التوجيه وإشكالية اللاتوازن بين الشعب والمسالك
من المفروض أن يلعب التوجيه التربوي والمهني دورا هاما في تحسين جودة خدمات التربية والتكوين عن طريق مساعدة التلاميذ والطلبة والمتدربين بتقديم المعلومات والإرشادات الضرورية المتعلقة بتدبير مشاريعهم التكوينية والمهنية.
وقد حمل تقرير المجلس الأعلى للتعليم في الجزء الأول في الفقرة المعنونة ب « التوجيه وإعادة التوازن بين المسالك » الجزء الأكبر من المسؤولية لنظام التوجيه فيما يخص إشكالية انعدام التوازن بين المسالك والشعب وضعف الإقبال على الشعب العلمية.
وترتبط إشكالية عدم التوازن هذه، بشكل مباشر، مع إشكالية عدم الملائمة بين منظومة التربية والتكوين ومتطلبات التنمية، والأكيد أن الاقتصاد الوطني المتميز بضعف نموه وارتباطه بمتغيرات مناخية، وبقطاع غير منظم، وبنسيج يستقطب في الغالب يدا عاملة لا تتوفر بالضرورة على مستوى عال من الكفاءة، يساهم بشكل كبير في ضعف التكامل المنشود تحقيقه بين الاقتصاد والمدرسة.
أما مساطر التوجيه في منظومتنا التعليمية فلا زالت تختزل في مجموعة من العمليات التي تتسم بالطابع الظرفي، عمليات ترتبط أساسا بالإعلام المدرسي، وبعمليات أخرى ذات طابع إداري، وتستعمل وظيفة التوجيه في التحكم في نسب التدفق وفق ما تمليه إكراهات الخريطة المدرسية. فنظامنا التعليمي إذن، يبقى بعيدا عن ترسيخ المقاربة التربوية للتوجيه، باعتبارها وظيفة من وظائف المؤسسة تجعل من التوجيه عملية مبكرة ومستمرة، يساهم فيها الفاعلون التربويون ومكونات المحيط الاقتصادي، وتهدف إلى مساعدة التلميذ على بلورة مشروع شخصي يأخذ بعين الاعتبار ميولاته ومؤهلاته والعرض المتوفر من المسالك والشعب وآفاقها الدراسية والمهنية.
وحسب إحصائيات السنوات الأخيرة، فان نسبة الموجهين إلى الشعب الأدبية في التعليم الثانوي التاهيلي تكاد تستقر في نسبة 50 % من مجموع الموجهين، وتنحصر في نسبة 5 % بالنسبة للشعب التقنية، ولا يتعدى مجموع تلاميذ الثانوي التأهيلي الموجهين إلى شعبة العلوم الرياضية نسبة 3 % من مجموع التلاميذ بهذا السلك. كما تصل نسبة الطلبة الجامعيين المسجلين في شعب الآداب والعلوم الاجتماعية إلى 69 %، وبلغت في نفس الموسم نسبة الحاصلين على الإجازة في هذه الشعب نسبة 78 %. هذه الأرقام توضح بجلاء عجز منظومتنا التربوية عن تحقيق النسب التي خطط لها الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وتؤكد بالتالي على ضعف المردودية الخارجية من خلال ضعف معدل إدماج الخريجين في عالم الشغل.
فما السبب إذن في التحاق هذه النسب الضعيفة بمختلف التخصصات العلمية والتقنية، وهل المدرسة عموما، ونظام التوجيه خصوصا هما المسؤولان الوحيدان عن ذلك؟
يصل أغلب التلاميذ إلى نهاية التعليم الثانوي الإعدادي وقد راكموا ضعفا كبيرا في اللغات والمواد العلمية، ويساهم طغيان الطابع النظري في تدريس المواد العلمية، وضعف التطبيقات بسبب غياب المختبرات أو الأجهزة، وعدم الانفتاح على النسيج الاقتصادي، في ضعف اكتساب التلاميذ لثقافة علمية وتكنولوجية، كما أن الامتحان الموحد الجهوي للسنة الثالثة إعدادي، والذي يلعب دورا مهما في عملية الانتقال إلى الثانوي التاهيلي، يجرى في مجموعة من المواد من بينها مادة علمية واحدة فقط هي الرياضيات، مما يسبب دون شك في تدني الاهتمام بهذه المواد العلمية.
