حديث الجمعة : (( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلا ))

حديث الجمعة : (( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلا ))
محمد شركي
من المعلوم أن الله عز وجل قد تعبّد عباده المؤمنين في شهر الصيام بالقيام في لياليه بالقرآن الكريم تلاوة، واستماعا ،وإنصاتا ،وتدبرا، واعتبارا ، وتدارسا ، وتخلقا من أجل انضباطهم لما أمرهم به، واجتنابهم لما نهاهم عنه، وهو ما به تتحقق استقامتهم على صراطه المستقيم ، فيحيون حياة طيبة في عاجلهم ،ويفوزون بجزاء الجنة في آجلهم .
وشهر رمضان هو أهم فرصة تسنح للمؤمنين لمعاشرة القرآن الكريم في ليال معدودات ، يستعرضونه من أول سورة فيه إلى آخرها منجما كما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،وقد أمره ربه سبحانه وتعالى أن يبلغه للناس وأن يقرأه عليهم كلما أنزل منه عبر سنوات البعثة النبوية الشريفة، وقد بيّن له ربه مواضع الآيات من السور مرتبة إلى أن اكتمل . ولقد سمى الله تعالى كلامه الكريم تنزيلا لأنه ينزل من عنده ، وسماه قرآنا لأنه يقرأ ويتلى ، وسماه كتابا لأنه يرسم ، ويجمع ، وسماه ذكرا لأنه يذّكر الخلق ، وسماه فرقانا لأنه مفصل ، ولأنه يفرق بين الحق والباطل .
ومن أوامر الله تعالى لنبيه بخصوص تبليغ كلامه للناس مع كيفية التبليغ قوله عز من قائل : (( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلا )) ، ففي هذه الآية السادسة بعد المائة من سورة الإسراء توجد إشارة إلى أن حكمة الله عز وجل اقتضت أن ينزّل كلامه على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منجمة أو مفرقة آياته مع التنويه بالقصد من تفريقها، وهو تمكينه عليه الصلاة والسلام من قراءتها على الناس على مكث أو مهل أوبطء كي تُأخذ عنه كما أنزلت ، وكما بيّنها لهم حتى تثبت في نفوسهم ألفاظُها ومعانيها ومقاصدُها ، ويتمكنوا من العمل بما فيها من أوامر ، وينتهوا كما نهوا عنه من نواه . ولقد أكد الله تعالى في هذه الآية الكريمة تنزيل القرآن الكريم بفعل يفيد التكثير ( نزّلناه )، وبمفعول مطلق ( تنزيلا ) أكده ، وفي ذلك بيان لقوله : ( فرقناه ) .
ومعلوم أن أمر الله تعالى رسوله الكريم بقراءة القرآن على الناس على مكث إنما هو أمر لعباده المؤمنين أيضا ، لهذا تعبّدهم بقيام ليالي رمضان بقراءته بنفس الطريقة أو الوتيرة حتى يُدرك القصد منه فهما، واستيعابا، وتدبرا ،واعتبارا ، وتخلقا ، وذلك من أجل حياة طيبة في العاجل ، ونعيم مقيم في الآجل .
ومعلوم أيضا أن قول الله عز وجل في هذه الآية الكريمة قد وضع ضابطا لقراءة القرآن الكريم سواء كان ذلك في صلاة القيام خلال ليالي رمضان أو في الصلوات المكتوبة أو في النوافل أو في تلاوة التبرك ، وهذا الضابط هو إنما هو المكث أوالمهل أو البطء إذ به يتحقق القصد الذي هو الاستيعاب والفهم الجيدان كي يكون التخلّق جيدا أيضا .
ولقد اجتهد علماء السلف في وضع ضوابط لقراءة القرآن الكريم نقلا عن الصحابة القراء رضوان الله عليهم أجمعين استجابة لأمر الله تعالى بتحقيق قراءة المكث على الوجه المطلوب .
ويجدر بكل من يتلقى القرآن الكريم على مكث في صلاة القيام خلال شهر رمضان أن يتحقق لديه القصد من ذلك، بحيث تستوقفه ألفاظ آياته ، ومعانيها فيراكم التعرف عليها ليلة بعد أخرى كي يعلم منها ما لم يكن يعلمه من قبل أو يعزز ما علمه منها من قبل ،وإنه ليجد في كتب التفاسير ضالته، وما عليه إلا أن يكون ذا همة ليحصّل الخير الكثير ، و يدرك غاية التخلق بالذكر الحكيم .
