حمـــــير فاس الشريفة
حمـــــيرنا
عزيز باكوش
أصبح عمدة فاس « سيكليس المرحلة »نجم الصحافة المغربية بشكل يكاد يكون بلا منافس ، نجم تحتضنه اليوميات في أكثر من حوار ، وتفرد الأسبوعيات لصوره ومهاتراته الصحفية مقاما فسيحا ، فيما تطبطب الفضائيات على صهيله بالأحضان. عمدة فاس بات فيصلا نحريرا في التاريخ وعلم السياسة وأصول الدين في خمسة أيام وبدون مكون ، لذلك ، نلحظه يقطر بحنكة الزعيم حبات الشمع الأحمر على حقب تاريخ مغربي بلا لون ، ويرش بوقاحة نادرة ملحا رصاصيا على صفحات لم يندمل جرحها بعد ، مثلما يسكب على جغرافية فاس التي تضاعفت مساحات بناياتها العشوائية ، واحتل الباعة المتجولون أرصفتها ، وتعطلت الإنارة بمناطق الحزام وأصبحت الأخاديد بلا بداية ولا نهاية مثل قرية متهورة
*****************************************************
تصريحات شباط الأخيرة باتت تسيء إليه حسب المهتمين والمتتبعين ، أكثر ما تسيء إلى أعدائه المفترضين ، لذلك ، تراه تارة يوزع النقط على النقابات المندمجة ، واضعا للأحزاب الحليفة خانات ، وتارة أخرى يهندس بحول منفرد للمستقبل البعيد بعين واحدة ، وفي كل خرجاته تلك ، يبدو المشروع المجتمعي في ظل عولمة جارفة كما لو كان مشروعا للصرف الصحي بأحد أحياء الحزام يدبر من قبل كائن حامض بعقلية انتخابية ، كائن سياسي ونقابي « اعطاتو الأيام ، فلم يتردد لحظة واحدة ودار كاتريام « ، فبات يشخبط في عقار المدينة ذات اليمين، ويلخبط في ميزانيتها الضخمة ذات الشمال، ويقدم كلماته الفصل ، ولا يتردد لحظة واحدة في إدخال أنفه في كل القضايا الكبيرة التي تشغل بال البلد ، بما في ذلك جريمة نكراء ، تتعلق باغتيال شهيد الوعي الحداثي المغربي المهدي بن بركة ، وهي جريمة أهاب اليوم المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كافة الاتحاديات والاتحاديين وعموم القوى المناضلة من الأسرة الاتحادية ، والتنظيمات اليسارية والحقوقية والمدنية المناضلة، إلى وقفة احتجاجية وتنديدية أمام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بالرباط، للمطالبة بالكشف عن حقيقة اغتيال الشهيد المهدي بن بركة وتعرية وجه القتلة.
*****************************************************
فمن ذا الذي يخالف الرأي لنقابي آخر زمن ، تم حمله على عمارية لحظة تتويجه زعيما بالإجماع ؟ ومن يشاطرنا الرأي أن للمدعو شباط إستراتيجية كيدية مسنودة ، ترتكز في جوهرها على مستويين 1 – خطاب عدمي ، 2 سلاح يطلق النار بواسطته على كل من يتحرك ، ومن يختلف معه في نظرته إلى ملف تدبير ميزانية فاس ، والعبث بتاريخ فاس ومجتمع فاس وإنسان فاس ؟
في علم السياسة ، وكما في جميع أنظمة الحكم هنا أو هناك ، تتخذ السلطات العليا إجراءات وتدابير تعطي الانطباع بأن عين الحاكم لا تنام ، إجراءات تتخذ شكل إقالة تارة ، أو عزل وتنقيل وتجميد نشاط يهم كبار الموظفين من رجال السياسية ، وكذا جنرالات الأمن والدرك والتراب الوطني على ضوء مستجدات و ظروف طبيعية قد تكون حاسمة واستثنائية ، مثل هذه الخطوات لم نلحظ لها أثرا هنا والآن ، رغم أن ما تثيره مسالة بيع فاس في المزاد العلني من غبار يكفي لحجب الشمس .فلمصلحة من هذا السكوت الجحيم؟
