من أقر الاستئصال في حق غيره كان أول من يجني عواقبه
من أقر الاستئصال في حق غيره كان أول من يجني عواقبه
محمد شركي
منذ أن وجد الإنسان على سطح هذا الكوكب ، وهو يعاني من ظاهرة استئصال غيره لفائدة ذاته . وهذه آفة سببها الخوف على هذه الذات ،وعلى الكيان، وعلى المصالح. وليس من الغريب أن تكون ممارسة الاستئصال قد بدأت مع نسل آدم عليه السلام الأول ، حين استأصل قابيل أخاه هابيل خوفا على ذاته وكيانه ومصلحته. ومنذ ذلك العهد صار الاستئصال عقيدة بشرية تلازم الإنسان، وتأخذ أشكال الحقب التاريخية التي تمر بها البشرية . فما أوغلت البشرية فيما تعده تطورا ماديا منفصما عن تطور القيم ، إلا وتفاقمت فيها آفة الاستئصال. ولقد كانت الحرب العالمية الثانية نموذجا لطغيان فكرة الاستئصال التي كان وراءها الصراع الكبير حول المادة التي دخلت مرحلة متقدمة من التصنيع المتسارع الوتيرة . ولقد كانت فكرة الاستئصال وراء فكرة أسلحة الدمار الشامل التي تسابقت دول الغرب من أجل الحصول عليها لممارسة الاستئصال في حق بعضها البعض. وفكرة الاستئصال الناشئة في الغرب المتطور ماديا وجدت التربة الخصبة في العقائد المنحرفة والضالة الموروثة ، كما هو الشأن بالنسبة للعقيدة الصهيونية التي نشطت عندما بلغت فكرة الاستئصال ذروتها خلال الحرب العالمية الثانية . والصهيونية استغلت فكرة الاستئصال التي كانت النازية تمارسها عليها لتمارس نفس الفكرة على العرب والمسلمين . ومن المؤشرات الدالة على تغلل عقيدة الاستئصال عند جنس بشري هو الشعور المفرط بالذات ، والتعصب لها إلى درجة التقديس والتنزيه ، كما هو حال الصهاينة الذين يعتقدون في أنفسهم علاقة البنوة لله عز وجل ـ تعالى الله عما يصفون ـ كما يعتقدون الاختيار والاصطفاء الإلهي لهم في ذواتهم مقارنة مع غيرهم من الأجناس والأعراق. والخوف على هذه الهوية المزيفة التي استفحل تقديسها هي السبب وراء سيطرة عقيدة الاستئصال على عقول الصهاينة. ونفس العقدة وجدت، ولا زالت عند الصليبيين الذين يعتقدون أيضا القداسة في هويتهم
. وبقدر تفاقم الشعور بقداسة الهوية بقدر ما تتفاقم عقيدة الاستئصال. ولقد جنت عقيدة تقديس الهوية على الصليبيين حتى أخرجتهم من دائرة عبادة المعبود الذي كانوا ينتسبون إليه بعلاقة البنوة إلى دائرة عبادة ذواتهم ، وهو ما أنتج العقيدة العلمانية عندهم . والعلمانية على غرار العقائد القديمة الصهيونية والصليبية إنما تقوم على أساس فكرة الاستئصال أيضا ولا تقبل التعايش مع غيرها . وفكرة الاستئصال مفادها كما جاء في بداية المقال أنها تكمن في فكرة الخوف على الذات من الذهاب أو الذوبان وعلى المصلحة . ولما كان الذين يحملون فكرة الاستئصال في أعماقهم لا يطيقون العيش مع من يخالفهم أو التعايش معه ، فإنهم ينتكسون ، ويجدون الحل السهل البسيط في ممارسة الاستئصال كآلية من آليات الدفاع الخاطئة . ومشكلتهم أنهم عندما يجيزون لأنفسهم نهج الاستئصال لا يحسبون حسابا لردود الأفعال على فعل الاستئصال . فالمستأصلون يغيب عن أذهانهم أن ممارسة الاستئصال