بيداغوجيا الإدماج أوالدموج أو التدميج
بداية لا بد من استشارة اللسان العربي المبين قبل التصرف في مفرداته واستعمالها دون تثبت وبغير وجه حق في أحيانا كثيرة . سمعنا منذ مدة طويلة عبارة بيداغوجيا الإدماج أو الدمج ، واستعملها من استعملها استعمال الواثق من نفسه دون أن تحدثه نفسه استشارة القواميس العربية وهو أضعف الإيمان . ولعل من يتصرف في اللغة دون ضوابط يطرب لقاعدة العجز القائلة : » خطأ مشهور خير من صواب مهجور » وما أكثر الخطأ المشهور وما أكثر الصواب المهجور في هذا الزمان. ففعل دمج يدمج ـ بضم الميم في المضارع ـ دموجا في الشيء إذا دخل فيه واستحكم ، ودمج الأمر إذا استقام ، ودمج ـ بتضعيف الميم في الشيء أدخله فيه ـ وأدمج الشيء في الشيء لفه فيه ، وأدمج الحبل أجاد فتله ، وأدمج الكلام أحسن نظم ، واندمج وادمج في الشيء دخل فيه واستحكم .
وأما الدمج ـ بفتح الدال وتسكين الميم ـ فهو النظير ، وأما الدمج ـ بكسر الدال وتسكين الميم فهو الخدن . فكان من الأجدر أن تستعمل عبارة بيداغوجيا الدموج أو التدميج عوض الدمج ولا بأس بالإدماج وإن كان التدميج أفضل من الإدماج لأن الزيادة في دمج ـ المضعف الميم ـ وهي زيادة من نفس جنس الحرف في الفعل أسبق من الزيادة في أدمج ذلك أن الزيادة في هذا الأخير حصلت بحرف غريب عن الفعل وهي تفيد التعدية فقط ، بينما الزيادة في دمج ـ المضعف الميم ـ تفيد التكثير والتعدية في نفس الوقت. وخبر هذه البيداغوجيا أن الوزارة الوصية على الشأن التربوية اعتمدت كعادتها استيراد ما يسمى بيداغوجيا الكفايات كما استوردت من قبل بيداغوجيات أخر بعد أن استهلكها غيرنا من الأمم التي فرضت علينا التبعية ونحن لها كارهون . لقد سوق لبيداغوجيا الكفايات إشهاريا بأنها البديل عن إفلاس منظومتنا التربوية ، وأنها الكفيلة بإعطاء المنتوج المرجو وهو الفرد القادر على خوض غمار الحياة بقدرات يتصرف بموجبها لا بمعارف يرددها ذلك أن الحياة تتطلب الكفايات ولا تنفع معها المعارف وحدها . وزعم الإشهار المصاحب لبيداغوجيا الكفايات أن عماده هو الإدماج وهو القدرة على تعبئة الموارد المكتسبة واستخدامها فيما يواجه المتعلم من وضعيات يفرضها عليه خوض غمار هذه الحياة ليكون هذا المتعلم مؤهلا للتفاعل الإيجابي في حياته اليومية .
وهذه البضاعة كما هو في علم الجميع مستوردة ومسجلة بعلامات أجنبية لمقاول أجنبي في المجال البيداغوجي يعرض سلعته التي يطورها في البلاد المتخلفة عبر سماسرة من هذه البلاد ويكون فئران التجارب أبناء هذه البلاد فإن نجحت التجارب نقلت إلى وطن المقاول ،وإن فشلت كان تعلم الحجامة في رؤوس الأيتام أولى. استدعي أطر المراقبة التربوية العاملون بالتعليم الثانوي ولمجموعة من التخصصات دون أخرى لمدة أربعة أيام بمقر أكاديمية الجهة الشرقية قصد تلقي التكوين الخاص بيداغوجيا الإدماج التي تعتزم الوزارة تجريبها في التعليم الثانوي الإعدادي بعد تجريبها ومحاولة تطبيقها في التعليم الابتدائي. وكانت الوزارة قد استدعت خلال شهر غشت وهو شهر عطلة سنوية والذي صادف شهر الصيام هذه السنة بعض أطر المراقبة لنفس الغرض . وتعرف أكاديمية الجهة الشرقية أوراشا لأطر المراقبة التربوية لبعض التخصصات خلال أربعة أيام لتلقي التكوين حسب التصريحات الرسمية وحسب ما هو مسطر على الوثائق لتبرير صرف مال خصص لهذا الغرض ، وللتشاور حسب مجاملات السادة المؤطرين الذين حجوا إلى الجهة وكلفوا بالتكوين علما بأن البون شاسع بين التكوين الذي له مدخلات ومخرجات وبين التشاور الذي هو محض دردشات . ومما يشترط في التكوين أن تكون له قيم مضافة بالنسبة لمن يخضع له ، أما أن يكون مجرد تكرار لما يوجد في السوق التربوية منذ زمن بعيد فالأجدر ألا يسمى تكوينا كما سماه السادة المؤطرون مجاملة في الظاهر ، واقتناعا في العمق .