في المحصلة ،إجراءات وتدابير عليا يتم عبرها أو بواسطتها قطع الطريق أمام جنوح مركب انتهازي مصالحي يتوخى الإجهاز على الأرض والذاكرة ، كما من شأنها أيضا أن تلقح التلقي وتحصنه ضد مخاطر بعض التصريحات العشوائية التي تنسب المشاريع العملاقة إلى نفسها، وهي التي انطلقت بعدد من المدن الكبرى بمبادرة ملكية وفي إطار تنمية بشرية، أما بعض التكهنات المريضة المصاغة في قالب نضالي ذات الإساءة عن عمد ، والإشاعات المغرضة والافتراء على التاريخ ، والتي من شانها إتلاف النسيج المجتمعي والهوياتي للأمة بكدمات وندوب ، فلم تجد ردا رسميا مناسبا خارج إطلاق البلاغات النارية والافتتاحيات . لكن الأمر في فاس وان كان يحتاج إلى مثل تلك التدابير عاجلا ، فلماذا تأخر ؟
*****************************************************
جاء في الأثر ، أن الطبيعة أقوى من السياسة في مواجهة طويلة وشاقة مع بني البشر أريد لها أن تظل مفتوحة على كل الاحتمالات من أجل تحقيق التوازن الكوني ، مواجهة لها ما لها وعليها ما عليها، شرسة ومتواترة وضروس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولعل ما يحدث في مدينة فاس هذه الأيام واحد من أشكال هذه المواجهة المفتوحة على كل الاحتمالات . و بعيدا عن هذا التحدي ، ونحن في حضرة فاس المدينة العالمة التي تزحف نحو استحقاقات 12 يونيو الجماعية ، ثمة شيئان على درجة كبيرة من التقدير والاحترام ، هذان الشيئان هما المتسول والحمار . ولأجل فهم هذه التركيبة العجيبة والغريبة وتفكيك شفرتها ، فإن الطبيعة تدعونا على الطريقة المغربية كي ننشط خيالنا في أفق ابتكار لقاح مضاد ، يضع حدا لهذا التنام المزعج والمشوش في فهم العلاقة الطبيعية بين الأشياء في تداولها أو في سياقها التاريخي والحضاري . نعم ، لقد بات الأمر مستعجلا أكثر من أي وقت مضى في أن نفهم سبب هذا الالتباس الحاصل عند أهل فاس في الفهم، وكيف بات الحمار فرسا بسرج ونياشين وإسطبل خمسة نجوم ، وأمسى الفرس حمارا في سبعة أيام دون معلم ، علماء كثر من مجالات متعددة احتاروا في فهم هذا الالتباس الذي لم تعد كل مختبراته وتحاليله قادرة على فك ألغازه تفكيك شفراته ، وأصبح من شبه المؤكد أن الحسم في المعضلة مستحيل من غير الاحتماء بالأولياء والصالحين وصناع الدجل الأرضي أو الفضائي المبثوث من على سماوات الله المفتوحة ..
******************************************************************
فمع دخول القرن الواحد والعشرين، وزحف العولمة ، تخلى معظم سكان الأرض عن استعمال الحمير كوسيلة عمل داخل المدن ، باستثناء المناطق الريفية الفقيرة ، لكن فاس العالمة ، ظلت بمنآي عن هذا الاختيار ، حيث خططت لنفسها مستقبلا اقتصاديا مشرقا في حضرة الحمير ، ولذلك باتت نكهة البداوة والفقر بادية على مشارفها منذ باب الفتوح إلى شارع الحسن الثاني بلا منازع.
