التلميذ(ة) في طريقه بين الأسرة والمدرسة ذهابا وإيابا: الواقع والانعكاسات
التلميذ(ة) في طريقه بين الأسرة والمدرسة ذهابا وإيابا
الواقع والانعكاسات
بقلم: نهاري امبارك* يوم 29 يناير 2011؛
مقدمة:
تعتبر الأسرة اللبنة الأولى لقيام جميع المجتمعات على وجه البسيطة. وكلما كانت الأسرة متماسكة، كلما كان المجتمع قويا ومتلاحما، وكلما كان مؤهلا لأداء رسالته. والأسرة مهد التنشئة الاجتماعية، حيث ينشأ الأطفال بين أحضانها، يكبرون ويترعرعون، وينهلون من التربية ما يؤهلهم لمواجهة متطلبات الحياة الاجتماعية والثقافية. كما تعمل الأسرة على توفير المناخ المناسب للأبناء داخل البيت، من رعاية أبوية وعناية واهتمام، وتسهر على تحلي الأبناء بالسلوك القويم والمعاملات الحسنة، كما تعدهم لمواجهة متطلبات الحياة، حتى يكونوا رجالا ونساء غد صالحين لأنفسهم ولمجتمعهم ويتحملوا الرسالة المستقبلية ويؤدوها أحسن أداء، حتى تسير الحياة المجتمعية والإنسانية سيرا صحيحا، يضمن الأمن والراحة والهدوء والاستمرار ويحافظ على حسن الأخلاق والمعاملات.
وتتحمل الأسرة مسئوليات في المجتمع، فهي التي تنجب الأطفال، وتمنحهم الدفء والحنان وتربيهم على القيم الرفيعة، وترعاهم وتعتني بهم منذ الولادة إلى بلوغ سن الرشد.
ومن مسئوليات الأسرة كذلك توفير الغذاء لأبنائها والمسكن والملبس وجميع الحاجيات المادية والمعنوية، والرعاية الصحية وتمكينهم من أسس المعرفة التي تفتح لهم أبواب التعلم والعلم، وتسهر على تلقينهم اللغة الأم وتعمل على تعليمهم القراءة والكتابة ومبادئ الدين والأخلاق والسلوك الحسن وذلك بإلحاقهم بالمدرسة. وتكمن مسئوليات الأسرة اتجاه أبنائها في جميع مناحي الحياة موزعة وبعناية تامة بين ما هو تربوي يهم التربية القويمة أخلاقيا وثقافيا، وما هو ديني يرتكز على الإرشاد إلى ما يزكي الفطرة الدينية وينمي الإيمان، ويقوي السلوك الحسن اتجاه التعاليم الدينية السمحة والتشبث بالعقيدة والإخلاص وحب الخير وطاعة الله والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه إلى حين بلوغهم السن القانوني.
والأسرة مهد التعامل والمعاملات الاجتماعية، حيث تعمل على ترسيخ الثقافة الاجتماعية، وذلك عن طريق تقوية الأواصر وعرى المحبة وصلة الرحم وإيتاء ذوي القربى وتبادل الزيارات باستمرار وفي كل المناسبات الاجتماعية والدينية والوطنية، والتآزر والتعاون في الصراء والضراء لما في ذلك من بر وإحسان لجميع أفراد المجتمع.
ومن المؤكد أن الروابط الأسرية والاجتماعية لها دور كبير في التنشئة الاجتماعية الصحيحة للطفل والمراهق بالذات و للشاب، كما أن لها دورا كبيرا في شعور الأبناء بالانتماء الاجتماعي والإحساس بقيمة الأسرة، الشيء الذي يؤدي إلى ابتعادهم عن أي تصرف يسيء للأسر وبالتالي للمجتمع.
والأسرة شريكة المدرسة والمؤسسة التعليمية في إعداد الأبناء ، إعداداً تربوياً واجتماعيا وأخلاقيا، حيث إن التربية والتعليم يعتبران مفتاح التغيير الحقيقي في المجتمع، إذ يسيران به نحو النمو والازدهار في المجالات كافة، كما يعملان على تغيير الأنماط والسلوكيات في العلاقات الاجتماعية والبناء المجتمعي.
