في الطريق إلى واحات تافيلالت
قلم: إدريس الواغيش
منذُ صغري وأنا مُغرَمٌ بالتّرحال والتّجوال، ولا زلت مُدمنًا على السّياحة إلى اليوم. عندما كنت طفلا صغيرا تجاوزتُ حدود قريتي، ثم امتدّت قدَميّ ضدّ قوانين القبيلة وأعرافها إلى خارج الأطراف، ووصلت إلى قبائل مجاورة. كانت أمي خديجة رحمها الله تخاف عليّ من كثرة غياباتي عن البيت، وكان أبي عمر رحمه الله يتّهمني بالتّهوّر والجُنون و »قُسْحَان الرّاس ». في مراهقتي الأولى، جُلت في مناطق عديدة من المغرب، وحدث أن عُيّنت مُدَرّسًا في منطقة سوس بأعالي الأطلس الصغير، وهي منطقة أقرب إلى صحراء الجنوب، وهناك زاد ابتلائي بالسّياحة أكثر، ووجدت فيها ضالتي ومُرادي.
كنت أدرّس التلاميذ بالقسم أثناء العمل، وفي العُطل أتطاول على مهنة مُرشد سياحي، أفيدُ وأستفيد، وأُعَرّف السّياح بالهَوية الثقافية والتاريخية لبلادي. وكم سمعتُ مُغالطات كان يقدّمها المرشدون المُرافقون للسيّاح، وعرفت من كثرة ملازمتهم أنهم يعرفون اللغات، ويجهلون الكثير من المعلومات الصحيحة عن تاريخ بلدهم المغرب. هناك في مناطق سوس “الأقسى“، صاحبت سيّاحًا من دول أوروبية كثيرة مُرشدا دون مقابل، وكانوا يرتاحون إليّ أكثر، حين يعرفون بأنني أستاذا وليس مرشدا سياحيا، لأن رجل التعليم له رمزية خاصة في بلدانهم، عند الدولة والمجتمع.
كل رحلاتي الطويلة، وهي كثيرة ومتنوعة في طولها وقصرها، وعلى مدى أكثر من أربعين عاما، قمتُ بها وحدي مُنفردًا. ليس لأنني أحبُّ العُزلة، ولكن لأنني لا أريد أن أتقيّد بطباع أحَد، كأن أستفيق وأفطر باكرًا أو أتعشى وأنام متأخّرًا، لي خصوصياتي وفرادتي، وغيرُ مُنتظم في عاداتي وطباعي وطبيعتي. أجمع بين الطباع ونقائضها، بوهيميّ ميّالٌ إلى الحرية والتهوّر، حريصٌ في نفس الوقت على أدق التفاصيل والجُزئيات، ولذلك كنت أتصرّف في سفريّاتي، كما يحلو لي لا كما يتفق مع أهواء غيري، كأن أنام وأستفيق باكرًا، وأسهر أحيانا لما بعدَ الصّبح، وأستفيق متى شاءت ساعتي البيولوجية. أنام اليوم في رياض أو فندق فاخر، وفي الغد أقصدُ فندقا أو نُزلا متواضعًا، حسب ما يتوافق مع مزاجي، وما أتوفر عليه من إمكانيات مادية. كثيرا ما كنت أتناسى، ما قالته العربُ: “الرّفيق قبل الطريق“، ولكن حين اقترح عليّ الصديق إدريس إغيظ رحلة إلى صحراء المغرب الشرقي، لم أتردّد، لأنني كنت مُبرمجًا نفس الرّحلة منذ زمن قديم أوّلا، وأعمل في كل مرّة على تأجيلها لظروف تتباين في نزولها، وثانيا لأن الصديق إغيظ تجمعني به قواسم مشتركة، ولأنه كذلك من جيلي، ونحمل الكثير من الأفكار والهموم المتشابهة، وإن كانت بعض المتلازمات والخصوصيات الفردية تحضر دائمًا في هذه العلاقات الثنائية.
