكلم إشارة ، وهي ما يعرف بكلام الإشارة المقابل لكلام النطق . ويوم القيامة أثناء استنطاق الله عز و جل الخلق تعطل الألسنة ، وتتكلم الأيدي مصداقا لقوله تعالى : (( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم )) . ومن ذلك تسمية ذوات الصيد المفترسة جوارح، لأنها تبطش بالمخالب والأنياب التي تسد مسد الجوارح وهي السكاكين . ولا يكون التّجريح المعنوي أو المجازي إلا بجارحة اللسان . وقد يهون جرح السكين عن جرح جارحة لأن الأول يعالج ، ولا علاج للثاني . وقد لا يبالي الناس أن سبب الشرور المستشرية بينهم إنما هي الكلوم أو الكلام ـ بكسر الكاف ـ وهي الجروح التي يسببها الكلام ـ بفتح الكاف ـ . والعرب تقول : » جاء فلان بمراهم الكلام » أي بأطايبه والحسن منه .والمرهم ما يداوى به الجرح . ولا يداوي جرح اللسان إلا مرهم الكلام. ومن مراهم الكلام الاعتذار بعد كلوم بجارحة اللسان . ولهذا جعل الله تعالى الاستغفار وهو اعتذار دواء بعد داء ، وهو طيب الكلام إذ يجب أثر الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر، وما كان شبيها بها مما يصيب به البشر بعضهم بعضا . وإذا كان الناس يكلم بعضهم بعضا أي يجرح بعضهم بعضا بالكلام الجارح ، فقليل منهم الذي يأتي بمراهم الكلام . ومن مراهم الكلام الساحر منه ، وهو الكلام الذي يفتن ويسلب الألباب فترتاح له النفوس المكلومة . والناس إنما تقوم علاقاتهم على أساس طريقة تداول الكلام فيما بينهم ، فبالكلام يعشق بعضهم بعضا ، وبالكلام يعادي بعضهم بعضا ، وبالكلام ترق القلوب ، وبالكلام تقسو أيضا ، وبه ترق وتغلظ الأكباد . وبسببه تتخذ المواقف المختلفة بين الناس . ولما كانت وسائل الإعلام في زماننا هذا تقوم أساسا على تسويق الكلام ، فإنها تلعب دورا جوهريا في إذكاء الحروب بين الناس الساخن منها والبارد ، ورب بارد أدهى من ساخن عن طريق الكلام الذي يتسبب في كلوم الأعراض. ولهذا يجمع الناس في كل الثقافات على تخليق هذه الوسائل حرصا على تخليق الكلام ليظل مراهم تداوي ، ولا يتحول إلى جوارح تكلم . فعلى من يلج شيئا من وسائل الإعلام ، أو مواقع الكلام المرئية والمسموعة ،والمقروءة أن يكون كلماني ـ بتسكين اللام وفتحها ، أو بكسر الكاف وتضعيف اللام وكسرها أيضا ، أو بكسر الكاف واللام وتضعيف الميم ـ وتكلام أو تكلامة ـ بكسر التاءـ وهو جيد الكلام وكثيره مع الفصاحة. وقلما يجيد من يكثر ، لأن آفة الإكثار الإسفاف ، والهذر ، وهو خلط في الكلام ، أو التكلم بما لا ينبغي . لهذا توجد كلمة » هدرة » في عاميتنا المغربية ،ويقابلها الكلام ، ويقال أيضا في ثقافتنا : » فلان عنده كلمة أو مولى كلمة أي صاحب كلمة » أي صاحب عهد ووعد صادق إذا ما قال ، ولا يقال له : » عنده هدرة أو مولى هدرة أو صاحب هدرة » . ولقد علمنا الله تعالى الاعتذار عن الهذر بقوله تعالى : (( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )) والنسيان والأخطاء إنما هي الهذر ، وما كان في الكلام الذي لا طائل من ورائه أ وكان من الجارح . وأخطر ما في الكلام أن يكون سببا في إزهاق الأرواح . ولهذا تقول العامة عندنا « هذا كلام تطيح به الأرواح » أي تزهق إذا كان من الكلام الذي تكلم بها الأعراض ، وهو البهتان ، كالبهتان الذي بهتت به أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن والدها . وأختم كلمتي هذه في الكلمات التي تصير كلوما بالضراعة إلى المولى جلت قدرته أن يجعل لنا البراءة منها قبل أن يختم على جوارح الأفواه ، وتكلم الأيدي. ونرغب إليه سبحانه أن يدفع عنا ثمن مظالم من كلمهم ـ أي جرحهم ـ كلامنا ، ويشتريها لنا منهم مظالمهم، قبل أن نقايض فيها بدفع ما أحسنا ثمنا إليهم مقابل ما أسأنا ، أو نحمل عنهم ما أساءوا تعويضا لهم عما أساءنا به إليهم ، وذلك هو الإفلاس الذي نعوذ بالله تعالى منه يوم يخزي المفلسين . وآخر دعوانا سبحانك اللهم وبحمدك نشهد ألا إله إلا أنت سبحانك عملنا سوء وظلمنا أنفسنا فأغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . اللهم اغفر لنا من الذنب ما تنوء به الذمة ، ونجنا يوم القيامة من النقمة ، وأنطقنا فيما بقي من العمر بالحكمة ، واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة ، ولك الحمد على كل فضل ونعمة ، وصل اللهم وسلم بارك على المبعوث للعالمين رأفة و رحمة .
1 Comment
مبدع كالعادة ، دمت شمعة منيرة في الإعلام الوطني