فالأسباب السابقة، إضافة التمثلاث الخاطئة المكونة حول الشعب التقنية والعلمية، وتدريس المواد الخاصة في الشعب التقنية باللغة الفرنسية، واضطرار نسبة مهمة من التلاميذ إلى اختيار توجيه قسري بحكم نجاحهم بمعدل أقل من المتوسط، وبرصيد ضعيف من التعلمات، يدفع عددا كبيرا من التلاميذ إلى الرغبة في التوجيه إلى الشعب الأدبية.
وتساهم في هذه الوضعية مسببات أخرى من بينها غياب أنشطة تعليمية تمكن التلميذ من اكتساب كفايات التحليل النقدي والتجديد والابتكار، وغياب مفاهيم التوجيه والتربية على التوجيه واكتشاف عالم المهن والمحيط الاقتصادي ومتطلبات سوق الشغل في المقررات والبرامج الدراسية، كما أن عدم توفر أطر التوجيه على دراسات استشرافية لحاجيات البلاد من المسالك الدراسية والتكوينية وسوق الشغل وعلى صنافات للمهن يصعب من مهمتهم في مساعدة التلاميذ على القيام باختيارات بناءة.
ويعتمد في ولوج المسالك التقنية والشعب العلمية ذات المقاعد المحدودة على انتقاء يعتمد بالأساس على النتائج الدراسية، أي الاهتمام فقط بالجانب المعرفي، والذي يقوم داخل نظام للتقويم يقصي الوظيفة التكوينية، وهذا يتعارض مع مبدأ التوجيه والذي يرتكز كذلك، إضافة إلى الجانب المعرفي، على باقي أنواع الذكاء والمهارات والقدرات.
إذن فعملية الانتقاء هذه تحد من الراغبين في ولوج هذه الشعب، والتي لا تستقطب عددا من التلاميذ لأسباب أخرى من بينها تواجدها في مؤسسات دون أخرى، أو تطلبها لمصاريف إضافية، أو بسبب قلة أو انعدام الجسور مع التعليم العالي، أو تبعا للتمثلات الخاطئة التي تعتبر التعليم التقني امتدادا للنظرة الدونية المكونة على مستوى التأهيل المهني.
إذن، فهناك عدة مسببات لوضعية اللاتوازن بين المسالك والشعب، منها ما هو خارج عن منظومة التربية والتكوين، ومنها ماهو داخلي يتعلق أساسا بطرق التدريس ونظام التقويم ومحتويات البرامج واكراهات الخريطة المدرسية، وكذلك بخدمات الاستشارة والتوجيه.
ولمعالجة هذه الإشكالية، يرى التقرير على أن الرهان يرتبط أساسا بتحقيق هدفين أولهما التحكم في التدفقات وعكس اتجاهها الحالي بهدف توجيه ثلثي التلاميذ والطلبة إلى التكوينات العلمية والتقنية، ويتمثل ثانيهما في تمكين التلاميذ من اكتساب روح النقد والمبادرة وروح المقاولة والحركية، والثقافة الاقتصادية. ولهذا الغرض يتم التركيز على ثلاثة مجالات رئيسية، وهي:
– القيام بعمل استشرافي حول المهن وسوق الشغل.
– الاهتمام المبكر بمسألة التوجيه.
– وضع الوسائل الكفيلة بإحداث نظام ناجع للتوجيه.
ويعد إطار التوجيه من بين المعنيين الأوائل بتحقيق هذه الأهداف، من خلال مزاولة مهام التأطير، أو من خلال قيامه بباقي المهام المنصوص عليها في النصوص التشريعية المؤطرة لعمله، سواء من خلال تدخلات وعمليات اجرائية، أو عن طريق وضع اقتراحات عملية لمعالجة الإشكالات القائمة.
ومن بين الأدوار التي يمكن أن يقوم بها أو يساهم فيها عبر مبادرات لوظيفة التوجيه داخل المنظومة، والعمل على إعادة توازن سريع بين مختلف المسالك:
– المشاركة ضمن لجن مختلطة تتكون من قطاع التربية الوطنية، التكوين المهني، التعليم العالي وباقي مكونات النسيج الاقتصادي، في انجاز دراسات حول المهن، وانجاز صنافات لها، وتوفير دورية تعني بمعطيات سوق الشغل وتقلباته، وإحداث شعب ومسالك تستجيب لحاجيات المجتمع والأفراد والاقتصاد، وذلك بعد دراسة للجدوى.
