حتى لا نجهل فوق جهل الجاهلينا…!!
بقلم: إدريس الواغيش
كثر اللغط والكلام المباح في الأوساط الشعبية المغربية في الأيام الأخيرة، لدرجة أصبح معها الجميع محللا وفقيها سياسيا، واستمعت بإمعان وتمعن إلى فضفاضات ساقطة أحيانا لبعض الحناجر المبحوحة مدفوعة الأجر على بعض القنوات العربية الرسمية وغير الرسمية أو قنوات ناطقة بها بعد اعتراف الولايات الأمريكية بمغربية الصحراء في مقابل « التطبيع » مع دولة إسرائيل، وكأنهم كانوا ينتظرون ما حدث من تقاطعات دولية للكشف عن أنيابهم في أكثر الحالات بسوء نية لتصفية حسابا قديمة أو يثرثرون في أقل الحالات عن حسنها، وبالتالي بعدما كان الحديث منصبا قبل أسابيع قليلة على قفزة المغرب الصناعية، لينتقل بشكل فجائي إلى الحديث في الصحافة العربية والدولية عن حالة « التطبيع » الطارئة، وهذا دليل آخر على القيمة التي أصبح يحظى بها المغرب في الميزان الدولي كقوة إقليمية تسارع الخطى لتصبح في المستقبل القريب قوة ناعمة وفاعلة في محيطها الإقليمي والدولي، وذلك لعدة اعتبارات: أولاها ما يشهده المغرب من إقلاع اقتصادي نوعي وثانيها ما يتمتع به من موقع استراتيجي يُحسد عليه، خصوصا بعد أن عرف كيف يوظفه توظيفا جيدا في السنوات الأخيرة، بحيث أصبح لا غنى عن المغرب كمَمر لمنتجات تركيا أو غيرها من الدول الأوروبية أو طريق الحرير الصيني مستقبلا إلى غرب إفريقيا، وثالثها ما يتمتع به من علاقات دولية عرف كيف يحافظ على توازنها باحترافية سياسية بين الشرق والغرب، وعدم الارتماء كليا في أحضان أي قوة شرقية كانت أو غربية، رغم ما يبدو من ميل في ظاهر الأمر إلى الضفة الأخرى على المحيط الأطلسي، وهذا يرجع بالأساس إلى متانة علاقته التاريخية بالولايات المتحدة الأمريكية كقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية عظمى، وهذا أمر طبيعي بحكم أن المغرب كان أول دولة تعترف باستقلالها إبان حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله في 20 فبراير 1778 متحديا بذلك قوى استعمارية كبرى كانت تتحكم في رقاب عدد من الدول وشعوبها كفرنسا وإنجلترا، وهو ما يذكره كل الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين على البيت الأبيض بفخر في كل مناسبة انتخابية أو غيرها من باراك أوباما إلى دولاند ترامب وجو بايدن في خطاباتهما الأخيرة، وأيضا لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي من تدبّر مُجريات الأحداث في العالم بصفتها القوة العظمى، وإن كان اعتراف أمريكا اليوم بمغربية الصحراء ما هو إلا رد دين قديم للمغرب.
وقد لا حظنا أنه في هذه الحالة بالذات، اختلط على الناس الموقف الديني بالموقف الإيديولوجي المحض أو القومي العربي الصرف، ولم يعودوا يميزون بين كثير من الأمور تستغلها كل جهة حسب مزاجها وأهوائها ومصلحتها، مع العلم أن الجميع يعرف بأن المغرب وإن كان من أكثر الدول الإسلامية والعربية بُعدا عن فلسطين جغرافيا، إلا أنه كان دائما من أكثر الدول قربا إلى الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة من الجانب العاطفي والوجداني والعملي، لأن فلسطين وعاصمتها القدس كانت وستظل متجذرة في الوعي الجَمعي المغربي، بل أصبحت القضية الفلسطينية تنافس قضية الوحدة الترابية المغربية في بعض المحطات من حيث الأولوية، وهي كما نعلم من القضايا المقدسة عند كافة المغاربة، لذلك يبقى في كل الأحوال حصول تطبيع شعبي مغربي مع الكيان الصهيوني أمر مستبعد جدا، وذلك بعيدا عن أمزجة الساسة والسياسيين المتقلبة. وللتذكير هنا فقط، فقد سبق للمغرب أن فتح مكتب اتصال إسرائيلي في الرباط بقرار سيادي لم يستشر فيه أحدا، وحين أغلقه كان أيضا لدوافع موضوعية تتعلق أساسا بدعم الانتفاضة الفلسطينية، ولم ينتظر أيضا رأي أحد، لأنه في السياسة قد يصبح ممكن الحاضر من سابع المستحيلات في المستقبل.