وترتبط المدرسة بالأسرة ارتباطا عضويا، حيث إن الرابطة بين البيت والمؤسسة التعليمية عامة، يجب أن تكون قوية، كما يجب أن تكون أدوارهما متكاملة ومتوازية ومتوازنة، وكل تناقض أو تعارض أو ضعف الرابط تنتج عنه عواقب وخيمة على الأطفال، ما يؤدي إلى ضعف تحصيلهم الدراسي ونقص أدائهم. فالمدرسة والأسرة مسئولتان على التربية والتعليم والاعتناء بالتلاميذ ومراقبتهم وحمايتهم من كل مكروه، ماديا ومعنويا، يصيبهم، يمكن أن يؤثر سلبا في سلوكاتهم وقيمهم الاجتماعية والنفسية والثقافية. من هنا فالعلاقات يجب أن تبقى قائمة وباستمرار بين الأسرة والمدرسة لضمان بناء شخصية المتعلمين، رجال ونساء الغد، بناء متينا. فإذا تم التعاون، بالشكل المطلوب، فإن تكوين الأبناء يكتمل روحيا وجسميا ويتكونون عقليا ونفسيا، ما يعود على الأسر والمجتمع بالخير العميم.
من خلال ما أسلف، تتبين أهمية الرابط والتواصل بين المدرسة والأسرة الذي يكمن في تتبع خطوات الأطفال، من الصغر إلى حين البلوغ، خصوصا في سن المراهقة، هذه الفترة في حياة الطفل التي يمكن أن تعصف بتربيته وأخلاقه وكل ما تم بناؤه، إذا ما تعرض لما يفسد قيمه الأخلاقية والنفسية والعقدية وغيرها.
إنه لا أحد يجادل في تأثر التربية الأبوية بالبيئة الثقافية والاجتماعية الممتدة خارج البيت، وبالتربية التي تلقاها الأبوان وخبراتهما السابقة المتراكمة عبر السنوات حسب اهتماماتهما وتجاربهما في الحياة وقناعتهما بما هو سائد في الوسط القريب منهما ، في إطار تفاعل مجموعة من العوامل النفسية والعاطفية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمهنية.
ودون الخوض في عوامل أخرى تتصل بمستوى العيش، نفترض جدلا أن التكامل حاصل بين التربية الأسرية والتربية المدرسية، والتواصل والعلاقات قائمة بين المدرسة والأسرة، والتلميذ يقضي فترات زمنية ليست باليسيرة بعيدا عن المراقبة المدرسية والأسرية، خارج البيت من جهة، وخارج أسوار المدرسة من جهة أخرى، في بيئة وفضاءات وأمكنة مختلفة ومتعددة الطلبات والعروض، يقطع يوميا بين بيته ومؤسسته التعليمية، في رحلات مكوكية، مسافات طوالا، منفردا أو صحبة زملاء له، في الشوارع والأزقة، ووسائل النقل، في الأماكن العمومية، أمام المقاهي، والمحلات التجارية، أمام دور الملاهي وأماكن متعددة ومختلفة…..
فما أثر الشارع والدرب والطريق من وإلى المدرسة على التلميذ؟ وما أثر، بشكل عام، البيئة المحيطة بالأسرة والمدرسة على شخصية التلميذ؟ وكيف يمكن تربيته على مواجهة وقائع وأحداث يلاقيها يوميا، قد تعصف بما تبنيه الأسرة والمدرسة من قيم ومبادئ تربوية وأخلاقية وثقافية قويمة؟ وما هي مسئوليات السلطة والمجتمع المدني والمؤسسات الاجتماعية لحماية التلميذ والحفاظ على توازنه التربوي والنفسي والثقافي الأسري والمدرسي؟
لا يختلف اثنان في مناولة الآباء هذه الأسئلة وغيرها، في جميع الأماكن التي يرتادونها، في البيت، في المدرسة، خارج البيت والمدرسة…….من شدة اهتمامهم بتربية أبنائهم ومن وطأة البيئة وأجوائها التي أضحت تؤرقهم ليل نهار، خوفا من سقوط فلذات أكبادهم في شرك الانحرافات وكمائن السوء التي تتربص بهم، يوميا، في غدوهم ورواحهم بين الأسرة والمدرسة.
