إصلاح المنظومة التربوية رهين بإصلاح سوق الشغل
استرعى انتباهي تصريح لأستاذ مغربي بالمعهد العالي للإحصاء هو الدكتور المهدي لحلو ، وقد استضافته قناة الجزيرة وهي تعالج مشكل البطالة الجامعية في المغرب التي استفحلت في أوساط حاملي الشهادات الذين لا يغادرون صباح مساء مقر البرلمان بالعاصمة في إضرابات متواصلة صارت مألوفة يوميا ومعتادة ،وقد صاروا أفواجا تحمل أرقاما وأسماء لتكاثرهم وتراكم معاناتهم. وتصريح الأستاذ وهو يعالج الظاهرة أن البطالة في اليابان وأوروبا الغربية وأمريكيا الشمالية تطال غير ذوي الخبرة والمستويات العلمية بينما البطالة في المغرب تشمل ذوي الخبرة والمستويات العلمية ، وهي مقارنة غير موفقة ذلك أن اقتصاد اليابان وأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية غير اقتصاد المغرب . فإذا كان اقتصاد الدول المتقدمة يقوم على الصناعات الضخمة والثقيلة والمقاولات المتعددة والمتنوعة ، فاقتصاد المغرب لا يبارح الزراعة البدائية مع بعض الاستثناءات ، ولا يعرف التصنيع بالمعنى الصحيح لأنه يعتمد في مجال الصناعة على الاستيراد لهذا لا تحتاج إمكانياته الاقتصادية إلى يد عاملة ذات خبرة ومستويات علمية ، وهذا ما يفسر ما لم يستطع الدكتور لحلو استيعابه عندما لاحظ أن نسبة البطالة في صفوف غير ذوي الكفاءات العلمية والخبرة بالمغرب أقل منها في صفوف ذوي الكفاءات والخبرة ذلك أن فرص الشغل التي تتيحها المنظومة الاقتصادية المغربية متواضعة لا تستلزم الخبرة والكفاءة ، وتقدم مقابلها أجور لا تبارح الحد الأدنى مما يجعل ذوي الخبرة العلمية لا يقبلون عليها ، في حين أن المنظومات الاقتصادية الغربية واليابانية تتطلب بطبيعتها الخبرة والكفاءة نظرا للتطورات التي تعرفها قطاعات الاقتصاد .
وكمثال بسيط ليست زبالة المغرب مثلا هي زبالة اليابان من حيث التدبير ووسائل التدبير لهذا نجد فرص الشغل المرتبطة بزبالة المغرب غير فرص الشغل المرتبطة بزبالة اليابان من حيث الخبرة والكفاءة . وإذا عرف السبب بطل العجب.
ولعل المحاولات المتتالية لإصلاح المنظومة التربوية لن تؤتي أكلها ما دامت المقاربات المعتمدة تتعمد فصل قطاع الاقتصاد عن قطاع التعليم . فقطاع التعليم هو رافد من روافد التنمية الشاملة ، ومصيره مرتبط بقطاع الاقتصاد ، والناس ليسوا مستعدين لهدر أموالهم وأوقاتهم في اجترار برامج تعليمية لا تمكنهم من ولوج أسواق الشغل ومتطلباتها. فقبل وضع خطط الإصلاح الخماسية والعشرية والاستعجالية وما إلى ذلك من تسميات لن تغير من الواقع شيئا لا بد من حصر الإمكانيات الاقتصادية للبلاد لتكييف المنظومة التربوية أو التعليمية وفق المنظومة الاقتصادية حتى لا يكون التعليم مجرد هدر للإمكانيات البشرية والمالية والمعنوية بما فيها إمكانيات الوقت التي لا تقدر بثمن. فلو أننا مثلا رفعنا من سقف الخبرة العلمية عندنا فصرنا نخرج مهندسين في الطاقة النووية ونحن لا نملك مشروعا نوويا لكنا من العابثين. فالإمكانيات الاقتصادية هي التي تتحكم في خيارات نوعية التعليم الذي يليق بنا. فإذا كان بلدنا له إمكانيات فلاحية وزراعية ورعوية وسياحية فالأجدر بمنظومتنا التعليمية أن تتركز حول التعليم الزراعي والفلاحي والرعوي والسياحي عوض أشكال التعليم العام الذي لا يساير الوضعية الاقتصادية .
فأشكال التعليم الحالية التي تصرف من أجلها الأموال ويهدر من أجلها الوقت الثمين هي أشكال تساير وضعية مجتمع يعتبر التعليم بالنسبة إليه نافلة ومواطنوه في غنى عن الشغل والكسب ولقمة العيش ، وهو تعليم مجتمع مترف ذلك أن نسبة التخصصات الأدبية في كل أسلاك التعليم تفوق التخصصات العلمية والتقنية والمهنية ، والواقع أن نسبة التخصصات الأدبية ليست خيارات يتحكم فيها بل هي واقع تفرضه طبيعة التحصيل المتدني الذي يجعل نوع التعليم المتاح للأغلبية الساحقة المتراخية في التحصيل هو تعليم التخصصات الأدبية ذات النتائج المتدنية ، و التي لا علاقة لها بأسواق الشغل ولا بهاجس لقمة العيش.
لقد تحدث بعض المستجوبين في قناة الجزيرة عن تقادم خبرة حاملي الشهادات مقابل متطلبات سوق الشغل ، وكأن الذين خبراتهم حديثة في حال أفضل من غيرهم ، والواقع أن من يخضع لفترات تعليم لا يعرف مسبقا أن مصيره سيؤول إلى وضعية تقادم خبرته أمام متطلبات سوق الشغل لأن ذلك من اختصاص المسؤولين عن التخطيط في البلاد. ولا يمكن بحال من الأحوال أن نحمل المسؤولية لمن قضى سنوات في التعليم العام بكل أسلاكه إذا كان التعليم لم يضع في حسبانه ووفق إحصائيات وتوقعات علمية دقيقة حاجيات المجتمع من الخبرة والكفاءة العلمية المناسبة .
سيبقى الخبط خبط عشواء بالنسبة لمشاريع إصلاح المنظومة التربوية التعليمية ما لم نكن صرحاء مع أنفسنا ونضع نصب أعيينا إمكانياتنا الاقتصادية ليكون التعليم والتكوين على قد ومقاس الوضعية الاقتصادية، ورحم الله من عرف قدره وجلس دونه.
Aucun commentaire