حادثة الكلم 9 – قصة من صميم الواقع
كنت أسوق سيارتي « الداسيا » الحمراء على الطريق الوطنية الرابطة بين تطوان القنيطرة عبر العرائش مثل سائق محترف ، كان الصباح دافئا ، وكانت الموسيقى الأندلسية تصدح بتواشيها السبع ،فيما صهيل المحرك يشبه أنين شيخ هرم وسط حشد صاخب لا يكاد يسمع ، وفيما كانت المسافة تمتد ، و الطريق تتمطى وتتثاءب ، كانت العجلات تتنفس الصعداء كلما داهمتنا حفرة ،أو اقتحمناحا بدافع المفاجأة ، كانت التروس و الدواليب تشتغل بسمفونية هادرة وهادئة ، تدور وتدور كما لو صممت خصيصا لذلك ، وبات المحرك يكشف لي وبجد عن تصميم آليي لا يقاوم .
في الأفق ، بدت الشمس حماما تغتسل بطقسه الكائنات ، ولاح سراب كثيف شرع يتبدد شيئا فشيئا كلما اقتربت السيارة منه ، خيمة كبيرة ثم شاحنة ، فشبح سيارة خرجت لتوها من حادثة مرعبة ، هيكل السيارة الذي بدا يلوح في الأفق لا لون له ، وكلما اقتربت الحمراء منه كلما أضيف إليه تشكيل جديد ، إلى أن اكتمل نهائيا ، وبدا منظر غطائها الأمامي المشدود إلى الأعلى ،يشبه مظلة سوداء في شاطئ مهجور. وغير بعيد منه، أطل شبح أدمي في صورة شخص ملتح وهو يشير بيدين مغموستين في السخام الأسود ، ملوحا، آمرا إياي بالتوقف. وعلى الفور شرعت ذاكرتي في استحضار أعطاب تقنية مماثلة كنت ضحيتها ، واتضح أمر خطورة الصدمة الآلية في هذا الفضاء المترب الخالي الذي يمتد بلا ضفاف ، على التخوم من الجانبين الفضاء القريب الممتد ، تترامى قناطر منهارة ، وبنايات هشة ومفككة وجدران متلاشية توحي بان طوفانا عاتيا مر من هنا لساعات ، أشجار مغروسة بلا ذوق ، وكتل من الرمال تم شحنها وإفراغها على عجل ، فبدت تراكمات بلا هندسة ، أما المناخ الجميل الذي يصنعه هدير المكيف ، والموجود في الداخل ، فقد بات لا يعبئ بموج الحر الذي يذيب ويشعل الحرائق في الخارج .
لم أستشر أحدا من مرافقيي كعادتي في مثل هذه المواقف ، لقد انتابني إحساس شبيه بالعطف ،أو هو العطف نفسه ، شعرت أن الرجل الذي يقف أمامي وعلى بعد أمتار قليلة ، ويطلب المساعدة هو أنا ، إذ كثيرا ما حصل الأمر نفسه في طرقات الله الواسعة السوداء المتربة وغير المعبدة، وكان ذلك الأنا – الآخر هو المنقذ ولطف الله.
خفضت السرعة إلى الدرجة الثالثة فالثانية ، وقمت بتنشيط إشارة الوقوف بعد أن انزحت يمينا حتى توقفت العجلات ، لحظتها خفضت الزجاج قليلا وقلت بنبرة جدية ومسئولة:
– هل لنا أن نساعدك سيدي ؟؟؟
كانت لحية الرجل تسبقه فتمنحه وقارا لابد منه ، وفيما بدت يداه مشمرتين غارقتين في سخام زيت أسود ،ظلت شفتاه لا تكفان عن الصلاة والشكر لله .
لاحول ولا قوة بالله .. أخي الكريم ..لقد شاء الله ..والمومن مصاب ، قال ، ثم أسبل عينين منهارتين بكبرياء مسلم حنيف وبدا غاطسا في بحر الآلات والأجهزة ، يختبر أداء بعضها غير مكترث بما يجري ويدور من حوله .
قدرت ذلك ، وكان واضحا أن الرجل في وضع صعب حقا ، وبدت الحاجة إلى المساعدة ماسة ، بل أفضل ما يمكن القيام به الآن ، لكن كبرياء الرجل تمنعه فيما يبدو ، فقد بدا ذلك واضحا من خلال تجاهله دعواتي له بان الأزمة لاشك عابرة، وان السائق المحترف لا تاخد منه ولا تنال منه مثل هذه المواقف ، كان شعوري قويا ، وانتابني لحظتئذ إحساس بتخطي كل المعيقات ، وتقديم يد العون إلى شخص في موقف صعب ، وهو أمر لا يقبل التأويل أو المماطلة.
ناديت الرجل ، واستفسرته بمودة فائقة ،سيدي ، ماذا، وكيف ومالذي حدث بالضبط ؟
– نعم، سيدي- زازاك- الله خيرا : قال
كنت أقود عليك ياألله، قالها بخشوع و بضعف ثم أجهش وأضاف ، فجأة ، سبحانك يا الله ، كنت متوجها لزيارة الأحباب في وجدة ، في لحظة ،شعرت كمن اضغط برجلي على فراغ، لقد انقطع كابل السرعة..ومن ألطاف السميع العليم أنني حي أرزق ؟
– مالعمل الآن؟
– احتاج إلى كابل السرعة..حتى أتمكن من الخروج من هذه الورطة والعودة إلى الأبناء سالما ؟؟؟؟
– كيف..؟
وبعد أن سمعني بانتباه ، أمسك بيديه حزمة أسلاك متشابكة قائلا:
هذا المنحوس فاجأني بعد رحلة دامت 6 ساعات انطلاقا من وجدة….آه . وأشار إليها بعينين ذابلتين وفم متيبس ، وبينما أنا أقوم بالتفاتة إلى المقاعد الخلفية ملتمسا ولداي توسيع الفضاء حتى يتسع المكان لراكب جديد، إذ بالرجل الفاضل يرفض أي مبادرة من هذا القبيل ، مستغيثا بكل الأنبياء والأولياء الصالحين ،أن يحفظ العائلة من كل مكروه.