عن الحمار قال الدميري في حياة الحيوان الكبرى » الحمار جمعه حمير وأحمرة وربما قالوا: للأتان حمارة، وتصغيره حُمَيّر ومنه توبة بن الحمير وكنية الحمار «
يحتل الحمار المجلوب إلى فاس منذ زمن طويل ، هذا الكائن الأليف المدوجن، سليل الحصان وآل البغلية مرتبة الشرف، ليس لكونه أقدم وسيلة نقل عرفته البشرية على الإطلاق ، أو بسبب جغرافية فاس المعلقة ، وتضاريسها الشاقة المعقدة التي تقطع الأنفاس كل صعود ، والتي تحتاج إلى الحمير في كل شيء ، فحاجة الآلاف من الصناع والحرفيين إلى هذه الدابة العجيبة ماسة ومنذ قرون لنقل وتخزين البضائع والمنتوجات الجلدية والمعدنية من المعامل والمشاغل تحت أرضية إلى المصانع والمحنيات المظلمة عبر مدارج الطالعات الصغرى وأختها الكبرى بتفريعاتها المتاهية ، أما التدبير المفوض لنفايات المدينة العتيقة فقد ألهب أسعار الحمير ،وأجبر مالكي هذه الدابة العجيبة كي يصدحون بسعر يتجاوز 5آلاف درهم للحمار ، فالحمير وفي هذا الظرف بالذات ضرورة وحكمة ، حتى أن الجماعة الحضرية بمنطقة الجنانات لم تستطع توفير أكثر من نسختين للشركة الفائزة بصفقة التدبير المفوض من أجل تكديس نفايات أحياء يفوق سكانها عشرات الآلاف ، فالحمير مرغوب فيها بفاس ليس لجمالها وخفة ظلها ، وإنما إلى رمزيتها وحضورها الفانتازي في حياة المجتمع والناس . وفي سياق متصل ، لاشك أن الانقلاب الحاصل في تدبير الشأن المحلي ، بات يحتاج آلة عمياء ، قوة بلهاء تحمل أضعاف وزنها ، من غير أن ترفض طلبا، وليس في أجندتها تمرد أو عصيان ضد والي نعمتها الفاسي ، وللحمير غير الفاسية هذه الخاصية على ما يبدو ، لذلك تصل أحيانا درجة التفضيل عن الكائن البشري ، فإذا أنت تذمرت من ركلة حمار بزنقة في فاس البالي أو بالقرب من جامعة القرويين أو ضريح مولاي إدريس ، فأنت بذلك تكشف عن هويتك البرانية ، وتعلن نفسك ذاك الغريب العابر ، والراغب العازف عن بخورها وتعاويذها وكرامات أوليائها الصالحين ، مرتبة الشرف هذه احتلها الحمار القادم من منطقة أشراكة ضواحي فاس عن جدارة واستحقاق ، أي نعم، ذلك الحيوان المستأنس ، الرفيق الدائم للإنسان، حامل المشقة، والمتشبط بحذافيره في وهادها وتضاريسها الوعرة ، وما يزال ، لم يتمرد ، ولم يتقاعس في أداء دوره القديم في الطاعة البلهاء منذ تدجينه أول التاريخ من غير ثورة ولا تمرد أو عصيان. أشا…شا..أرا…را..
****************************************************
في جينيولوجيا التحمير أو علم الاحتمار نجد أن السلالة الحميرية الزاحفة على فاس مع بداية القرن 21 ، لا تخرج عن أعراق ثلاثة حسب الاحفوريات المتأخرة ، هناك الحمير الجبلية القادمة من تاونات والنواحي » الأذنان أكبر من غيرها في جنس الأخيلة، ذات سمع أكثر حدة أيضا، أما العينان فأكثر توجها للأمام من الأحصنة. ،وهناك الحمير الشرقية القادمة من تازة وماجاورها ، وهي تشبه بشكلها العام الحصان، لكنها أصغر حجم وأقرب إلى البغل، لها رأس كبير وذيل قصير ينتهي بخصلة شعر، حوافرها صغيرة وأذناها طويلتان. و تسمى أنثى الحمار أتانا والصغير جحشا. ثم الحمير التي « لا أصل لها ولا فصل ،بل هي مزيج من حيوات الحمير المنوية المجهولة الأصل ، تدب في سهول فاس برائحتها النتنة ، وأفعالها التي تزكم الأنوف والعقول والأفئدة في الشارع العام ، وهذه السلالة من الحمير تم جلبها و تدجينها من قبل فئات وافدة ومهاجرة نتيجة الحرمان وقساوة الطبيعة ، الحمار من هذه الفصيلة يعاني بشكل عام، من نفس أمراض جنس الأخيلة، لكنه أيضا أكثر حساسية لمرض التهاب الحوافر حين يكون الأكل المقدم له زائدا عن اللزوم . ولأنها عديمة الأصل ،فهي خرساء ، تتمتع بقوة كبيرة على تحمل الأعباء والأثقال والضرب المبرح من غير أن يكون لها رد فعل.
*****************************************************
على سبيل الختم ، « كما للأشخاص الطبيعيين بيوغرافيات شخصية تحكي النشأة والمسار والتطور « ، فإن للمدن أيضا مسار ونشأة وتطور ، ولعل ما يجري الآن بفاس جزء من هذه الصيرورة المجتمعية التي نأمل أن يلتقط المتلقي النبه ضياعها ويمررها بصدق للأجيال القادمة.
Aucun commentaire