سنحاول تسليط الأضواء، قدر المستطاع، على هذه الإشكالية، انطلاقا من موقعنا كأب ومرب ومسئول تربوي، وانطلاقا من الواقع المعيش، ومواكبتنا للمسارات المدرسية والتربوية للتلاميذ، ومعاشرتنا الآباء والأمهات وأولياء التلاميذ في ترددهم على المدرسة، وهم يصرحون ويطرحون مشاكل عويصة تعترض أبناءهم جراء أحداث ووقائع يعانونها، وهم في طريقهم بين أسرهم ومؤسساتهم التعليمية.
I.
البيئة والأماكن والفضاءات المتواجدة بين الأسرة والمدرسة:
بمجرد تخطي التلميذ(ة) عتبة منزله أو باب مدرسته، يرتمي مباشرة، أحب أم أبى، في أحضان بيئة وأماكن وفضاءات متعددة ومختلفة، يجهل، غالبا، ما تخفيه وما قد تمنحه إياه: فمرة يجد نفسه وسط فضاءات مفتوحة وساحات شاسعة تعج بالبشر، منهم الراجلون المشاة والمهرولون، ومنهم الواقفون والجالسون، ومنهم الأسوياء والمنحرفون، ومنهم الراكبون عربات وسيارات وشاحنات أو غيرها، يصرخون، تتعالى أصواتهم، يتلفظون بكلام يحز في النفوس. ومرات يقطع مسافات، دون شعور منه و دون رغبته، في الشوارع والأزقة والدروب، على الرصيف، أو غالبا ما يزدحم أو يتسلل بين السيارات، تحت وطأة المنبهات الصاخبة والصراخ المصم للآذان. ومرات أخرى يضطر، كرها، إلى عبور فضاءات أسواق ومحلات تجارية متنوعة السلع والمعروضات المغرية، راكضا من هنا إلى هناك، محاولا التواري عن أنظار مرتادي دور الملاهي والمقاهي الذين يحملقون دون كلل ولا ملل، ولا يتوانون في التلفظ بأحط المفردات على مرآى ومسمع المارة، الذين يشمئزون وتقشعر نفوسهم دون أن ينبسوا ببنت شفة. ومرات، تقوده وطأة التعب والضغط النفسي إلى حدائق وملاعب رياضة جماعية أو فردية، ليندم وبسرعة هائلة على حلوله بها من شدة المتناقضات بين ما يعاينه ويشاهده، وبين ما تلقاه عن أسرته ومدرسته من تربية سوية وسلوك قويم. أما التلاميذ مرتادو وسائل النقل العمومي، فيضاف إلى همومهم التدافع والركض والتسارع والجري والملاسنة والمناقرة وسط الازدحام اللامتناهي.
II.
المشاهد والوقائع والأحداث شبه اليومية التي يعاينها الطفل/التلميذ ويعيشها:
في خضم وضعيات متعددة، وتنوع الأوساط والأماكن التي يضطر الطفل/التلميذ المرور منها بين أسرته ومدرسته، يجد نفسه مكرها لمقاومة أخطار مادية ومعنوية لحظية محدقة به أين ما حل وارتحل.
1.أخطار مادية محدقة بالطفل/التلميذ:
أشخاص يركضون، حمالون، يدفعون عرباتهم أو يجرونها، يمكن في أي لحظة أن تدوس الطفل/ التلميذ وتلحق به جروحا وندوبا، تترتب عنها عاهات مستدامة تؤثر في دراسته حاليا، وحياته مستقبليا.