بداية الرحلة كانت من فاس، وفي إحدى مقاهي بولمان، تناولنا الفطور الأطلسي الأول. كم كنت سعيدا به، أحسست بالانتشاء كأنني أسافر للمرّة الأولى في حياتي، وأنا أضع قدميّ لأول مرة هناك، لأن سفرياتي الأطلسية كانت تمرّ دائمًا عبر إفران، إنها مُجرّد البداية في رحلة طويلة. وأنت في طريقك إلى ميدلت بعد بولمان، يظهر لك بياض جبل “العَيّاشي“ المَهيب في عُلوّه، وكأنه يقول: “بعيدٌ عنك، قريبٌ منك“. ولكن لا عَجَب، إنه سحرُ الأطلس المتوسط. ثم فجأة، يتراءى لنا دخّان يصّاعدُ إلى السّماء، قال لي إدريس مُرافقي: “إنه شُوَاءُ زَايْدَة“، وبعده وصلت دهشة البياض البعيد إلى ميدلت، ومنه إلى الرّيش. جولتان سريعتان في المدينتين الصغيرتين، وبعض نظرات خاطفة كانت كافية لأخذ لمحة سريعة عن طبيعة الناس في المدينة وأحوالهم، بعيدا عن أيّ سؤال، مع مُتنفس صغير وأخذ فنجان قهوة على السريع، والتقاط صور للذكرى، واستمر المَسير نحو الرّاشيدية.
منذ القديم وإلى وقت قريب، كنت أرى على الشاشة واليوتيوب، وأسمع كلاما عن محنة عبور المسافرين من “تيزي نتلغمت“ في المناسبات والأعياد، وما يخلفه من حوادث مُميتة، حتى ظننته غولا أو وحشًا خُرافيًّا قاتلا، ولكن حين مررت به في رحلتي الأخيرة، وقارنت الطريق القديم مع رأته عينيّ، قلت مع نفسي في صمت، حين يراودك الوسواس بأن المغاربة كُسالى نائمين، تذكر كيف كانت المُنعرَجات في المقطع الطرقي المُخيف “تيزي نتلغمت“ في الأمس القريب، وكيف أصبحت اليوم مطواعة تحت عجلات الشاحنات والحافلات والسيارات. تحوّلت المُنعرَجات القاتلة إلى طريق سريع ومُريح ومُمتع للنظر، شقته هِمَم الرّجال وسواعدهم، في التواءات صخرية جبلية عنيدة وجِدُّ وعرة، يتجاوز علوُّها الألفي متر. إنهم المغاربة ولا عجب، جادّون وأشدّاء، حين يُريدون.
بدءا من قرية “كرّاندو“ سيُصاحبنا وادي زيز، ما أن تبتعد عنه إلا لتقترب منه، وحين تتخطى القرية بكيلومترات قليلة وتترك خلفك تاريخ عدّي أوبيهي الغامض، ينجلي أمامك غار “زَعْبَل“ في شموخه. بابٌ صخريٌّ يفتح ذراعيه ويُحيّي العابرين من تحت صخرته، يُرحّب بهم في غدوهم ورَواحهم إلى مجاهل صحاري تافيلالت، وفتنة أشجار نخيل واحاتها. صخرة صمّاء عالية الهمّة، عملت فيها مَعاولُ المغاربة وفؤوسهم ثقبًا واسعًا. مرّت منه قوافل السودان وسجلماسة قديمًا، تحمل على جمالها وبغالها سِلعًا ومُؤنا نحو فاس، وها اليوم تمرُّ منه قوافل الحديد من حافلات وسيارات وشاحنات في الذهاب والإياب عبر حافّة وادي زيز مُحمّلة برُكّابها وبضائعها نحو واحات تافيلالت ومدنها في جنوب المغرب الشرقي.
الاستثمار السّياحي المُكثف في واحات تافيلالت، جعل كل واحة صغيرة أو كبيرة بها فندق أو رياض، ممّا جعل من الرّاشيدية عاصمة الجهة وأكبر مدنها أشبه بمدينة عُبور، وإن كانت لا تخلو من جمالية وأماكن سياحية. وبمجرّد أن تغادر الراشيدية وتودع وادي زيز، حتى تجده أمامك فجأة يُجاور شرفاء “مدغرَة“، ثم قصور أكبر واحة في المغرب والعالم: مدخل مسكي، الزّاولة، أولاد عيسى، القصر الجديد، قصر الكارة، أوفوس، الزّريكات، البلاغمة، الرّتب، عرب صبّاح، وُصولا إلى مدخل مدينة أرفود الوديعة بأبوابها الفريدة وأسوارها المُتميّزة في قدمها.