لكن دعنا نصارح إخوتنا في المشرق العربي كما في مغربه قليلا من باب العتاب، ألم نكن في الصفوف الأمامية دفاعا عن العروبة وفلسطين منذ عهد صلاح الدين الأيوبي وإلى حدود نهاية القرن العشرين في حرب أكتوبر سنة 73، وأبلى الجنود المغاربة البلاء الحسن في الحرب كما في السلم وأبانوا عن شجاعة نادرة مع جمهورية مصر العربية في حربها مع الجيش الإسرائيلي، وفي الجولان والقنيطرة بسوريا دون أن تمُنّ المملكة المغربية بذلك على أشقائها، رغم أن حافظ الأسد دفع بالجنود المغاربة إلى المجزرة الإسرائيلية وكادوا يبادون لولا تدخل الغطاء الجوي العراقي. ثم ألم ندعم الثورة الجزائرية منذ اندلاعها مع الأمير عبد القادر، فآوينا ثوراها ورجالها وزعماءها التاريخيين الحقيقيين منهم والمنتسبين إليها زورا وبهتانا ودعّمناهم بالمال والسلاح، والنتيجة أننا طعنا في الظهر أكثر من هؤلاء الأشقاء في وحدتنا الترابية، بدءا من الراحل حافظ الأسد إلى جمال عبد الناصر وصولا إلى بوتفليقة وبومدين.
ولذلك لا يزايد علينا أحد في إسلامنا وعروبتنا ومبادئنا حتى لا نجهل فوق جهل الجاهلين، لكن دعنا قبل ذلك نكن صرحاء مع بعضنا ولو لمرة واحدة في العمر، ماذا قدمه الإخوة العرب للمغرب في محنته مع قضيته الوطنية الأولى ووحدته الترابية منذ المسيرة الخضراء سنة 75 وإلى اليوم، وماذا فعلوا لنا أو قدموه قبلها مع المحتلين الفرنسي في الوسط والإسباني في الشمال والجنوب؟، مع ذلك صبرنا كشعب مغربي أصيل، وقلنا نحن أشقاء ولا لوم على الأشقاء وإن طعنونا في الظهر خفية كما في الصدر جهارا نهارا. لكن اليوم يأتي علينا الصيادون في الماء العكر من سفهاء الداخل والخارج، ويقولون لنا بأن المغرب باع القضية الفلسطينية وخانها دون حشمة ولا تقديرا لتاريخ قريب أو بعيد، رغم أننا كنا ولا زلنا الأقرب إلى القضية الفلسطينية والقدس قلبا وقالبا أكثر من أي دولة عربية أو إسلامية، وإن كنا الأبعد عنها من حيث الجغرافية والمسافة.
ختما وختاما، المغرب انتقل إلى السرعة القصوى في توحيد شماله بصحرائه في جنوبه وطيّ ملف قضية الصحراء بشكل نهائي، وأي كلام آخر يبقى مجرد فضفة وهراء، واليهود كانوا وسيظلون مواطنين مغاربة لهم ما لنا وعليهم ما علينا في أرض تجمعنا، وقد كانوا دائما وأبدا موجودين بين ظهراننا ولديهم هنا ديار وعقار. وتبقى السياسة في الأول والأخير لعبة مصالح، أصبح المغرب يتقنها دون تفريط ولا إفراط في مبادئه، ولذلك نحن كشعب مغربي لن نفرط في حبة رمل من صحرائنا مهما كلفنا ذلك من ثمن، إذ لا توجد بيننا وفينا ومعنا أسرة أو عائلة لم تفقد شهيدا في رمال الصحراء المغربية، جدا كان أو أبا أو ابنا دفاعا عن مغربية هذه الصحراء، ومن يقول عكس ذلك أو أن الصحراء مجرد » كثبان من الرمال » عليه أن يعطي صحراءه لمن يشاء من المشائين، كما أننا بالقدر نفسه لن نفرط في فلسطين وفي عاصمتها القدس، لأنها تبقى أولا وأخيرا قضيتنا المقدسة وقبلتنا الثالثة، لأن قضية فلسطين هي بكل بساطة وبعيدا عن لعبة السياسة، من أكبر القضايا التي آمنا بقدسيتها حتى النخاع مثلما آمنا بقدسية قضيتنا الوطنية الأولى المتمثلة في وحدتنا الترابية من طنجة في الشمال إلى الكويرة في الجنوب.
Aucun commentaire