والطفل/ التلميذ مار بالساحات والفضاءات والأسواق، يعاين في هذه الأمكنة شجارا ونزاعا، وتبادل العنف والضرب والجرح أحيانا، يمكن أن يتعرض، في كل حين، إلى ضربة طائشة، بعصا أو بأداة حادة تؤدي به جسديا أو حتى نفسيا إلى ما لا يحمد عقباه.
سيارات، شاحنات، حافلات، دراجات تهرع في كل الاتجاهات، سائقون متهورون يسوقون بجنونية، قلقون، متوترون، يعانون أمراضا نفسية تحت ضغط حركة السير التي لا تخضع، أحيانا، لأي نظام. أضواء معطلة، ممرات الراجلين غير موجودة، وإن وجدت فغير محترمة، يمكن أن يكون ضحيتها الطفل/ التلميذ، الذي يصاب بالدواخ تحت وطأة حركة دائبة، وهو يركض في الطريق يسابق الزمن حتى لا يتأخر عن موعد الدخول إلى البيت ليتجنب توبيخ أبويه له، أو حتى لا يتأخر عن موعد الدراسة، فيتفادى الإجراءات الإدارية، حيث القائمون عليها لا يعلمون واقعه.
أما الملاعب الرياضية، فتعج بمن لا صلة لهم بالرياضة وبالروح الرياضية، يشجعون بحماقة، يصرخون، يسبون، يتبادلون العنف، الذي يمكن أن يكون الطفل/ التلميذ أحد ضحاياه، فيندم حيث لا ينفع الندم.
أما بالبوادي، فالطفل/ التلميذ يتحمل يوميا مشاق المسالك الوعرة، التي يمكن أن يسقط في أحد منعرجاتها، وهو يقاوم الحر أو البرد، وينتبه في كل حين إلى تساقط الأحجار من أعالي الجبال، وأحيانا الأشجار تهوى؛ كما يمكن أن يكون عرضة للمياه الجارفة المباغتة القادمة من وديان على إثر عواصف مطرية أو ثلجية دون سابق إنذار، في غياب قناطر وطرق معبدة. وفي أغلب الأحيان، تفاجئ الأطفال/ التلاميذ قطط أو كلاب ضالة، يمكن أن تلحق بهم الأذى عضا وجرحا، تترتب عنهما تشوهات أو عاهات مستدامة.
وأخطار مادية كثيرة ومتنوعة…..تعود بما لا يحمد عقباه على الطفل/التلميذ وهو في طريقه ذهابا وإيابا بين أسرته ومدرسته، وعوده لم يشتد، ونضجه لم يكتمل.
2.أخطار معنوية تتربص بالطفل/التلميذ:
والطفل / التلميذ لم تتشكل شخصيته بعد ولم تنضج، وهو في ريعان طفولته، وهشاشة بنيته الجسمية والنفسية، بحيث لا يزال سريع التأثر، فكيف يزاوج بين تعليمات المدرسة والأسرة والممارسات اليومية المشينة بالشارع والدرب والزقاق والبيئة خارج المدرسة والأسرة؟
فالكلام الفاحش الذي تتصدى له الأسرة والمدرسة، لا يجد الطفل/التلميذ بديلا عنه في البيئة المحيطة بالأسرة والمدرسة، وسط وابل من السب والشتم وأحيانا الضرب والجرح. هذه الممارسات المشينة التي تؤثر، لا محالة، سلبا في نفوس التلاميذ سوف تؤدي بهم إلى تناقضات وتعارضات على مستوى التربية الأسرية والمدرسية، وتدفعهم إلى التشكك في الأدوار التربوية والاجتماعية والثقافية لكل من الأسرة والمدرسة.
