أول لبنة في إصلاح المنظومة التربوية تخليق فعالياتها
لم يثبت عبر تاريخ الحركات الإصلاحية أن قابل الناس المصلحين بالورود بل دأب المصلحون في كل عصر ومصر على وجود المقاومة العنيفة من الجهات الفاسدة التي يستهدفها الإصلاح، وعلى رأس المصلحين أنبياء الله عز وجل ورسله صلوات الله وسلامه عليهم ، الذين كذبوا وسفهوا وواجهوا من سفلة الناس وسفهائهم كل التهم التي لا تليق بأقدارهم العظيمة . وعلى دربهم سار المصلحون في كل ميادين الحياة يواجهون المتاعب قبل أن يصل إصلاحهم إلى ما فسد من أحوال الناس.
وليس من الغريب أن يتهم الإصلاح من طرف الفساد ، ولا من الغريب أن يدعي الفساد الصلاح وفق معاييره الضالة المضلة ، ولا من الغريب أن يلجأ الفساد إلى تكثير عدد الأنصار من أجل توفير بطانة تحميه من الإصلاح. ولقد كانت دائما دعوات المصلحين تبدأ بقلة تواجه الكثرة الكاثرة ، ولم تغن كثرة الفساد عنه شيئا أمام الإصلاح ، ولا ضرت القلة الإصلاح وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل : [ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ] والفساد يوفر دائما المناخ للخبيث ، والطيبوبة لا علاقة لها بالكثرة .
لقد جربت بلادنا مجموعة من الإصلاحات في ميدان التربية الذي هو أهم ميادين الاستثمار من أجل كسب رهان التنمية والخروج من دائرة التخلف ، ولكن محاولات الإصلاح كانت دائما تصل إلى الطريق المسدود.
ودون الدخول في أسباب فشل محاولات الإصلاح ، وفي تحميل المسؤولية لجهات بعينها في هذا الفشل أؤكد أن محاولات الإصلاح لا زالت تواجه كثرة الفساد الكاثرة.
ومن المعلوم في حالات النجاح دائما أن يتهافت من يهمهم الأمر على التسابق للانتساب إليه بشكل أو بآخر ، فإذا ما تعلق الأمر بفشل تبرأ الجميع منه وصدق الله العظيم إذ يقول : [ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ] . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول العلماء. فبمجرد الإعلان عن فشل إصلاح المنظومة التربوية سارع الجميع للتنكر للخسارة بما فيهم الجهة الرسمية المسؤولة أدبيا عن المنظومة. ولو قدر لهذا الإصلاح أن ينجح لسارع كل من هب ودب لنسبته لنفسه.
والجهة المسؤولة لم تعبر ولو بعبارة واحدة عن تحمل مسؤولية الفشل بل واصلت التمويه على فشلها بعرض بضاعة إصلاحية جديدة ، وتضمن العرض التلميح أو حتى التصريح بإلقاء اللوم على بعض أطراف القضية مما يوحي بأن مسؤولية فشل إصلاح المنظومة حسب الجهة المسؤولة رسميا يختزل في أطراف دون غيرها ، والواقع أن حال المنظومة كحال سفينة تمخر عباب البحر وأصابها الغرق فلا يمكن أن يتبرأ ركابها من مسؤولية غرقها مهما كان الفاعل إذ لو كانت كل العيون حارسة أمينة عليها لما وقعت الكارثة.
والذي جعل قناعتي تزداد في كون إصلاح المنظومة التربوية عندنا رهين بتخليق أطرافها المختلفة من أبسط مسؤول يقتصر عمله على مجرد فتح بوابة أو حراستها في مؤسسة من المؤسسات التربوية إلى أكبر مسؤول يقوم عمله على اتخاذ القرارات الهامة هو مثال السفينة الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا لأمته من أجل تنبيهها إلى أن المصير المشترك بين أية مجموعة مهما كانت يجعل مسؤوليتها مشتركة في نهاية المطاف .وما خرق السفينة إلا فساد ولكنه يتمثل للخارق في صورة صلاح لا يعدو مجرد جلب الماء في نظره و الذي تعذر جلبه بالطريقة الضامنة لسلامة السفينة برمتها . فكذلك حصل لمنظومتنا التربوية الغارقة إذ هم بإغراقها من توهموا أنهم يحسنون صنعا ، وساعدهم على ذلك كثرة الساكتين المتفرجين ، أو المتربصين للشماتة بحصول الفشل لأنهم يضعون أنفسهم دائما حسب اعتقادهم خارج المسؤولية عن الفشل.
وإن المتتبع لآراء بعض المنتمين للحقل التربوي ليعجب لضيق آفاقهم في الحكم على فشل إصلاح المنظومة التربوية من خلال محاولة نسبة الفشل لجهة معينة عن سبق إصرار وقصد وترصد، والتسويق والترويج لذلك في كل مناسبة تعن لهم. والحقيقة أن فشل أو نجاح المنظومة التربوية يمس الجميع ، ويتحمل مسؤوليته الجميع بنسب ليس من السهل تقنينها ولكن ليس من المعقول نفيها هنا وإثباتها هنالك.