عبارة عن إعلان حرب فيها طرفان خاسران بالضرورة . والمتأمل لواقع الحال في عالم اليوم يلاحظ جناية عقيدة الاستئصال على البشرية بشكل فظيع . فأحداث الحادي عشر شتنبر بغض الطرف عن مصداقية روايتها تعكس عقيدة الاستئصال على اعتبار أنها رد فعل استئصالي على فعل استئصالي سابق . فلما كانت الصهيونية والصليبية تمارس الاستئصال بشتى أنواعه على المسلمين فقد ظهر في المسلمين من يرد على الاستئصال بالمثل. وإذا ما صحت وجهة النظر التي تتعامل مع أحداث الحادي عشر من شتنبر على أنها أصلا طبخة استئصالية من أجل مواصلة الاستئصال الذي كان سائدا خلال القرن التاسع عشر والعشرين ، فإنها تؤكد سيادة عقيدة الاستئصال في عالم اليوم . وكل الحروب الناشئة على إثر أحداث الحادي عشر من شتنبر إنما هي ممارسة عقيدة الاستئصال بامتياز . ولقد غابت في عالم اليوم الفلسفات المحذرة من خطورة عقيدة الاستئصال ، كما كان شأن الفلسفات سابقا كلما طرأ على البشرية ما يهدد وجودها وكيانها . والعالم اليوم منساق وراء عقيدة الاستئصال بشكل رهيب أدهش بعض المهتمين بهذا الموضوع ،كما عبر عن ذلك الصحفي المصري محمد حسنين هيكل الذي صدم أمام استئصالية الرئيس الأمريكى براك أوباما الذي لا يجيد في نظر هيكل إلا القتل مع أنه قدم نفسه في بداية ولايته على أن وجهته تعايشية وغير استئصالية
. ولقد احتار المختصون في تشخيص أسباب ودوافع الربيع العربي مع العلم أن هذا الربيع هو نتيجة منطقية لممارسة الأنظمة العربية الفاسدة والمستبدة للاستئصال ،حيث مرت على الأمة العربية عقود من السنين لم تعرف سوى الاستئصال عقيدة تحكم العالم بدءا باستئصالية الكيان الصهيوني، والكيانات الصليبية المؤيدة له ، وانتهاء باستئصالية الأنظمة العربية الخاضعة للغرب. ولما كان المستأصلون لا يحسبون حسابا لضحاياهم فإن رموز الأنظمة العربية المستبدة خرجت عن أطوارها لما خرجت الشوارع العربية تطالب بوجودها المصادر لعقود من السنين . وإذا ما كان الاستئصال خلال العقود الطويلة في البلاد العربية يمارس بأشكال ممنهجة سرية وعلانية أحيانا عن طريق المعتقلات الرهيبة ، والتصفيات الوحشية ، والتدجين فإن الأنظمة العربية المستبدة التي كانت تمارس هذا الاستئصال فقدت السيطرة على أعصابها ، وخرجت من طور الاستئصال الممنهج إلى طور الانفلات الاستئصالي ، حيث أخرجت الجيوش من ثكناتها ، وكأن الأمر يتعلق بحروب استئصالية كبرى بين الأمم من أجل أن تستأصل شعوبها بقوة السلاح . ولقد كانت هذه الأنظمة في غنى عن تجريب الاستئصال بهذه الكيفية البشعة لو أن رموزها رحلوا مشكورين، وقنعوا بما كان منهم من استئصال ممنهج في السابق ، ولكنها أبت إلى تجريب آخر ورقة من أوراق الاستئصال كما هو شأن الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين . فالأنظمة العربية المستبدة التي اعتادت الاستئصال على قدر ما تجده من معارضة ، وكانت في الغالب معارضة محدودة بفعل قوة وبطش الاستئصال ، ذهلت أمام المعارضة الشعبية الهائلة ، فكان لا بد أن يكون الاستئصال أقوى وأعتى .