– القيام بدراسات على صعيد شبكات التربية والتكوين المحلية، وعلى الصعيد الجهوي، حول مدى الإقبال على الشعب والمسالك الدراسية التعليمية والجامعية والمهنية، وجرد مختلف التمثلاث حولها، ومدى استفادة المعنيين من إعلام شامل ومضبوط قبل الإقدام على اتخاذ قرار التوجيه إليها، مع تقديم التصورات اللازمة بشأن البرامج والمناهج والشهادات، وحذف شعب وإحداث أخرى يراعى فيها تقوية الجذوع المشتركة وإدراج تكوينات متعددة التخصصات، بغية تمكين المتعلمين من وسائل تضمن تكوينا متجددا يتماشى وتغيرات المعارف التقنية.
– مطالبة كل مؤسسات التكوين المهني والتعليم العالي، بتتبع إدماج خريجيها، والمساهمة في انجاز دليل مرجعي للمهن المدمجين فيها، ووضعه رهن إشارة المتدخلين في خدمات الاستشارة والتوجيه.
– دراسة العرض والطلب في مختلف شعب التكوين المهني، ووضع اقتراحات فيما يخص مد الجسور بين مختلف أنماط ومستويات التكوين، مع إيلاء أهمية أكبر لأنماط التكوين بالتدرج وبالتمرس، وفتح آفاق أوسع في مستويات التقني والتقني المتخصص بالنسبة لتلاميذ الشعب الأدبية.
– إجراء دراسات وتقديم اقتراحات فيما يخص الرفع من الطاقة الاستيعابية للتكوينات الممهننة في الجامعات، بما فيها كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وإحداث شعب تكوينية جديدة في الإجازة المهنية و في تحضير شهادة التقني العالي، وذلك بالتنسيق مع مكونات النسيج الاقتصادي التي يجب أن تنخرط في التكوين والتشغيل، وكذا ضمان متابعة الدراسة للمستفيدين من هذه التكوينات الراغبين في ذلك، سواء من خلال جسور إلى شعب وتخصصات أخرى، أو من خلال الماستر المتخصص.
– المساهمة على المستوى التشريعي في استصدار مذكرات وقوانين تهدف إلى ضمان مرونة أكبر للنظام التربوي ككل من خلال تنويع الشعب والمسالك الدراسية والتعليمية والتكوينية والجامعية، وخلق المسارات والجسور العمودية والأفقية فيما بينها، وذلك لتسهيل حركية التلاميذ والطلبة والمتدربين، وللحد من الهدر والفشل الدراسي، ولإتاحة مجالات واسعة للاختيار لفائدة المعنيين.
– العمل من خلال مهام التأطير والتتبع والتنسيق، على مساهمة خدمات الاستشارة والتوجيه في إكساب التلاميذ مبكرا آليات القابلية للتكوين وإعادة التكوين ومهارات التنبؤ والتموقع والتكيف، واكتساب ثقافة اقتصادية تمكن التلميذ من مسايرة المستجدات العلمية والتكنولوجية، والتكيف معها، وبلورة مشاريع شخصية تأخذ بعين الاعتبار هذه المتغيرات. والتنسيق مع باقي الفاعلين التربويين لإدماج مفاهيم التوجيه في البرامج الدراسية، وإحداث برامج جهوية تستجيب لهذا الغرض، وجعل عملية التوجيه في صلب اهتمام الفريق التربوي وفي انفتاح مستمر مع مكونات المحيط الاقتصادي والاجتماعي، وإدماج أنشطة الاستشارة والتوجيه وأنشطة الدعم ضمن مشروع المؤسسة وبرنامجها السنوي.
– إحداث مزيد من القطاعات المدرسية للاستشارة والتوجيه، وإعادة تنظيمها تنظيما متوازنا يأخذ بعين الاعتبار عدد المؤسسات وعدد التلاميذ، وذلك من أجل تعميم خدمات الاستشارة والتوجيه، وضمان تكافؤ الفرص بين التلاميذ، وبالتالي تصحيح تمثلاتهم حول ذواتهم وحول محيطهم الدراسي والتكويني والمهني، من أجل تمكينهم من الاختيار السليم في توجيههم.
عبد الكريم بن رزوق، مفتش التوجيه التربوي، نيابة الجديدة
يونيو 2009
1 Comment
المرجو التوضيح حول المرجع الإحصائي.