فما شعور الطفل/التلميذ وهو يعاين فعل سرقة ونشل من طرف لص وهو يعتدى على شخص باللكم والضرب وسلبه ممتلكاته، وأحيانا، أمام أعين المارة ومرتادي الطريق؟
وهل يتحمل الطفل / التلميذ ممارسات لاأخلاقية ناتجة عن فرد متسكع عديم الأخلاق وهو يطارد فتاة أو امرأة ، يجذب أحيانا أطراف ثيابها، وأحيانا أخرى نتفا من شعرها، يحاول إغواءها ومراودتها تارة باللين وأخرى بالشدة والعنف، ينهال عليها قذفا وسبا وشتما وكلاما فاحشا، وأحيانا ضربا؟
ألا تتقزز نفوس الأطفال/التلاميذ وهم يلمسون أفعال كذب في الأسواق والمتاجر ومحلات البيع والشراء، كما يلمسون ممارسات غش وخداع ومراوغات تكتنف معاملات وتعامل أفراد كل يحاول تزوير الواقع بطريقة مكره الخاصة؟
وكيف تؤثر ممارسات شاذة على الأطفال / التلاميذ، ناجمة عن أفراد، همهم ارتياد دور الملاهي والمقاهي، فئات اجتماعية غير مؤهلة مهنيا، يقتلون وقتهم الوافر الذي لن ينقضي ولن يموت، يتبادلون كلاما في كلام، أغلب مقاطعه تنم عن فراغ قاتل، وثقافة مهزوزة، يحملقون في المارة بأعين شاردة، يرمون مفردات جارحة دون خجل ولا حياء، تصم الآذان وتشمئز لها النفوس، وهم يرتشفون رحيق سجائر مجهولة الحشوة، ويشربون أدخنة متناثرة حولهم، وأشياء أخرى يشربونها ويتناولونها في عدة أمكنة ومحال؟
وفي أغلب الأوقات، يجد الأطفال/التلاميذ أنفسهم أمام مشاهد مستفزة، فتيات ونساء مشبوهات، واقفات على قارعة الطريق، ينتظرن الذي يأتي أو لن يأتي، يحملقن في وجوه المارة استجداء أو إغواء، يجبن الشوارع والأزقة ذهابا وإيابا في حركات مثيرة، تشد اهتمام المارة، وتثير فضول الأطفال/التلاميذ وتثير فيهم روح التساؤل والمساءلة إلى درجة الشفقة والإشفاق والتأثر غالبا.
أما الأطفال/التلاميذ بالقرى والبوادي فمعاناتهم قاسية، أين ما حلوا وارتحلوا، يستحوذ عليهم الخوف من كل شيء، وينال منهم الاكتئاب مناله، يقطعون مسافات طوالا فرادى وجماعات، يتحسسون نباح الكلاب ومواء القطط وخرير المياه وتساقطات الحجر؛ ففي أي حالة نفسية يصلون الفصل الدراسي، أو يعودون إلى البيت الأسري؟
وحالات نفسية كثيرة ومتنوعة…..يعيشها التلاميذ وتؤثر فيهم وهم ذاهبون إلى المدرسة أو عائدون إلى أسرهم.
III.
آثار وانعكاسات البيئة والأماكن والفضاءات المتواجدة بين الأسرة والمدرسة على الطفل / التلميذ:
الطفل كائن مرهف الإحساس، هش التشكيل، وسهل التأثر بما يجري حوله وما يشاهده يوميا، داخل الأسرة وخارجها، أو داخل المدرسة وخارجها.
إن ما نرمي إليه حاليا، طرح كيف يتأثر التلميذ بما يعيشه يوميا، في الفضاءات والأماكن التي يمر منها يوميا وهو في طريقه من الأسرة إلى المدرسة ذهابا وإيابا؟
باعتبار الطفل/التلميذ هش البنية النفسية، فهو سريع التأثر بما يمارس حوله وعليه، من عنف نفسي، ولو عن غير قصد، جراء المشاهد المتكررة، المعروضة سابقا، من تبادل للعنف ونزاعات وملاسنات، والكلام البذيء المتهاوي على مسامعه، كرها.