ومن أثر قراءة المكث في النفوس أنها تساعد على الخشوع المطلوب في تلقي كلام الله عز وجل ، وأنها تساعد على زيادة الإيمان ، وتقويته في القلوب ، كما أنها ترسخ في الأذهان آيات الحكمة ، فتظل جارية على الألسنة ملازمة لها.
ولقد كان السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومن جاء بعدهم من التابعين، ومن تلاهم من أهل الصلاح في كل ما مر من الزمن، يعرضون أنفسهم وأحولهم على آيات الذكر الحكيم لتسديدها وفق ما تنص عليه من توجيهات ربانية ، وكانوا بذلك ربانيين ، وهم قدوة عموم المسلمين إلى يوم الدين كي تتوالى الأجيال عبر العصور إلى قيام الساعة ، وهي على نفس النهج بلا تبديل ولا تغيير .
ولما كان خطاب الله تعالى متضمنا لهديه وهو يتلى على مكث ، فإن من يتلى عليهم في مثل هذا الشهر الفضيل ، وفي سائر الشهور يكون بالنسبة إليهم مقياسا ربانيا يعرضون عليه أنفسهم وأحوالهم ويقيسونها عليه من أجل أن يحصل لهم تطابق بين خطابه سبحانه وتعالى وبين أحوالهم ،علما بأن هذا التطابق هو ما تتحقق به الحياة الطيبة في العاجل ، و ينال النعيم المقيم في الآجل . ولقد حذر الله تعالى من اختلال ذلك التطابق حيث قال : (( ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى )) ، كما قال : (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه )) ، ففي هذه الآية الكريمة يُحمِّل الله تعالى مسؤولية الانسلاخ من آياته ،والوقوع في الغواية للإنسان مع أنه قد يسَّر له الارتقاء بالذكر الحكيم عوض الخلود إلى الأرض .
وفي المقابل ، ومع تحقق التطابق يبشر الله تعالى عباده المؤمنين بقوله جل وعلا : (( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ))، ولا بتحقق العمل الصالح إلا بالتخلق بما تضمنه خطاب الله عز وجل، فهذه هي ثمرة التطابق بين مضامين الخطاب الإلهي وبين أحوال عباده المؤمنين .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تذكير المؤمنين بما يجب عليهم من مرافقة أو مصاحبة للقرآن الكريم في ليالي رمضان المعظم مرافقة ومصاحبة تراعي ما اشترطه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ،وعلى أمته المؤمنة إلى قيام الساعة من تلقيه على مكث يتحقق به التدبر لتحصيل التخلق . ومن رافق أو صاحب كلام الله عز وجل في ليالي رمضان ،ولم يتحقق تخلقه، فقد ضيع فرصة الحول الثمينة ، وربما يكون قد ضيع فرصة العمر إذا لم يبلغه الله تعالى رمضان المقبل .
ومن تخلق بالقرآن الكريم في رمضان، لزمه أن يظل محافظا على تخلقه طيلة أيام السنة، لأن الله تعالى ما أنعم علينا بفرصة مرافقة كلامه في رمضان إلا تكون لنا بمثابة دورة تكوينية لنظل بعد رمضان ملتزمين بهديه في باقي أيام السنة .
وذو الحظ العظيم منا هو من استوقفته آيات معينة خلال الدورة التكوينية ، ونبهته إلى تقصيره أو غفلته أو تنكبه الصراط المستقيم مع علمه بذلك، وربما مع إصراره . والسعيد منا من سعد بنعمة التخلق بالقرآن الكريم في قيام رمضان إيمانا واحتسابا ، والذي جعل الله تعالى جزاءه مغفرة ما تقدم من ذنب كما بشر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
اللهم إنا نسألك أن ترفعنا بآياتك ، ونعوذ بك أن ننسلخ منها ،ويتبعنا الشيطان ونكون من الغاوين ، ونخلد إلى الأرض وأنت تريد لنا رفعة. اللهم علمنا ما جهلنا من ذكرك ، وفقهنا فيما يدلنا على هديك ، واكتب لنا الحياة الطيبة في عاجلنا ، وأسكنا جنة في آجلنا.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
Aucun commentaire