هناك، وأنت تعبرُ تجمّعات سكنية كبيرة، تكتشف أن واحات تافيلالت هِبَة وادي زيز، هو الرّئة التي يتنفس بها ساكنة كل القصور(الدّواوير) ومواشيها وطيورها، ومن دونه لا يمكنها أن تستمر في العيش. زيز وادي طويل جدّا، يُصاحبك من أعالي مدينة الريش ومركز سيدي حمزة في عمق الأطلس المتوسط إلى أن يتلاشى نهائيا في الصحراء المغربية. وما أن تغادره عبر قنطرة صغيرة أو كبيرة، حتى تعود إليه أو يعود إليك ثانية في قنطرة أخرى. أوفوس أشهر واحات تافيلالت، وربما أكبرها وأطولها. العرب يجاورون الأمازيغ في واحات تافيلالت، ولم يثبت أنهم اختلفوا في حُسن الجوار.
وادي زيز يُوَحّدهم في اهتماماتهم، وهوى تمور النّخيل يجمعهم. ومن غريب المفارقات وعجائب الصدف، أن وجدنا على طول الواحة آثار نار وحريق قديم، وبقايا طمي وعلامات تركها فيضان حديث. هو وادي زيز، يجرَحُ عندما يجفّ ماؤُه، ويُداوي عندما يصحَبُ معه مياها وتساقطات مطرية يروي بها أشجار نخيل الواحات، ويجرّ إليها مياه ينابيع الأطلس المتوسط والكبير وذوبان ثلوج فيها، يصحبها لمسافات طويلة من قمم جبال الأطلس المتوسط الجنوبي والكبير الشرقي، وما يجرفه من طمي الجبال إلى صحراء تافيلالت وواحاتها ليعم الخير فيها. غابات نخيل كثيفة تثيرُ دهشة الزّائرين، وانبهار سيّاح الداخل والخارج. يقف الجميع متأبّطا كاميراته أو يوجّه عدسات هواتفه الذكية، لأخذ صورة كل ما هو جميل في الواحة من أشجار ونخيل، وما تحتويه القصور من هندسة فريدة في البناء، البيوت والدور والأسوار الصحراوية، كل شيء تراه العين يُغري عدسات الكاميرات بالتصوير على طول الوادي الأخضر، في وسط صفرة كثبان صحراوية قاحلة.
قرى كبيرة تصادفها على جنبات الطريق العابر من الواحة، هي أقرب إلى مدن صغيرة، تجد فيها وكالات بنك وبريد، وما يلزم الحياة العصرية من مصالح إدارية وتجارية. إنها واحات تافيلالت التي تلازم طريقك حتى أرفود، ثم مرزوكة والريصاني، ومنها تنعطف يمينا إلى مركز أنيف، ثم تنغير وزاكورة، أو تقفل راجعًا من الرّيصاني إلى الراشيدية عاصمة الجهة.
لا شيء يشفي النفوس أكثر من السياحة، ولذلك قال المُتصوّفة قديمًا، وهم على حق في قولهم:
“سيحُوا، تستريحُوا“، لأن السّفر في الطبيعة راحة، هو وحده القادر على تخليصك من القلق، ومن روتين الحياة اليومية.
قبل الوصول إلى صفرة الكثبان الرّملية في مرزوكة، كان لا بدّ لنا من التوقف في أرفود. أخذنا برّاد شاي صحراوي أصيل، ثم قمنا بجولة قصيرة في بعض شوارعها، التقطنا أنفاسنا وأخذنا بعض الصّوَر للذكرى. بعد أرفود اتجهنا رأسًا إلى مركز مَرزُوكة، قرية صغيرة فنادقها ورياضاتها أكثر من دورها ومصالحها الإدارية. في الطريق إلى كثبان رمالها البعيدة بكيلومترات قليلة عن المركز، كان لا بد من زيارة دوار “الخَمْلية“، قرية صغيرة جدًّا تقع على حافة الكثبان الرّملية بالقرب من الحدود الجزائرية. قرية لها امتداد تاريخي يصل إلى السودان، وهو ما يظهر في سُمرتهم الخفيفة، وموسيقاهم “الكناوية“ الأصيلة. عندما نذكر علاقة المغرب بالسودان، نستحضر بالضرورة فترة ذهبية من تاريخ المغرب المشرق، في اشتباك علاقته التجارية والإنسانية مع عُمقه الإفريقي. كنا نصدّر لهم ونستورد عدة مواد من دول: مالي، النيجر، غينيا، كينيا، السنغال والسودان. وكان بيع وشراء العبيد، جزء لا يتجزأ من تلك التجارة النشيطة.