إن هذا الوضع المتأزم تعاملا، والمعقد معاملات، يحرج الأطفال لا محالة، ويدفعهم إلى التفكير ومراجعة مختلف الوضعيات التي يعيشونها، داخل الأسرة وخارجها، وداخل المدرسة وخارجها، حيث يشعرون أنهم يتأرجحون بين خطابين متناقضين: خطاب الوسط الأسري/المدرسي، من جهة، وخطاب المحيط الأسري/المدرسي، من جهة أخرى، الشيء الذي قد يجعلهم يشككون في محتوى الممارسات التربوية الأسرية والمدرسية، والذي ينشأ عنه صدام التخاطب وصعوبة التواصل بين الأطفال/التلاميذ وآبائهم وأولياء أمورهم، من ناحية، وبين الأطفال/التلاميذ ومدرسيهم من ناحية أخرى. هذه الوضعية يتم تفسيرها غالبا بالعصيان، وعدم الانصياع لمبادئ التربية الأبوية والمدرسية.
ومع توالي هذه المشاهد يوميا، قد تؤثر سلبا في الأطفال وتؤدي بهم إلى اضطرابات ومشاكل نفسية، فينتابهم القلق جراء التناقض المعيش، وتتناسل تساؤلاتهم، وتتملكهم الحيرة والتردد بين أشكال مواجهة مختلف الوضعيات وكيفية التعامل معها حفاظا على علاقاتهم مع آبائهم ومدرسيهم الذين غالبا ما يتدخلون لتعديل السلوكات الطارئة.
وقد تخطئ هذه التدخلات مسارها، وقد لا تحقق الأهداف المنتظرة منها، فيتزايد شعور الطفل بعدم الطمأنينة والاستقرار النفسي، ومن ثم، ينحو منحى الانحلال الخلقي والانحراف ما يؤدي إلى تنامي سلوكات العنف والعدوانية، اعتقادا منه أنه يسلك المسلك القويم.
قد تتعقد هذه المواقف وتتعارض وتزداد وضعية الطفل تعقدا، فتتملكه رغبة جامحة لإثبات الذات عبر ممارسات متنوعة: إقدامه على التدخين وتناول المخدرات وارتياد الأماكن الموبوءة والمتعفنة أخلاقا، ما يترتب عنه معاشرات مشبوهة وأفعال محظورة، من سرقة ومتاجرة محرمة وغير ذلك من أفعال تعرضه إلى عقوبات متباينة.
وقد ينتج عن هذه الوضعيات المتأزمة بقاء الطفل/التلميذ وقتا طويلا في الشوارع والأزقة رافضا الدخول إلى الفصل الدراسي ومتمردا على أسرته والمدرسة، ما يؤدي إلى مغادرته الأسلاك الدراسية والانقطاع عن الدراسة.
IV
.مسئوليات وواجبات مختلف الجهات والمؤسسات ذات الصلة بتربية الطفل وحمايته:
لقد كان الشارع، إلى وقت قريب، مدرسة مربية للأطفال، حيث إن بعض الأشخاص، أو شخصا واحدا، في درب أو حي، يتولى تربية جل الأطفال إن لم نقل كلهم، ساهرا على تنشئتهم الاجتماعية، وباسطا قواعد ثقافة مجتمعية، ينهى عن المنكر، ويأمر بالمعروف، ويدعو إلى التحلي بالأخلاق الحميدة، وينصح بالابتعاد عن كل ما يسيء إلى المجتمع، وفق الثقافة التربوية والاجتماعية السائدة.
واليوم، لم يعد الشارع مدرسة تعنى بتربية الأطفال، جراء وطأة الوضعية المأزومة لمرتاديه، الذين ينال منهم القلق والكآبة من شدة هاجس الهموم المعيشية والجري وراء الانشغالات اليومية، إن لم تكن اللحظية، لمواجهة الحاجيات الأساسية وأعباء الحياة الضاغطة.
في ظل التطورات الحاصلة في المجتمع، وعلى مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أضحت حماية الأطفال، المؤكد عليها والموصى بها، من خلال بنود مختلف العهود والمواثيق الدولية والوطنية، من مسؤولية المجتمع ككل، من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات النظامية والجمعيات الخيرية، وكل الأفراد والجماعات ذات الصلة بتربية الأطفال وحمايتهم من كل أذى أو مكروه قد يعصف بجهود الأوساط الأسرية والمنظومة التربوية والتكوينية.