ومع كل انتفاضة عربية شعبية تجرب الأنظمة العربية الفاسدة الاستئصال قبل غيره. ألم يستشهد رأس النظام في ليبيا بنموذج الاستئصال في روسيا أمام مبنى البرلمان ؟ ألم يستشهد بنموذج الاستئصال الصهيوني في فلسطين ؟و لقد فعل لأنه كان يعتنق عقيدة الاستئصال ،ويؤمن بها ، وهي العقيدة السائدة في عالم اليوم . ولا زال النظامان في اليمن وسوريا يراهنان على عقيدة الاستئصال بقوة مع تأكد انقلاب الاستئصال على أصحابه كانقلاب السحر على السحرة . ولقد اختارت الأنظمة العربية المنهارة الاستئصال في حق شعوبها بقوة السلاح، فجنت الفرار( بن علي نموذجا وعبرة ) أو المحاكمة ( حسني مبارك نموذجا وعبرة )أو القتل مع التنكيل (القذافي نموذجا وعبرة) . ولا يوجد أبلد من نموذج علي عبد الله صالح الذي لفحته نار الاستئصال ، ولا زال يراهن على نفس اللعبة . أما نموذج بشار الأسد فقد غرته حماية الأنظمة الاستئصالية الكبرى التي لوحت بالفيتو ، كما غره أخطر نظام استئصالي يجاوره ، وهو النظام الصفوي الرافضي في إيران . ولن يستفيق من غروره إلا باستئصال يفوق استئصال قرينه في ليبيا بشاعة . أما باقي الأنظمة العربية،والتي لا تخلو من استئصال ممنهج ، فلها العبرة في ما بلغته غيرها من الأنظمة المراهنة على الاستئصال، والتي جنت عواقب ما زرعت . وإذا كانت عقيدة الاستئصال في غير صالح البشرية ، فإن عقيدة التعايش والتسامح هي البديل الذي يطرحه دين الإسلام الذي يأمر الناس كافة في الدخول في السلم . وإذا ما زعم أحد أن الإسلام يمارس أيضا الاستئصال، أقول له إن كل منتسب للإسلام ادعاءا يؤمن بالاستئصال إنما يقيم على نفسه الحجة بالبراءة من هذا الدين ، والخوض فيه خوض ابتداع وانحراف عن الجادة.
فالإسلام يحاور ويتعايش ولا يستأصل لأنه يؤمن بوجود فريقين في الحياة فريق الضلالة ، وفريق الهداية ، ويأمر الفريق الأول بأن يقول للفريق الثاني لكم دينكم ولي ديني ، ولا يقول لهم الاستئصال بيني وبينكم . وما خاض الإسلام الحروب لغاية الاستئصال أبدا،وإنما اضطر لخوضها لمنع الاستئصال . وشتان بين من يحارب بدافع الاستئصال ، وبين من يحارب بدافع دفع الاستئصال . وأخيرا على فلاسفة وحكماء المسلمين الاتصال بفلاسفة وحكماء غيرهم من الأمم لتنبيههم، وإقناعهم بفساد عقيدة الاستئصال من أجل إنقاذ العالم من هذه الآفة الخطيرة التي تهدد أمنه . ولا بد من إعادة هيكلة مجلس الأمن لتكون العضوية الدائمة فيه لغير القوى الاستئصالية ذات الفيتو ، بل للدول الراشدة المناهضة لعقيدة الاستئصال . وعلى إنسان هذا العصر أن يتعلم ممارسة الحياة بعيدا عن عقيدة أو خلفية الاستئصال في كل المجالات ، وفي كل الآفاق . وعلى كل من يحمل رأيا في جمجمته أن يقر برأي غيره ، ويحاول التعايش معه عوض محاولة استئصاله . والذي يضمن بقاء رأي الإنسان هو مقدار حرصه على بقاء رأي غيره إلى جانب رأيه ، وإلا أهلك الاستئصال الرأي والرأي الآخر إذا كان خلفية وعقيدة لهما معا .
Aucun commentaire