خمنت وقدرت ، كانت أبعد نقطة من الكلم 9 إلى باب فاس بمدخل مدينة القنيطرة تحديدا حيث محلات بيع قطع غيار السيارات لا تتجاوز العشر كيلومترات..واحترت بين أمرين ..أذهب رفقة الأولاد ، ثم اقتني الكابل إلى حين عودتي وبعد ذلك أترك أمر النقود سلفا إلى ما بعد ، أم أناوله ما استطيع على أن يتكفل ذلك بنفسه ، لكن ، ما بدد حيرتي هو إشراقة عاجلة جعلت من أمر المساعدة واقعا ممكنا، وشرعت في تجريب فرضيات كثيرة رجحت إحداها وقلت في أدب :
– مستعد سيدي لمساعدتك..ماذا تقترح ؟؟؟
لم يكف الرجل عن الذكر، وقراءة طوفان من الاحاديت والصلاة على النبي ، حتى انه قرر أن يصلي ركعتين شكرا لله وهو على ذا الحال.
في لحظة، أحسست أن السيدة والأولاد شرعوا في التعبير عن انزعاجهم من الأمر ، وقال إلياس ساخرا :
بابا..هل سنتغذى هنا؟
وأضافت آية بسخريتها المعهودة :
بابا….الشمس تستبد بي ؟؟
لكن السيدة كظمت غيظها ، وهي تستحضر عشرات المواقف التي كنا مسرحا لها ، قبل أن تنفجر قائلة -طيب ، افعل ما تراه مناسبا كي ننصرف . وبعد أن عرضت ثلاث فرضيات على صاحبنا ، رجح الملتحي إحداهن ، وكانت تقضي بأداء ثمن الكابل حوالي 90 درهما على أن يحتفظ بعنواني ورقم هاتفي وحسابي الى حين عود ته إلى بيته بوجدة ، فيتكفل بالواجب ، فوافقت على الفور .
لم يتردد الملتح عبد الصمد في بسط كفيه متضرعا إلى العلي جل وعلا استغفارا وحمدا لاستجابته له ، منبها إياي إلى ضرورة الإسراع في تقديم المساعدة ، لان الشمس ستشتد وطأتها داخل صندوق معدني قد يتحول إلى مجمر بعد ساعات . وبينما أنا أسلم عبد الصمد المبلغ وفي نيتي عدم الإقدام على توثيق أي من تعاقداته واعتبار الأمر صدقة جارية . وإذا بسيارة جيب للدرك الملكي تقف على وقع احتكاك حاد لعجلاتها الأربع ، وفيما أنا أهم بالمرور إلى السرعة الثانية ، إذ بسيارة درك ثانية تأمرني بالتوقف يمينا مستعملة منبها قويا ، لم يكن لدي من خيار سوى الامتثال على الفور
حياني الدركي ، ثم طلب مني أوراق السيارة ، ابتعد قليلا وشرع يقلبها ، استغربت موقف الدركي الذي لم يلتفت إلى الشخص الملتح الذي ظل في مكانه ، والذي كان يحاول جاهدا إخفاء وجهه عما يقع ، وتساءلت أليس الأجدر به طلب المساعدة من رجال الدرك ، أليست من مهامهم تقديم المساعدة لأشخاص في حالة صعبة ؟؟؟
التفت الدركي جهتي قائلا في أدب :
يبدو أنك فعلت خيرا هذا الصباح لكن في غير محله ، لم افهم الأمر للوهلة الأولى ، لكن بعد أن حكيت له ما جرى حرك ، الدركي رأسه علامة على الموافقة وإدراكه حسن نيتي ، ثم ذهب صوب الشخص الملتحي ، طالبا إياه الكف عن الكلام والسماح له بتفتيشه ، مخاطبا إياه بلغة لم افهمها ، وما لبث أن عاد وهو يسلمني مبلغ 90 درهما كاملا .وهو يقول خذ هذا مبلغ الكابل ….
-أنت الضحية العاشر هذا الصباح…؟
– لا ..لا » أشاف ».. لم يمض على وقوفي إلا دقائق معدودة …والله الآن فقط أتيت .. وقفت..؟ قال الملتح في حياء مفتعل .
-ألم اقل لك ، أنك أصبحت أشهر من نار على علم ، ثم ..وهذه اللعبة القذرة ، الم تكف عن استبلاد نفسك …..ثم صرخ الدركي بأعلى صوته » الم اقل لك انك تسيء إلي قبل أن تسيء إلى لحيتك ، ألم أقل لك… لن أطلب منك أن تغرب عن وجهي هذه المرة ، أتفهم ، سأنجز لك محضر نصب واحتيال ، سأودعك السجن ، …هل تريد أن تفضحني ، على الأقل افعل ذلك ، لكن خارج منطقة نفوذي، أتفهم ..الله يعطيك مصيبة؟ استقرت مفردات مبهمة على لساني، وظلت تناور بدهاء للخروج مثل عاصفةً هوجاءً ، لكن صفاء اللحظة وصدقها ، أسقطت جفون الملتح حول عينيه ، ستارا أسوداً حجب عنه نور الحقيقة الصادمة. فيما أنار أمامي بقية الطريق .
Aucun commentaire