من أجل هذا، ومن أجل حماية الأطفال وتربيتهم تربية قويمة، وإعدادهم ليكونوا مواطنين صالحين، فإن تظافر جهود مختلف الجهات والمؤسسات وفق اختصاصاتها ومسؤولياتها، أضحى أمرا محتوما، ليتم الالتجاء إلى تنبيه أو منع الأفراد، أينما كان موقعهم، في الشارع في السوق في المقاهي وفي كل مكان ، من التلفظ بالكلام البذيء والصراخ في وجه الأطفال أو استفزازهم بممارسات مشينة وأفعال مذمومة تمس تركيبتهم النفسية وتؤثر سلبا في التربية الأسرية والمدرسية.
كما أن العمل على تجنب التدخين أمام أعين الأطفال وبيعهم السيجارة بالتقسيط، وتمكينهم من الحصول على مواد تضر بصحتهم الجسمية والنفسية، يعد من الضرورات الاحترازية، لوقاية الأطفال من كل مكروه أو أذى قد يجرهم إلى الانحراف والانحلال الخلقي المؤديين إلى سلوكات عدوانية وخيمة النتائج.
وبخصوص فتح مقاهي أو دور الملاهي، فإنه يتعين اعتبار معيار تحديد مسافة، تكمن في بعد معين عن المؤسسات التربوية، ومنع الأطفال من ارتيادها خصوصا تلك التي يتردد عليها أشخاص لا يتحلون بتربية قويمة، منحرفون وعنيفون خطابا وممارسة.
أما الأشخاص المتسولون والمشردون والأطفال المتخلى عنهم، فإن إجراءات اجتماعية تمنحهم حياة محترمة، وتوفر لهم عيشا كريما، بات من أولويات المؤسسات المسئولة، وذلك بتوفير لهم المأوى والمأكل والملبس، وتمكينهم من التمدرس وتعلم حرفة أو مهنة تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية والاجتماعية، حتى يتمكنوا من أن يوفروا لأنفسهم متطلبات الحياة الأساسية والحاجيات اليومية. وبذلك تكون هذه المؤسسات الاجتماعية قد ربحت رهانين، إنقاذ أشخاص جانحين وحماية أطفال أبرياء.
وفي إطار المتاعب المعيشية بالأسواق وغيرها، القائمة في خضم صخب مفرط وضوضاء وصراخ وتلفظ بكلام ناب وفوضى في كل أنحاء الأزقة والشوارع، أمام أعين الأطفال وتحت أسماعهم، تحز في نفوسهم، فإن إحداث مجمعات تجارية، في شكل أسواق منظمة وموزعة حسب أنواع السلع والمعروضات كالخضر والفواكه والتوابل وغيرها، يعتبر عملا يحمي الأطفال من التقزز والاشمئزاز لتلك الممارسات المستفزة لشخصيتهم ونفسيتهم، كما تعفي الآباء والمربين من المواجهات اليومية مع أبنائهم لتصحيح وضعيات سلوكية مؤثرة.
وفي مشاهد مشبوهة، يحتل محيط المؤسسات التعليمية أشخاص كثر، على أختلاف أعمارهم، غرباء عن المدرسة، يقضون أوقاتا طويلة في تبادل الحديث والصراخ أحيانا، وفي لا شيء أحيانا أخرى، يحدثون فوضى وصخبا، يزعجون التلاميذ، ويقذفونهم بكلمات بذيئة ومستفزة، تمس حقوق الأطفال أمام مؤسساتهم التربوية. لهذا، بات من الضروري حماية محيط المدرسة، وذلك بتفعيل أدوار السلطات المختصة، لمنع كل من ليس له صلة بالمؤسسة التربوية من المكوث أمام المدرسة يعيث فسادا ويخل بالحياء العمومي، على مرأى ومسمع من التلاميذ وأولياء أمورهم. إن هذه المشاهد المتكررة أمام المؤسسات التعليمية، تشكل هاسجا لدى أمهات وآباء وأولياء التلاميذ، وعبئا إضافيا يضاف إلى أعبائهم اليومية، فيرافقون أبناءهم إلى المدرسة، من شدة الخوف عليهم، ويمكثون عند مدخل المؤسسة التعليمية، إلى آخر حصة دراسية، ليرافقوهم رجوعا إلى البيت الأسري.