في واحة “خملية“ الهادئة، استمتعنا بطقوس فُرجَوية موسيقية كناوية مُختلفة، جلست وصديقي إدريس مع فوج إسكندنافي من السيّاح، سمعنا إيقاعًا “كناويًّا“ رفيعًا، ومُختلفا عمّا تعوّدت آذاننا على سماعه في مراكش والصويرة، وفي دورب فاس ومكناس وأزقتها العتيقة. استفسرت أحد الشبّان المكلفين بالتواصل مع الزوّار عن نوع الإيقاع الكناوي “الخَملي“، وعن هويتهم وأصولهم. قال لي أن “موسيقى كناوَة الخَملية مُختلفة عن نظيراتها، ولها فرادتها وخصوصيتها“، وأنّ “أصلنا يرجع إلى السودان. حافظنا على نقاء تراثنا وموسيقانا وإيقاعاتنا، وبقيت كما ورثناها عن أجدادنا، بعيدًا عن أيّ طقوس غريبة أو دخيلة…“.
ومن واحة “خملية“، انطلقنا نحو رمال مرزُوكة، وقد امتلأت قلوبنا بالرّوحانيات. ولكن قبل ذلك، أخذنا طريقا إلى منجم قديم، كان الفرنسيون في عهد الحماية يستخرجون منه بعض المعادن، مثل: الرّصاص، الكُحل وغيرها. وفي ربوة عالية، جلسنا نسترجع أنفاسنا وننظر إلى الأخاديد المحفورة على مسافة ليست بالقصيرة، ونتمعن بقايا بنايات استعملها المُحتل الفرنسي في التخزين والتنقية والتّعدين. قال لنا “حَمّو“ مُرافقنا الأمازيغي الطيب، وسائق سيارة “تويوتا“ رباعية الدفع، اكتريناها منه في المركز، إذ من دونها لا يمكن التحرك في رمال صفراء متحركة:
– “هذا هو دوار مرزُوكة الأصلي، وتلك خيام السكان الرّحالة، وما يظهر لنا هناك في الأفق، هو الحُدود مع الجزائر…“
مرَرنا بمَساكن طينية وإسمنتية يستعملها جنود وضباط مغاربة، وأثناء العبور من طريق رملي، سرد علينا حكايات غريبة عن مواطنين مغاربة كانوا يبحثون عن الكمأة « التّرفاس »، تاهوا في الصحراء وتجاوزوا الحدود، فاعتقلهم الجنود الجزائريون، وعاملوهم الجزائريون بقسوة وعنف. وفي المقابل، تعامل الجنود المغاربة برقة وإنسانية مع مواطنين جزائريين دخلوا عن طريق الخطأ إلى المغرب، وأعادوهم إلى ديارهم. شربنا الشاي مع الرُّحل في الخيم، وشاركناهم للحظات بعض مُعاناتهم، ثم واصلنا الطريق إلى المُخيّم تحت سفح “جبل“ رملي أصفر، يميل إلى الحُمرة كلما اقترب قرص الشمس من المَغيب.
ارتبطت صفرة رمال مرزوكة عند عامة المغاربة بالتخلص من آلام البرد المُزمن والتهاب المفاصل، أو ما يعرف عادة بالرّوماتيزم. وتُعرَف رمال مرزوكة عند العرب والعجم معًا بفوائدها العلاجية، ولذلك يمارسون فيها “الدّفن في الرّمال” كعلاج طبيعي لأمراض الروماتيزم وآلام المفاصل. ويعتقد الكثيرون أن الحرارة الناتجة عن الرمال تساعد في التخفيف من الألم، إن لم تُزله بشكل نهائي. ولكن أن تقضي ليلة من ليالي شهر يناير في المُخيّم تحت خيمة وأنت مُحاط بالرّمال الباردة، هو الرّوماتيزم بذاته. بردٌ ما بعد منتصف الليل لا يُحتمل، ولا تقاومه أغطية. ولذلك، تقل السياحة بمرزوكة في فصل الشتاء وشهري دجنبر ويناير، إلا من سيّاح أجانب وقلة من المغاربة.