ولسنا ضد تجريب بضاعة المقاول البيداغوجي كزافيي روجرز ولا ضد المسوقين لبضاعته بل نحن على أتم استعداد للتحالف مع الشيطان الرجيم إذا كان ذلك في صالح ناشئتنا التي لم تعرف بعد الطريق الأسلم للتعلم المجدي الذي يكون رافعة تنميتنا للخروج من ترتيب الدول المتخلفة الذي ما فتىء ينحدر صوب هاوية التخلف . وما نأخذه على بضاعة المقاول الأجنبي أنه يطور ويعدل بضاعته في ساحتنا ثم يسوقها لنا ويبخر لنا من لحيتنا كما يقال في التعبير العامي ذلك أن عدة بيداغوجيا التدميج كلها من صنع أطر وزارتنا على مقاس وضع المقاول الأجنبي . وعند تأمل هذه البضاعة نجدها محض تحصيل حاصل التعلم منذ أن علم الله تعالى الإنسان بالقلم ما لم يعلم ذلك أن المتعلم مهما كان عصره ومصره إنما يدمج موارد علمه في بعضها أو يدخلها في بعضها البعض فتستحكم و يلفها إلى بعضها ويفتلها أو يحبكها أو يحكمها لتعود عليه بالنفع في حياته . فليس للمقاول الأجنبي سوى تسمية الفعل التعلمي كما هو واقع حاله . فالعربي عندما يقول : » أدمج الرجل الكلام » بمعنى أحسن نظمه فهو يدل على أنه وظف كل موارد الكلام ليؤدي هذا الكلام وظيفته ودوره في الحياة ورحم الله الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي أفاض في الحديث عن النظم وبين لنا كيف ينظم الناظم أو يدمج المدمج موارد الكلام ليصير نظما أو كلاما مدمجا حسب تعبير المقاول الأجنبي .
وما ينسحب على الكلام ينسحب على غيره مما يصدر عن المتعلم من أفعال بعقله أو بجارحته . فعملية التعلم في كنهها هي عملية تدميج أو إدماج ذلك أن فعل علم الإنسان يعلم علما يعني حصلت له حقيقة العلم وعرف وتيقن وأدرك وأتقن ، وعلم ـ بتضعيف اللام ـ بمعنى جعل غيره يعلم بما يقتضيه العلم من إتقان ، والمطاوع لمن يعلم ـ بتضعيف اللام ـ هو المتعلم وهو الذي يضم موارد علمه إلى بعضها بطريقة معلومة تجعله يستفيد مما تعلم في حياته. فالناطق بجملة أو كاتبها على سبيل المثال إنما يدمج صوامت وصوائت في بعضها أو أصواتا وبالتعبير اللساني الحديث فونيمات ومورفيمات وألوفونات ويدمج الألفاظ والكلمات والدلالات وما يحتاجه من قواعد اللغة الضابطة المستضمرة حسب تعبير شومسكي والظاهرة ، وتبقى الجملة في نهاية المطاف عبارة عن عملية إدماج أو هي دموج وتدميج . وما يسري على الجملة في اللغة يسري على كل منتوج ينتجه الإنسان سواء كان منتوجا ماديا أو معنويا . وما حياة الإنسان في نهاية المطاف سوى عمليات إدماج لأن بالإدماج تتركب كل المكونات وتعطي مكونات جديدة.
وأخيرا أقول إن المتعلم عندنا كان يدمج ولا زال كما تريد له الوزارة وليتها وفرت المال الذي صرفته للمقاول الأجنبي وسماسرته لصرفه على فتح ما انسد من آفاق الحياة لتحفيز المتعلمين على التعلم أوالإدماج بعد الاطمئنان على مستقبلهم الذي تلفه الغيوم منذ أن زهد بلدنا في أبنائه المتعلمين المدمجين ، فحصلت لهم القناعة الراسخة بأن التعلم أو الإدماج محض هدر للعمر مع انسداد الآفاق أمام أعينهم. وما معنى بيداغوجيا تريد تأهيل المتعلمين للانخراط في حياة لا تستجيب لحاجاتهم وطموحاتهم . ستبقى بيداغوجيا الإدماج كغيرها من البضاعة المستوردة إلى حين وصول بضاعة أخرى وسيبقى الوطن الغالي مجرد حقل تجريب ، و أبناؤنا الأعزاء مجرد فئران تجارب. وسيبقى قول الحقيقة مر المذاق إلى أن يستعذبه الأكياس المخلصون الذي يقبلون النصح ويتناصحون لخيرية جعله الله عز وجل في التناصح ، و إلى أن يرحل عن صنع قرارات منظومتنا البائسة من لا يقبل النصح ممن لا خير فيه .
2 Comments
VOUS AVEZ COMPLETEMENT RAISON
ها قد بدانا من جديد ، فالأمم تشتغل و نحن نضيع وقتنا في البحث عن اصل الكلمة تماما كما كنا نسعى إلى التفريق بين الكفاءة و الكفاية و في الاخير لم نظفر لا بهذه و لا بتلك
الامم تقول تعالوا نشتغل و نترك امر المصطلحات لتصحح مع الايام و نحن في التربية و في الخطبة و في المحاضرة و في الدرس العادي نبدا من فعل يفعل اصلها فعال و فعالة و فعللة حتى يضيع منا الفعل و تبقى دار لقمان على حالها و الله إنني قريب من التقاعد و اكثر ما أكرهه هو هذا الجدال العقيم الذي يذكرنا بإخواننا المشارقة الذين كان الناس يناقشون مكونات تربة القمر و كانوا هم يتجادلون حول هل تصلح للتييم أم لا