ولسد الفراغ الحاصل في الحياة المدرسية والتربوية للتلاميذ، وحتى لا يتركوا لقمة سائغة للانحلال الخلقي خارج الوسط الأسري/المدرسي، ولا تعبث بهم فئات منحرفة، يبدو إحداث مكتبات ودور ثقافية بلدية وجماعية أحد الإجراءات الهادفة لحماية الأطفال، يتم تجهيزها بوسائل إعلاميائية وكتب قيمة، تسهم في تزويدهم بمعلومات مفيدة تغني رصيدهم المعرفي وتشد اهتمامهم، وتصرفهم عن الفراغ وارتياد الأماكن المشبوهة والموبوءة المؤثرة سلبا في تركيبتهم النفسية. ومن الأفيد أن يشتغل التلاميذ بهذه المكتبات والدور الثقافية تحت مسئولية مربية/مربي يساعدهم ويرشدهم، ويسهر على تربيتهم موازاة مع التربية الأسرية والمدرسية، كما يسهر على تنظيم مسابقات ثقافية لإبراز مواهب الأطفال وصقلها وإعدادهم للانخراط في الحياة الاجتماعية.
ولنفس الغاية والأهداف، وفي نفس التوجه، يبدو من الأهمية بمكان توفير العناء اليومي على الأطفال بالوسط القروي من أجل حمايتهم من كل أذى وذلك بإحداث مزيد من المدارس الجماعية وتوسيع خدماتها، ورفع طاقتها الاستيعابية في القسم الداخلى والخارجي، وتوفير النقل المدرسي الجماعي في جميع القرى والمداشر والدواوير، عوض الدراجات الهوائية التي تعرض حياتهم للأخطار اليومية، وتؤثر فيهم نفسيا جراء الخوف من حوادث قاتلة.
كما أنه يبدو من الأهمية بمكان العناية بالمواهب الصاعدة عن طريق إحداث ملاعب لمختلف الرياضات، وتشكيل نوادي رياضية وتشجيع الأطفال على الانخراط في مختلف الأنشطة والتخصصات الرياضية، كل حسب توجهه وهوايته، يشتغلون تحت إشراف مدربين أكفاء، يعدونهم للعب أدوار مهمة داخل نوادي رياضية كبرى، والاندماج في الحياة الاجتماعية كمواطنين صالحين يعملون من أجل رقي مجتمعهم.
وفي نفس السياق كذلك، أخيرا وليس آخرا، تبدو أدوار وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة والإعلاميائية ذات أهمية قصوى، حيث تخصص حيزا مهما ضمن برامجها وصفحاتها للتوعية التربوية والثقافية موجهة إلى جميع المواطنين، تحثهم على التحلي بالأخلاق الحميدة، ونبذ النزاعات والصراعات، وتجنب الكلام البذيء في الأمكنة العامة، وتدعوهم إلى مساعدة الأطفال واحترام شخصهم وكرامتهم والأخذ بيدهم، وتجنيبهم كل ما يمسهم بأي نوع من الأذى ماديا، كان أو معنويا.
*بقلم نهاري امبارك، مفتش التوجيه التربوي.
المراجع المعتدة:
1.أ.عبد الكريم غريب، المنهل التربوي، الطبعة الأولى 2006، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء- المغرب.
2.العربي اسليماني، المعين في التربية، الطبعة الرابعة 2010، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء- المغرب.
3.د. عبد الرحمن العيسوي، علم النفس التعليمي، الطبعة الأولى 2000، بيروت، لبنان.
4.د. أحمد أوزي، علم النفس التربوي، الطبعة الأولى 2000، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء- المغرب.
5.د. سعيد بحير، الصحة النفسية واضطرابات الشخصية، الطبعة الأولى 2005، طوب بريس، الرباط- المغرب.
Aucun commentaire