تعوّدتُ على رُؤية الجمال، وتقربت منها في “سوق الجِمَال“ بكلميم. ولكن حين امتطيت ظهر الجَمل أوّل مرّة، وتنقلت على ظهره بين كثبان رمال مرزوكة ذات الجَمال الرّباني الأخّاذ، رجعت بي الذاكرة إلى هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، واستحضرت لقطات من فيلم “الرّسَالة“، هو الذي استخدم فيه مصطفى العقاد عبقرية الفنية، وأبدع فيه مُمثلون ونجوم زمانهم في المسرح والسينما، من أمثال: عبد الله غيث، محمد أنور الجندي، مُنى واصف، سناء جميل، محمود السّباع، محمد وفيق، الطيّب الصدّيقي وآخرون. إنها رحلة طويلة في عُمق الصحراء بكل جبروتها حقا وحقيقة، كانت الرّحلة شاقة ومتعبة، ولكنها جميلة ورائعة. كانت تجربة فريدة تدعو إلى إعادتها لو لزم الأمر ثانية وثالثة ورابعة.
عندما انتهينا من مُلاحقة قرص الشمس في الغُروب، وتتبّعنا كل تفاصيله من فوق كثبان مرزوكة الرّملية. حلّ بيننا ليل الصحراء ضيفا ثقيلا، برد قارس لم نعتد عليه في بوادينا ولا في مُدننا. ليلٌ باردٌ جدّا لا حراك فيه، ولا أثر لنُباح كلاب أو مُواء قطط. لم تعد الخيمة التي تأوينا قادرة على حماية أجسادنا المرتعشة من جبروت البرد، ولا الفراش الذي نتغطى به قادر على أن يُدفئ أجسادنا، أما الحمّام والدّوش فكانا دودة زائدة في فضاء الخيمة الداخلي. من يجرُؤ على أخذ حمّام في درجة حرارة تقل عن الصفر؟ تذكرت مأساة أطفال المُخيّمات في سوريا وغزّة تحت الخِيَم، افتكرت العائلات التي لازالت تسكن تحت الخيام في جهة الحوز بعد الزلزال. عرفت ما معنى أن تقضي ليلة تحت الخيمة في الصحراء، فما بالك بالجبال وتحت الثلوج والأمطار.
عشتُ الصباح لأول مرة بشكله المُختلف، راقبت طلوع الشمس مسترخية بعد غياب قسري في غياهب ليل صحراويّ طويل. كان السياح مُتحمّسون جدّا لمُمارسة طقوسهم في يوم جديد، أما أنا، فقد كنت أفكر في الرّحيل المُبكّر. تركت ورائي خيامًا بيضاء منصوبة، ذكرتني بملامح الحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي: مساكن قريش وخيامهم في بادية شبه الجزير العربية، مصادر المياه، عشب رعي الماشية، الاكتفاء بالتمر والحليب، بعيدا عن أي ترف. كانت جِمَالٌ تطوف الكثبان الرملية بركابها أو جاثمة تنتظر من يركبها. أينما وليت وجهك ثمة صفرة لا تنتهي، وجَمَالٌ ربّانيٌّ أخّاذٌ يمتدُّ على مدّ البصر.
من مرزوكة توجهنا إلى الريصاني، الدخول إلى المدينة زائرًا أو سائحًا، يدفعك إلى استحضار تاريخ سجلماسة، والقيام بزيارة ضريح مولاي علي الشريف مُؤسّس الدولة العلوية. في بوابة الضريح أو بداخله، تلتقي حتمًا بسياح مغاربة وأجانب. في بوابة مدفن مولاي علي الشريف، وجدنا لافتة تنبّه إلى تجنب التصوير وعدم استعمال الكاميرات، ولكن حين سألت المشرف على الضريح، قال لي:
– “التصوير في الضريح مسموح، ولكن لا يمكن أخذ “سيلفي“ في مدافن القبور، أما دون ذلك، لك مطلق الحرية في أخذ ما تشاء من الصور…“
وبما أنني من عشاق طرح الأسئلة، سألت عن هويّته، وعن تاريخ مولاي علي الشريف. عرفت منه أن القبر الأكبر المُغطى بالثوب الأخضر، يضم رفات مولاي علي الشريف المؤسس، وسألته عن دفناء القبور الصغيرة المركونة إلى جانب قبره في الضريح. بدأ يقدّم لي شروحات مقتضبة عن وصوله إلى المغرب، وكيف كانت بداية تأسيس الدولة العلوية. أعطاني عدة معلومات عامة بسرعة، تعوّد على تقديمها للسائلين، فقال:
-“ القبر الكبير يعود لمولاي علي الشريف، وهو الجدّ الخامس عشر للملك محمد السادس نصره الله، وإلى جانبه مولاي يوسف، ومنه تفرّع الملوك العلويون، وهناك في الركن الأقصى قبر مولاي محمد بن مولاي علي الشريف، ثم قبر مولاي رشيد(دفين سيدي حرازم) خليفة لأخيه مولاي الحسن الأول، وهناك قبر سيدي الحبيب بن زين العابدين بن مولاي اسماعيل المزدان بتافيلالت…“.