فالذين يحاولون استثناء شريحة من شرائح المنظومة التربوية من تحمل مسؤولية فشلها في حين ينحون باللائمة على غيرها من الشرائح يعرضون أنفسهم للسخرية، لأنهم يتنكبون سبل الموضوعية بدافع العاطفة المندفعة المتحيزة للانتماء لشريحة بعينها .
فالصالح والطالح موجود في كل الشرائح ، ولا يعقل أن تزكى شريحة برمتها ولا أن تتهم شريحة بقضها وقضيضها ، وإنما الحكم المتزن المعقول هو إدانة انعدام التخليق في كل الشرائح. ففي شريحة أصحاب القرار مركزيا أوجهويا أوإقليميا يوجد الصالح الناصح الصادق ويوجد الطالح المفسد الذي يهدم ولا يبني بقراراته غير الصائبة وتدبيره الأهوج . وكل هم غير المخلقين من هؤلاء تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح الشخصية قبل أن يتم تسريحهم خزايا وقد حازوا لعنة اللاعنين .وإنهم ليتلبسون بالصلاح إدعاء، وهم يفسدون وعليهم يصدق قول الله عز وجل : [ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ] أجل عندما ينعدم الضمير ينعدم الشعور وصدق الله العظيم في وصف المفسدين. وفي باقي الشرائح المختلفة حسب مهامها المفسد والمصلح كذلك ، وكل هم المفسدين التمويه على فسادهم من خلال بهرجته بلبوس الإصلاح وهو محض تزييف. والمؤسف حقا أن يصير الفساد عقيدة تتحصن بالحق الذي يراد به الباطل فتركب القوانين ركوبا غير مشروع بحثا عن الشرعية والمشروعية في خضم فساد رائحته الكريهة تزكم الأنوف. مؤسف حقا أن يستغل القانون الذي يحمي شريحة من الشرائح في حال معينة ، فإذا ببعض الجهات تستغله في غيرها من الأحوال. فالتنظيمات النقابية على سبيل الذكر لا الحصر وجدت لحماية الشغيلة المعرضة للعسف فإذا بها تتحول إلى تنظيمات للولاءات الحزبوية تحتضن المقصرين في أعمالهم وواجباتهم ، وتوفر لهم الحماية ضد الإجراءات القانونية ، وتتحول إلى أوكار للفساد والإفساد عندما تصير أدوات في أيدي الأحزاب تستغل لاستقطاب الأتباع من أجل استعراض العضلات استعدادا للاستحقاقات الانتخابية بأصوات المقصرين في الواجبات الذين عقدوا الصفقات مع هذه التنظيمات النقابية من أجل المصالح الخاصة المتبادلة على حساب المصلحة العامة.
ليس كل المراقبين التربويين أصحاب نزاهة ،وأصحاب ضمائر حية يجعلون المصلحة العامة فوق مصالحهم ولا كل المدرسين ملائكة لا يخطئون ، وإنما الصالح والطالح هنا وهناك كما قال الأستاذ الطيب زايد مشكورا في تعليق له على مقال لي .والمشكل يكمن في تحديد وتوحيد معايير حدود الصلاح والفساد. فقد يبهرج الفساد ويمرر عبر القنوات القانونية من قبيل التنظيمات النقابية أو غيرها من الإجراءات الصحيحة والحقة التي يراد بها الباطل ، ويقدم هذا الفساد للرأي العامة تضليلا وتزويرا على أنه قضية عادلة ، والحال أن المفسد لا حياء له ولا شعور له كما وصفه رب العزة.
والمؤسف أن يعرف البعض تهافت مقولات المفسدين وتبريراتهم الواهية ، ولكنهم يساقون سوق النعم وراءهم بسبب منطق الكثرة وفكرة التزام الجماعة بوجه حق وبدون وجة حق ، الحقيقة أن منطق الكثرة لا يمكن أن يكون معيارا للحق أوالصواب.
والأشد أسفا أن ينساق المسؤولون وراء هذه المقولات المتهافتة والتبريرات الواهية ويتلكئون في اتخاذ الإجراءات المطلوبة قانونا ضد الاختلالات المهنية لأن التنظيمات النقابية تحولت إلى جماعات ضغط تهددهم بعدما وضعت أصابعها على مواطن الداء فيهم وسوء التدبير عند هم ونقط ضعفهم . فالمسؤول النزيه وصاحب العين اليقظة دائما لا ينتظر تحركات التنظيمات النقابية في شكل تظلمات ليتحرك وإنما يتحرك بمجرد وقوع الخلل في دائرة مسؤوليته.
إن إصلاح المنظومة لن يكون بدون تخليق مختلف فعالياتها، وطالما لم تتوفر الأصوات المنادية بالفساد المعترفة به داخل شرائح أسرة التربية نفسها دون تردد فإن التخليق يكون بعيدا، والإصلاح يكون أبعد منه.
Aucun commentaire