معلومات قد تكون صحيحة، وقد يحتاج بعضها إلى تدقيق تاريخي في المسار التاريخي لتأسيس الدولة العلوية ونشأتها. وقبل أن أطلب بركات المولى علي الشريف والتسليم لرجال البلاد، كما تعوّدنا على ذلك في ثقافتنا المغربية في مثل هذه المواقف، استوقفتني جمالية القبّة، فكان لا بد أن أسأله عنها ثانية، قبل أن تمتد رجلي اليمنى خارج الضريح. ردّ الشيخ على سؤالي باقتضاب شديد، ويقين بيّن:
– “عمر القبّة 260 سنة، بناها السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، مُؤسّس مدينة الجديدة، والصويرة حيث كانت عاصمته…“
لا يمكن أن تغادر الرّيصاني دون أن تشري تمورها المحلية، وهي المعروفة بجودتها العالية في المغرب وخارجه، مثل: “الفقّوس“ وكذلك “المَجهول“. وأنت تجول في فضاءات صحراوية جديدة، ينصحونك باقتناء ما يلزم من أعشاب محلية من حوانيت قيساريتها المعروفة بـ“السّوق“. وهناك سيقول لك أصحاب « المعقول »، بعيدا إتيكيت الماركتين المغشوش، أن بعض الأعشاب طبيعية محلية وأخرى مستوردة، وهي تدخل أساسًا في تحضير الشاي المغربي الأصيل، « اللي على حقّو وطريقو“.
عند خروجنا من مدينة الرّيصاني، وجدنا سائحًا هنغاريا شابًّا يقف في مفترق الطرق بين أرفود، الرّيصاني في اتجاه أنّيف. في أحاديثنا المتنوعة على طول الطريق، تناولنا فيها خصوصيات هنغاريا والمغرب، قال لنا أنه يمتهن العزف على آلة موسيقية تقليدية في شوارع هنغاريا. طلب منا أن نوصله إلى أنّيف، ففعلنا لظروف إنسانية ووطنية. الطريق كان طويلا وشبه مُستقيم بين أنّيف والرّيصاني، والطبيعة مُمتعة، تُغري بالتقاط المزيد من الصّوَر. جبال فريدة من نوعها كأنها مغروسة لتوّها، ومناظر تتراءى خضراء للناظرين، أقرب في منظرها إلى سهول السّافانا، وزاد من جماليتها التساقطات المطرية الأخيرة.
وما هي إلا ساعة، حتى كنا وسط تنغير. كان بيني وبين المدينة عشقٌ قديم، غرامٌ وملح، عشرة عمر وطعام، وما يناهزُ الأربعينَ عامًا من الفراق. أحببت فيها أناسًا غادرونا، وآخرون لازلت أحبّهم. كم سعدت، وأنا أحَيّن ذكرياتي فيها. تنغير، مدينة تمتد على سفوح الأطلس الكبير، مناظرها جميلة تستحق الزّيارة والمُغامرة. عدت ثانية إلى أحضان مضايق “تودغى“، وسرّتي أن أعانق نخيل واحاتها، وأستمتع بخرير مياه واديها.
عند الرجوع، وبعد استراحة قصيرة في ميدلت وأخرى في “تمحضيت“، عرجنا على بقايا بياض ثلج على جنبات الطريق في “ميشليفن“ باتجاه إفران، وجدنا جمالا طبيعيا دائم الاخضرار في غابات الأرز والبلوط بالأطلس المتوسط بين إفران وإيموزار كندر. مرّت الرحلة في عمومها كما كنّا نشتهي أن تكون، مُمتعة، شاقة وطويلة. ولكن تم تصريف كل العقبات التي واجهتنا بمنتهى اليُسر والسّهولة، والتفاهم والمسؤولية إلى حدود اختتام الرحلة. كل الأمور مرّت في أمن وأمان، وكما كان مُخططا لها، وأردنا أن تكون منذ الانطلاقة الأولى من فاس. شكرًا كثيرًا لله عزّ وجلّ، وحمدا لله على سلامتنا. وإلى لقاء قريب في رحلة أخرى مقبلة بحول الله تعالى وقوّته، لو كان في العُمر بقيّة.
Aucun commentaire